الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان اختلاف الأوراد باختلاف الأحوال .

اعلم أن المريد لحرث الآخرة السالك لطريقها لا يخلو عن ستة أحوال ؛ فإنه إما عابد وإما عالم وإما متعلم وإما وال وإما محترف وإما موحد مستغرق بالواحد الصمد عن غيره الأول : العابد ، وهو المتجرد للعبادة الذي لا شغل له غيرها أصلا ولو ترك العبادة لجلس بطالا فترتيب أوراده ما ذكرناه نعم لا يبعد أن تختلف وظائفه بأن يستغرق أكثر أوقاته إما في الصلاة ، أو القراءة ، أو في التسبيحات فقد كان في الصحابة رضي الله عنهم من ورده في اليوم اثنا عشر ألف تسبيحة وكان فيهم من ورده ثلاثون ألفا وكان فيهم من ورده ثلاثمائة ركعة إلى ستمائة وإلى ألف ركعة وأقل ما نقل في أورادهم من الصلاة مائة ركعة في اليوم والليلة وكان بعضهم أكثر ورده القرآن ، وكان يختم الواحد منهم في اليوم مرة وروى مرتين . عن بعضهم ، وكان بعضهم يقضي اليوم أو الليل في التفكر في آية واحدة ، يرددها وكان كرز بن وبرة مقيما بمكة فكان يطوف في كل يوم سبعين أسبوعا وفي كل ليلة سبعين أسبوعا ، وكان مع ذلك يختم القرآن في اليوم والليلة مرتين ، فحسب ذلك فكان عشرة فراسخ ، ويكون مع كل أسبوع ركعتان فهو ، مائتان وثمانون ركعة ، وختمتان ، وعشرة فراسخ فإن قلت : فما الأولى أن يصرف إليه أكثر الأوقات من هذه الأوراد ؟ فاعلم أن قراءة القرآن في الصلاة قائما مع التدبر يجمع الجميع ولكن ربما تعسر المواظبة عليه فالأفضل يختلف باختلاف حال الشخص ومقصود الأوراد تزكية القلب وتطهيره وتحليته بذكر الله تعالى وإيناسه به فلينظر المريد إلى قلبه فما يراه أشد تأثيرا فيه فليواظب عليه فإذا أحس بملالة منه فلينتقل إلى غيره ولذلك نرى الأصوب لأكثر الخلق توزيع هذه الخيرات المختلفة على الأوقات كما سبق والانتقال فيها من نوع إلى نوع لأن الملال هو الغالب على الطبع وأحوال الشخص الواحد في ذلك أيضا تختلف

التالي السابق


* ( بيان اختلاف الأوراد باختلاف الأحوال) *

( اعلم أن المريد لحرث الآخرة السالك لطريقها) المريد والسالك واحد، إلا أن المريد يختص بمن في ذمته عقد الإرادة لشيخ من المشايخ، والسالك أعم من ذلك، وسيأتي بيان معنى السلوك قريبا ( لا يخلو عن ستة [ ص: 170 ] أحوال؛ فإنه إما عابد) لا شغل له إلا العبادة ( وإما عالم) ينفع الناس بتعليمه إياهم ما يقربهم إلى الله تعالى، أو مشغول بتأليف كتاب ندب إليه ( وإما متعلم) يشتغل بالعلم بحضوره على علماء وقته ( وإما وال) يلي منصبا من المناصب من طرف السلطان ( وإما محترف) أي: مكتسب بحرفة ( وإما موحد) مستغرق بالواحد الصمد جل جلاله ( عن غيره) في أحواله .

( الأول: العابد، وهو المتجرد لعبادة الله عز وجل) تجرد عن كل ما يشغله عن العبادة ( لا شغل له أصلا) إلا العبادة ( ولو ترك العبادة لجلس باطلا) إذ لا شغل له أو لا يحسن شغلا ( فترتيب أوراده ما ذكرناه) سابقا في عمارة الأوقات بالوجه المذكور ( نعم) وفي نسخة: أجل ( لا يبعد أن تختلف وظائفه بأن يستغرق أكثر أوقاته إما في الصلاة، أو القراءة، أو في التسبيحات) بحسب ما تيسر له ( فقد كان في الصحابة من ورده في اليوم اثنا عشر ألف تسبيحة) قال صاحب العوارف: ورأيت بعض الفقراء من المغرب بمكة وله سبحة فيها ألف حبة في كيس له، ذكر أنه يديرها كل يوم اثني عشرة مرة بأنواع الذكر، ونقل عن بعض الصحابة أن ذلك كان ورده بين اليوم والليلة .

( وكان فيهم من ورده ثلاثون ألفا) ولفظ العوارف والقوت ونقل عن بعض التابعين: أنه كان له ورد من التسبيح ثلاثون ألفا بين اليوم والليلة ( وكان فيهم من ورده ثلاثمائة ركعة إلى ستمائة) ركعة ( وإلى ألف ركعة) أي: في اليوم والليلة ( وأقل ما نقل من أورادهم في الصلاة مائة ركعة) على التوزيع ( في اليوم والليلة) وهذه الضمائر كلها راجعة إلى التابعين، كما هو في القوت، ولفظه: "كان من التابعين من ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة، وكان منهم من ورده ستمائة ركعة، وأقل من نقل عنه من الأوراد مائة ركعة في اليوم" .

( وكان بعضهم أكثر ورده القرآن، وكان يختم أحدهم في اليوم مرة. وروي عن بعضهم مرتين، وكان بعضهم يقضي اليوم والليلة في التفكر في آية واحدة، يرددها) تقدم تفصيل ذلك في كتاب تلاوة القرآن ( وكان كرز بن وبرة) الحارثي، نزيل جرجان، أحد الأبدال ( مقيما بمكة فكان يطوف) في ( كل يوم سبعين أسبوعا وفي كل ليلة سبعين أسبوعا، وكان مع ذلك يختم القرآن في اليوم والليلة مرتين، فحسب ذلك فكان عشرة فراسخ، ويكون له مع كل أسبوع ركعتان، فذلك مائتان وثمانون ركعة، وختمتان، وعشرة فراسخ) هكذا في القوت .

وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا علي بن المنذر، حدثنا محمد بن فضل، قال: سمعت ابن شبرمة يقول:


لو شئت كنت ككرز في تعبده أو كابن طارق حول البيت في الحرم قد حال دون لذيذ العيش خوفهما
وسارعا في طلاب الفوز والكرم



وكان محمد بن طارق يطوف في كل يوم وليلة سبعين أسبوعا، قال: وكان كرز يختم القرآن في كل يوم وليلة ثلاث ختمات .

أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم في كتابه قال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن، حدثنا أبو حفص النيسابوري، حدثنا الصلت بن مسعود، حدثنا ابن عيينة، قال: سمعت ابن شبرمة يقول لابن هبيرة: لو شئت كنت ككرز في تعبده، إلى آخر البيتين، فقال ابن هبيرة: من كرز ومن ابن طارق، قال: قلت: أما كرز فكان إذا كان في سفر واتخذ الناس منزلا اتخذ هو منزلا للصلاة، وأما ابن طارق فلو اكتفى أحد بالتراب كفاه كف من تراب .

قال أبو حفص: ذكروا أن ابن طارق كان يقدر طوافه في اليوم عشرة فراسخ، حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني شريح بن يونس، حدثنا محمد بن بطين، قال: "رأيت ابن طارق في الطواف، قد انفرج له أهل الطواف، عليه نعلان مطرقتان، قال: فحرروا طوافه في ذلك الزمان، فإذا هو يطوف في اليوم والليلة عشرة فراسخ" اهـ لفظ الحلية .

وهذا الأخير قد رواه أيضا أبو الفرج بن الجوزي في مثير العزم من هذا الطريق، ونقله المحب الطبري في المناسك .

( فإن قلت: فما الأولى أن يصرف إليه أكثر الأوقات من هذه الأوراد؟ فاعلم أن قراءة القرآن في الصلاة قائما مع التدبر) والتفهم لمعاني ما يقرأ ( يجمع الجميع) مما ذكر ( ولكن ربما تعسر المواظبة على ذلك) لمانع ( فالأفضل يختلف باختلاف حال الشخص ومقصود الأوراد [ ص: 171 ] تزكية القلب وتطهيره) من الأدناس الباطنة ( وتحليته) أي: تزيينه ( بذكر الله تعالى وإيناسه به) بكمال الرغبة فيه ( فلينظر المريد إلى قلبه فما يراه أشد تأثيرا فيه فليواظب عليه) فهو الأفضل في حقه ( فإذا أحس بملالة منه) وسئمت النفس ( فلينتقل إلى غيره) من تلك الأوراد ( ولذلك نرى الأصوب بأكثر الخلق توزيع هذه الخيرات المختلفة على الأوقات كما سبق) تقريره ( والانتقال من نوع منها إلى نوع) ثان ( لأن الملل هو الغالب على الطبع) في الأكثر ( وأحوال الشخص الواحد أيضا في ذلك تختلف) باختلاف الطبائع والأوقات والهمم .




الخدمات العلمية