الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              جماع أبواب الصلاة والسلام عليه- صلى الله عليه وسلم- زاده الله فضلا وشرفا لديه

                                                                                                                                                                                                                              الباب الأول في فوائد تتعلق بالآية الكريمة

                                                                                                                                                                                                                              منها : أنه انعقد الإجماع على أن في هذه الآية من تعظيم الله تعالى للنبي- صلى الله عليه وسلم- والتنويه به ما ليس في غيرها» وهي مدنية ، والمقصود منها إخباره تعالى عباده بمنزلة نبيه- صلى الله عليه وسلم- عنده في الملأ الأعلى ، بأنه أثنى عليه عند الملائكة المقربين ، وأن الملائكة يصلون عليه ، ثم أمر أهل العالم السفلي بالصلاة عليه والتسليم ، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا ، وقال تعالى : يصلون - بصيغة المضارع الدالة على الدوام والاستمرار- ليدل على أنه- سبحانه وتعالى- وجميع الملائكة يصلون على نبينا- صلى الله عليه وسلم - دائما أبدا ، وغاية مطلوب الأولين والآخرين صلاة واحدة من الله تعالى ، وأنى لهم ذلك ؟ ! ومنها :

                                                                                                                                                                                                                              الكلام على اشتقاقها ومعناها لغة وشرعا ، وللصلاة في اللغة معنيان .

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما :

                                                                                                                                                                                                                              الدعاء والتبرك ، ومنه قوله تعالى : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم [التوبة 103] وقوله عز وجل : وصلوات الرسول [التوبة 99] وقوله تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [التوبة 84] .

                                                                                                                                                                                                                              ومنه الصلاة على الجنازة ، أي : الدعاء له ، وسمي الدعاء صلاة؛ لأن قصد الداعي جميع المقاصد الجميلة ، بحسب اختلاف السائلين .

                                                                                                                                                                                                                              والمعنى الثاني : العبادة ، ومنه

                                                                                                                                                                                                                              قوله عليه الصلاة والسلام : « إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان صائما فليصل » ، أي : فليدع بالبركة لهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : معناهما الدعاء ، وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية ، هل هي منقولة عن موضوعها في اللغة ؟ فتكون حقيقة شرعية ، لا مجازا شرعيا ، فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها لغة ، وهو الدعاء ، والدعاء دعاء عبادة ودعاء مسألة ، والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة ، فهو في صلاة حقيقية لا مجازا ولا منقولا ، لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة بسائر الألفاظ التي تخصها أهل اللغة والصرف ببعض مسمياتها كالدابة والرأس ، فهذا غايته تخصيص اللفظ وقصره على بعض [ ص: 410 ] موضوعه ، وهذا لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي ، وهو نوعان : دعاء عبادة ، ودعاء مسألة؛ فالعابد داع كالسائل ، وبهما فسر قوله تعالى : ادعوني أستجب لكم [غافر 60] فقيل : أطيعوني أثبكم .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : سلوني أعطكم .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القيم : والصواب أن الدعاء يعم النوعين أو غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              واعلم أن الصلاة يختلف حالها بحسب حال المصلي والمصلى له والمصلى عليه .

                                                                                                                                                                                                                              فأما بالنسبة إلى حال المصلي ، فقيل : إن معنى صلاة الله على نبيه صلاته عليه عند ملائكته ، وصلاة الملائكة عليه الدعاء له . رواه البخاري في أبي العالية .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : صلاة الرب الرحمة ، وصلاة الملائكة الاستغفار ، نقله الترمذي عن سفيان وغير واحد من أهل العلم ، ورجح القرافي أن الصلاة من الله المغفرة .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : صلاته تعالى : «سبوح قدوس رب الملائكة والروح» . رواه ابن أبي حاتم عن عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي الآية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الماوردي : هي من الله في أظهر الوجوه الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن المؤمنين الدعاء .

                                                                                                                                                                                                                              نقل عياض عن أبو بكر القشيري قال : الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- تشريف وزيادة تكرمة ، وعلى من دون النبي رحمة .

                                                                                                                                                                                                                              وأما صلاتنا فالمراد بها التعظيم بأسباب ما ينبغي له فضل الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              فمعنى قولنا : «اللهم صل على محمد ، اللهم أعطه في الدنيا بإعلاء ذكره ، وإظهار دينه ، وإبقاء شريعته ، وفي الآخرة تشفيعه في أمته وإجزال أجره ومثوبته ، وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود ، وتقديمه على كافة المقربين الشهود ، وهذا وإن كان واجبا علينا فهو ذو درجات ومراتب ، فإذا صلى عليه أحد من أمته واستجيب دعاؤه ، جاز أن يزاد النبي- صلى الله عليه وسلم- بذلك الدعاء في كل شيء مما سميناه ، ولما لم نملك إيصال ما يعظم به أمره ، ويعلو به قدره؛ لأن ذلك إنما هو بيد الله تعالى ، أمرنا أن نصلي عليه بأن ندعو الله تعالى له بذلك ، ونبتغي من الله تعالى إيصال ذلك إليه ، قضاء لحقه ، وتقربا إلى الله تعالى ، فقد أمرنا بالمكافأة لمن أحسن إلينا ، فإن عجزنا عنه ، كافأناه بالدعاء ، فأرشدنا تعالى لما علم عجزنا عن ذلك إلى الصلاة عليه ، ليكون مكافأة لإحسانه إلينا ، قاله ابن عبد السلام . [ ص: 411 ]

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن العربي : فائدة : الصلاة عليه ترجع إلى المصلي ، لدلالة ذلك على نصوح العقيدة وخلوص النية وإظهار المحبة ، والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة .

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي - رحمه الله تعالى- ما حاصله : أن الله تعالى أخبر أنه هو وملائكته يصلون عليه ، وكل واحد من المؤمنين وجب أن يصلي عليه ، فوجب على كل واحد أن يباشر الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- ، والصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد موته من هذا القبيل .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أيضا : صلاة الملائكة في ذلك الزمان وما تأخر جميعه محتمل لأمرين :

                                                                                                                                                                                                                              إما أن يكون على سبيل الأوجب ، بالنسبة إليه- صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                                                                                                                                                              وإما أن يكون على سبيل الأفضل ، بالنسبة إليه ، وهو الأقرب .

                                                                                                                                                                                                                              وعلى الاحتمالين فالخصوصية ثابتة .

                                                                                                                                                                                                                              إما على الأول فواضح .

                                                                                                                                                                                                                              وإما على الثاني ، فلأن الأفضل في حق غيره فعلها جملة ، وليست شرطا بلا خلاف .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن النعمان ، عن شيخه ابن عبد السلام ليست الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشفاعة منا ، فإن مثلنا لا يشفع لمثله ، لكن الله سبحانه وتعالى أمرنا بمكافأة من أنعم علينا وأحسن إلينا ، فإن عجزنا عن مكافأته دعونا له أن يكافئه عنا ، ولما عجزنا عن مكافأة سيد الأولين والآخرين ، أمرنا رب العالمين أن نرغب إليه ، بأن نصلي ، لتكون صلاتنا عليه مكافأة لإحسانه إلينا ، وإفضاله علينا ، إذ لا إحسان أفضل من إحسانه- صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وإخوانه .

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي : وفي حكمها مذاهب . الاستحباب مطلقا ، قاله ابن جرير الطبري ، وادعى الإجماع عليه ، وأوله بعض العلماء بما زاد على المرة الواحدة ، وهو متعين ، فقد نقل ابن القصار وغيره الإجماع على أنها تجب في الجملة من غير حصر ، لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن الصلاة عليه فرض على كل مؤمن بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه [الأحزاب 56] .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : واجبة مرة في العمر في صلاة أو غيرها ، ككلمة التوحيد ، وحمد الله وشكره .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم ، وأبو بكر الرازي من الحنفية ، وغيرهما ، وقال القرطبي المفسر : لا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة ، وأنها واجبة في كل حين [من الواجبات] وجوب السنن المؤكدة ، وسبقه إلى ذلك ابن عطية فقال : الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- في كل حال [ ص: 412 ] واجبة وجوب السنن المؤكدة ، التي لا يسع تركها ، ولا يغفلها إلا من لا خير فيه وقال ابن القصار : المشهور عن أصحابنا أنها واجبة في الجملة على الإنسان ، وفرض عليه أن يأتي بها مرة في دهره ، مع القدرة على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قال الفاكهاني : في معنى المشهور ، أنه اشتهر من قول أصحابنا ، لا أعلم مخالفا .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : تجب في القعود آخر الصلاة ، وهو مذهب الإمام الشافعي ومن تبعه .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : تجب في التشهد ، وهو قول الشعبي وابن راهويه .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : تجب في الصلاة من غير تعيين محل ، نقل ذلك عن أبي بكير من المالكية .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد ، قاله أبو بكر بن بكير من المالكية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال بعض المالكية : فرض إسلامي جملي غير متعلق بعدد ولا وقت معين .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : يجب كلما ذكر ، قاله الطحاوي وجماعة من الحنفية ، والحليمي ، وجماعة من الشافعية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن العربي من المالكية : إنه الأحوط .

                                                                                                                                                                                                                              قيل : في كل مجلس مرة ، ولو تكرر ذكره مرارا ، حكاه الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : في كل دعاء [حكاه أيضا] .

                                                                                                                                                                                                                              [ومنها ما روي عن سهل بن محمد [ . . . ] آدم [ . . . ] بأمر الملائكة له بالسجود؛ لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في هذا التعريف ، فتشريف يصدر عنه أبلغ من تشريف يختص به الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها : ما ذكره عن ابن أبي الدنيا ، عن ابن أبي فديك ، سمعت بعض من أدركت يقول :

                                                                                                                                                                                                                              بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال هذه الآية ثم قال : صلى الله عليك يا محمد سبعين مرة ناداه ملك : صلى الله عليك يا فلان ، لم يسقط لك حاجة] .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها أنه عبر فيها بالنبي- صلى الله عليه وسلم- ، ولم يقل : على محمد ، كما وقع لغيره من الأنبياء- صلى الله عليه وسلم- لقوله : يا آدم ، يا يحيى ، يا عيسى ، يا إبراهيم؛ لما في ذلك من الفخامة والكرامة التي اختص بها عن سائر الأنبياء ، إشعارا بعلو المقدار ، وإعلاما بالتفضيل على سائر الرسل [ ص: 413 ] الكرام ، ولما ذكر نبينا مع الخليل- صلى الله عليه وسلم- ذكر الخليل باسمه ، وذكر الحبيب بلقبه فقال :

                                                                                                                                                                                                                              إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي [آل عمران 68] فكل موضع سماه باسمه إنما هو لمصلحة تقتضي ذلك فافهمه .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها أن الأولى قد يكون الألف واللام فيه للغلبة ، كالمدينة ، فكأنه المعروف الحقيقي به ، المقدم على سائر الأنبياء- صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها أن صلاة جميع الملائكة عليه مما خصه الله تعالى به دون سائر الأنبياء والمرسلين .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية