الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب التجارات وخيار البيع قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم قال أبو بكر : قد انتظم هذا العموم النهي عن أكل مال الغير بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل وذلك لأن قوله تعالى : أموالكم يقع على مال الغير ومال نفسه ، كقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم قد اقتضى النهي عن قتل غيره وقتل نفسه ؛ فكذلك قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل نهي لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل .

وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في معاصي الله ؛ وأكل مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان :

أحدهما : ما قال السدي وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم ، وقال ابن عباس والحسن : أن يأكله بغير عوض ، فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نسخ ذلك بالآية التي في النور : ليس على الأعمى حرج إلى قوله تعالى : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم الآية . قال أبو [ ص: 128 ] بكر : يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك ؛ لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قط بهذه الآية ، وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكل عند غيره بغير إذنه ، فهذا لعمري قد تناولته الآية . وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال : " هي محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة " وروى الربيع عن الحسن قال : " ما نسخها شيء من القرآن " .

ونظير ما اقتضته الآية من النهي عن أكل مال الغير قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام وقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه . وعلى أن النهي عن أكل مال الغير معقود بصفة ، وهو أن يأكله بالباطل ؛ وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة ، وكمن اشترى شيئا من المأكول فوجده فاسدا لا ينتفع به نحو البيض والجوز ، فيكون أكل ثمنه أكل مال بالباطل ؛ وكذلك ثمن كل ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر ما لا منفعة فيه ، فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل ، وكذلك أجرة النائحة والمغنية ، وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير .

وهذا يدل على أن من باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه أنه منهي عن أكل ثمنه وعليه رده إلى مشتريه ، وكذلك قال أصحابنا : إنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه بعينة وقبضه أن عليه أن يتصدق به ؛ لأنه ربح حصل له من وجه محظور ؛ وقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة .

فإن قيل : هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكل الهبات والصدقات والإباحة للمال من صاحبه ؟

قيل له : كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارج عن حكم الآية ؛ لأن الحظر في أكل المال مقيد بشريطة وهي أن يكون أكل مال بالباطل ، وما أباحه الله تعالى وأحله فليس بباطل بل هو حق ؛ فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال ، فإن كان مباحا فليس بباطل ولم تتناوله الآية ، وإن كان محظورا فقد اقتضته الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية