الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما يتقى من دعوة المظلوم

                                                                                                          حدثني عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى فقال يا هني اضمم جناحك عن [ ص: 761 ] الناس واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي ونعم ابن عفان وابن عوف فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى المدينة إلى زرع ونخل وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيته يأتني ببنيه فيقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم إنها لبلادهم ومياههم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا

                                                                                                          [ ص: 685 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 685 ] 60 - كتاب دعوة المظلوم

                                                                                                          1 - باب ما يتقى من دعوة المظلوم

                                                                                                          جاء في ذلك أحاديث كثيرة مرفوعة كحديث ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ يعني لما بعثه إلى اليمن : " إنك ستأتي قوما أهل كتاب " الحديث ، وفيه : " واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " ، رواه الشيخان .

                                                                                                          وللطبراني وصححه الضياء عن ابن ثابت رفعه : " اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين " ، وللحاكم عن ابن عمر مرفوعا : " اتقوا دعوة المظلوم ، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة " ، ولأحمد وأبي يعلى وصححه الضياء عن أنس مرفوعا : " اتقوا دعوة المظلوم ، وإن كان كافرا ، فإنه ليس دونه حجاب .

                                                                                                          1890 1843 - ( مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب ) في خلافته ( استعمل مولى له يدعى ) : يسمى ( هنيا ) ، بضم الهاء ، وفتح النون ، وشد التحتية ، وقد تهمز ، قال في الفتح : لم أر من ذكره في الصحابة مع إدراكه ، ووجدت له رواية عن أبي بكر ، وعمر ، وعمرو بن العاصي ، روى عنه ابنه عمير ، وشيخ من الأنصار ، وغيرهما ، وشهد صفين مع معاوية ، ثم تحمل إلى علي لما قتل عمار ، وفي كتاب مكة لعمر بن شبة أن آل هني ينسبون في همدان ، وهم موالي آل عمر ، ولولا أنه كان من الفضلاء النبلاء الموثوق بهم ، لما استعمله عمر ( على الحمى ) - بكسر الحاء المهملة ، وفتح الميم - مقصور موضع يعينه الإمام لنحو نعم الصدقة ، ممنوعا من الغير ، ولابن سعد عن عمر بن هني عن أبيه أنه كان على حمى الربذة ، ( فقال ) عمر ( له : يا هني اضمم جناحك عن الناس ) ، أي اكفف يدك عن ظلمهم .

                                                                                                          وللأويسي عن مالك في غرائب الدارقطني : اضمم جناحك للناس ، وعلى هذا فمعناه استرهم بجناحك ، وهو كناية [ ص: 686 ] عن الرحمة والشفقة .

                                                                                                          ( واتق دعوة المظلوم ) ، أي اجتنب الظلم لئلا يدعو عليك من تظلمه ، وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ درجة ، وأوجز إشارة ، وأفصح عبارة كأنه إذا اتقى دعاء المظلوم ، لم يظلم ، فهو أبلغ من أن لو قال : لا تظلم ، ( فإن دعوة المظلوم مجابة ) ، أي مقبولة ، وإن كان عاصيا كما في حديث أبي هريرة ، وعند أحمد مرفوعا : " دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ، ففجوره على نفسه " ، وإسناده حسن ، وإن كان كافرا ، كما مر في خبر أنس .

                                                                                                          وأما قوله تعالى : ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) ( سورة غافر : الآية 50 ) فذاك في دعائهم للنجاة من نار الآخرة ، أما دعاؤهم لطلب الانتصاف ممن ظلمهم في الدنيا كما في الحديث فلا تنافيه الآية .

                                                                                                          ( وأدخل ) ، بفتح الهمزة ، وسكون المهملة ، وكسر الخاء المعجمة ، حذف متعلقه ، أي في الرعي ، ( رب ) ، أي صاحب ( الصريمة ) ، بضم الصاد المهملة ، وفتح الراء ، القطعة القليلة من الإبل نحو الثلاثين ، وقيل : من عشرين إلى أربعين .

                                                                                                          ( والغنيمة ) بضم المعجمة ، وفتح النون تصغير غنم ، قيل : إنها أربعون ، والمراد القليل منها ، كما دل عليه التصغير ، ( وإياي ونعم ) عثمان ( بن عفان و ) نعم عبد الرحمن ( بن عوف ) ، وفيه تحذير المتكلم نفسه ، وهو شاذ عند النحاة كذا قيل ، والذي يظهر أن الشذوذ في لفظه ، وإلا فالمراد في التحقيق ، إنما هو تحذير المخاطب ، وكأنه بتحذير نفسه حذره بطريق الأولى فيكون أبلغ ، ونحوه نهي المرء نفسه ، ومراده نهي من يخاطبه قاله الحافظ ، قال : وخصهما بالذكر على طريق المثال لكثرة نعمهما ، لأنهما كانا من مياسير الصحابة ، ولم يرد منعهما البتة ، وإنما أراد أنه إذا لم يسمح لرعي نعم أحد الفريقين فنعم المقلين أولى ، فنهى عن إيثارهما على غيرهما ، أو تقديمهما قبل غيرهما ، وبين حكمة ذلك بقوله : ( فإنهما إن تهلك ) - بكسر اللام - ( ماشيتهما يرجعان ) إلى المدينة إلى غير ذلك من أموالهما من ( زرع ونخل ) ، وغيرهما ، ( وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيته يأتني ) مجزوم بحذف الياء ( ببنيه ) بنون فتحتية ، جمع ابن ، وفي رواية : بتحتية ففوقية مفرد بيوت ، قال الحافظ : والمعنى متقارب ( فيقول : يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين ) مرتين ، وحذف المقول لدلالة السياق عليه ، ولأنه لا يتعين في لفظ ، أي أنا فقير أنا أحق ، ونحو ذلك .

                                                                                                          ( أفتاركهم أنا ) ، استفهام إنكار معناه : لا أتركهم محتاجين ، ولا أجوز ذلك ، فلا بد لي من إعطاء الذهب والفضة لهم بدل الماء والكلأ من بيت المال ، ( لا أبا لك ) ، بفتح الهمزة ، والموحدة [ ص: 687 ] بلا تنوين ; لأنه صار شبيها بالمضاف ، وأصله لا أب لك ، وظاهره الدعاء عليه ، لكنه على مجازه لا حقيقته .

                                                                                                          ( فالماء والكلأ أيسر ) أهون ( علي من الذهب والورق ) الفضة ، أي من إنفاقهما لهم ; لأنه قد يعارضه عارض في مهم آخر ، قال ابن عبد البر : وفيه ما كان عليه عمر من التقى ، وأنه لا يخاف في الله لومة لائم ; لأنه لم يداهن عثمان ، ولا عبد الرحمن ، ولا آثر الضعفاء والمساكين ، وبين وجه ذلك ، وامتثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا حمى إلا لله ورسوله " ، يعني إبل الصدقة .

                                                                                                          ( وايم الله إنهم ) ، أي أرباب المواشي القليلة من أهل المدينة ، وقرأها ( ليرون ) ، بضم التحتية ، أي يظنون ، وبفتحها ، أي يعتقدون ( أن قد ظلمتهم ) قال ابن التين : يريد أرباب المواشي الكثيرة ، قال الحافظ : والذي يظهر لي أنه يريد أرباب المواشي القليلة لأنهم المعظم والأكثر ، وهم أهل تلك البلاد من بواديالمدينة ، ويدل عليه قول عمر : ( إنها لبلادهم ومياههم قاتلوا عليها في الجاهلية ، وأسلموا عليها في الإسلام ) ، فكانت لهم ، وإنما ساغ لعمر ذلك ; لأنه كان مواتا ، فحماه لنعم الصدقة ، ولمصلحة عموم المسلمين ، وقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن معن بن عيسى عن مالك عن زيد بن أسلم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه : أن عمر أتاه رجل من أهل البادية ، فقال : يا أمير المؤمنين ، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية ، وأسلمنا عليها في الإسلام ، بم تحمى علينا ؟ فجعل عمر ينفخ ويفتل شاربه .

                                                                                                          وأخرجه الدارقطني في الغرائب من طريق ابن وهب عن مالك بنحوه ، وزاد : فلما رأى الرجل ذلك . . . إلخ ، فلما أكثر عليه قال : المال مال الله ، والعباد عباد الله ما أنا بفاعل .

                                                                                                          وقال ابن التين : لم يدخل ابن عفان ، ولا ابن عوف في قوله : قاتلوا عليها في الجاهلية ، فالكلام عائد على عموم أهل المدينة لا عليهما .

                                                                                                          وقال المهلب : إنما قال عمر ذلك ; لأن أهل المدينة أسلموا عفوا ، فكانت أموالهم لهم ، ولذا ساوم - صلى الله عليه وسلم - بني النجار بمكان مسجده ، قال : فاتفق العلماء على أن من أسلم من أهل الصلح ، فهو أحق بأرضه ، ومن أسلم من أهل العنوة ، فأرضه للمسلمين ; لأن أهل العنوة غلبوا على بلادهم ، كما غلبوا على أموالهم ، بخلاف أهل الصلح في ذلك .

                                                                                                          وفي نقل الاتفاق نظر ; لأن الحنفية يقولون : إذا أسلم الحربي في دار الحرب ، وأقام بها حتى غلب المسلمون عليها ، فهو أحق بجميع أمواله ، إلا أرضه وعقاره ففيء للمسلمين ، وخالفهم أبو يوسف ، فوافق الجمهور ، والمهلب ومن بعده حملوا الأرض على أرض أهل المدينة التي أسلم أهلها ، وهي في ملكها ، وليس المراد ذلك هنا ، وإن حمى عمر بعض الموات مما فيه نبات من غير معالجة أحد ، وخص إبل الصدقة ، وخيول المجاهدين [ ص: 688 ] وأذن لمن كان مقلا أن يرعى فيه مواشيه رفقا به فلا حجة فيه للمخالف .

                                                                                                          وأما قوله : يرون أن قد ظلمتهم فإشارة إلى أنهم يدعون أنهم أولى بها ، لا أنهم منعوا حقهم الواجب لهم ، انتهى .

                                                                                                          ( والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه ) أي الإبل والخيل التي كان يحمل عليها من لا يجد ما يركب ( في سبيل الله ) الجهاد ( ما حميت عليهم من بلادهم شبرا ) ، وجاء عن مالك : أن عدة ما كان في الحمى في عهد عمر بلغ أربعين ألفا من إبل وخيل وغيرهما .

                                                                                                          وفي الحديث : ما كان عليه عمر من القوة ، وجودة النظر والشفقة على المسلمين .

                                                                                                          وأخرجه البخاري في الجهاد عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك به ، ووقع في فتح الباري ، وهذا الحديث ليس في الموطأ ، قال الدارقطني : هو حديث غريب صحيح ، انتهى .

                                                                                                          وإن هذا لشيء عجاب نفى كونه في الموطأ ، لكن الجواد قد يكبو ، والكمال لله . والله أعلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية