الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان طرق القسمة لأجزاء الليل .

اعلم أن إحياء الليل من حيث المقدار له سبع مراتب:

الأولى : إحياء كل الليل وهذا شأن الأقوياء الذين تجردوا لعبادة الليل وتلذذوا بمناجاته وصار ذلك غذاء لهم وحياة لقلوبهم فلم يتعبوا بطول القيام وردوا المنام إلى النهار وفي وقت اشتغال الناس وقد كان ذلك طريق جماعة من السلف كانوا يصلون الصبح بوضوء العشاء حكى أبو طالب المكي أن ذلك حكي على سبيل التواتر والاشتهار عن أربعين من التابعين ، وكان فيهم من واظب عليه أربعين سنة قال منهم : سعيد بن المسيب ، وصفوان بن سليم المدنيان وفضيل بن عياض ووهيب بن الورد المكيان وطاوس ووهب بن منبه اليمانيان والربيع بن خيثم ، والحكم الكوفيان وأبو سليمان الداراني وعلي بن بكار الشاميان وأبو عبد الله الخواص وأبو عاصم العباديان وحبيب أبو محمد ، وأبو جابر السلماني الفارسيان ومالك بن دينار وسليمان التيمي ، ويزيد الرقاشي ، وحبيب بن أبي ثابت ، ويحيى البكاء البصريون وكهمس بن المنهال وكان يختم في الشهر تسعين ختمة ، وما لم يفهمه رجع وقرأه مرة أخرى وأيضا من أهل المدينة أبو حازم ومحمد بن المنكدر في جماعة يكثر عددهم

التالي السابق


(بيان طرق القسمة لأجزاء الليل) .

(اعلم أن إحياء الليل من حيث المقدار له سبع مراتب:

المرتبة الأولى: إحياء كل الليل) بالصلاة والتلاوة والأذكار وغيرها من أنواع العبادات، (وهذا شأن الأقوياء الذين تجردوا لعبادة الله تعالى) ، فلا شغل لهم سواها (وتلذذوا بمناجاته) في تلاوتهم (وصار ذلك غذاء لهم) أي: بمنزلة الغذاء الذي لا يستغنى عنه، (وحياة لقلوبهم) وتنويرا لها، (فلم يتعبوا بطول القيام وردوا المنام إلى النهار في وقت اشتغال الناس) بالكسب في [ ص: 199 ] أسواقهم، وفي نسخة: بأمور الدنيا، (وقد كان ذلك طريق جماعة من السلف) الصالحين (كانوا يصلون الصبح بوضوء العشاء) الآخرة .

(حكى) الإمام (أبو طالب المكي) في كتابه "قوت القلوب": (أن ذلك حكي على سبيل الاشتهار عن أربعين من التابعين، وكان منهم من واظب على ذلك أربعين سنة) ولفظ " القوت ": وممن اشتهر بإحياء الليل كله وصلاة الغداة بوضوء العشاء الأخيرة أربعين سنة، حتى نقل ذلك عنه أربعون من التابعين (قال: منهم سعيد بن المسيب، وصفوان بن سليم المدنيان) أما سعيد بن المسيب، فهو الإمام أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي سيد التابعين، ولد لسنتين مضتا لخلافة عمر، وكان أعلم أهل المدينة بالحلال والحرام، فقيها متأهلا ثقة من أهل الخير، صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، مات سنة أربع وتسعين وهو ابن خمس وسبعين سنة، روى له الجماعة .

وأما صفوان بن سليم، فهو أبو عبد الله وقيل: أبو الحارث القرشي الزهري الفقيه، وأبوه سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، عابد. وقال يحيى بن سعيد: هو رجل يستسقى بحديثه وينزل المطر من السماء بذكره، وعنه أيضا: ثقة من خيار عباد الله الصالحين. وقال مالك بن أنس: كان يصلي في الشتاء وفي الصيف في بطن البيت ينتفض بالحر والبرد حتى يصبح، ثم يقول: هذا الجهد من صفوان وأنت أعلم، وأنه لزم رجلاه حتى يعود كالسقط من قيام الليل وتظهر فيه عروق خضر. وقال عبد العزيز بن أبي حازم عادلني صفوان إلى مكة فما وضع جنبه بالأرض حتى يلقى الله عز وجل، فكنت على ذلك أكثر من ثلاثين عاما، ومن طريق غيره: أربعين سنة، فلما حضرته الوفاة واشتد به النزع وهو جالس فقالت ابنته: يا أبت لو وضعت جنبك على الأرض، فقال: يا بنية إذا ما وفيت لله عز وجل بالنذر والحلف فمات وإنه لجالس سنة اثنتين وثلاثين ومائة، روى له الجماعة .

(وفضيل بن عياض ووهيب بن الورد المكيان) أما فضيل; فهو أبو علي فضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي، ولد بسمرقند، ونشأ بأبيورد، وكتب الحديث بالكوفة، وتحول إلى مكة فسكنها، ومات بها، قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي : ثقة صالح مأمون. وعن ابن المبارك: ما بقي في الحجاز أحد من الأبدال إلا فضيل بن عياض وعلي ابنه، وعلي مقدم على أبيه في الخوف. وقال بشر بن الحارث: عشرة ممن كانوا يأكلون الحلال، فذكر فيهم فضيل بن عياض وابنه عليا، وكان ممن صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة توفي بمكة سنة سبع وثمانين ومائة، روى له الجماعة إلا ابن ماجه.

وأما وهيب بن الورد، فهو عثمان المكي مولى بني مخزوم، تقدمت ترجمته في آخر كتاب الصلاة، وكان ممن صلى الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة. روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .

(والربيع بن خيثم، والحكم الكوفيان) أما الربيع; فهو أبو زيد الربيع بن خيثم بن عائذ بن عبد الله بن موهبة الثوري الكوفي، من كبار التابعين، تقدمت ترجمته في كتاب تلاوة القرآن، وكان من المخبتين. قال ابن سعد: توفي في ولاية عبيد الله بن زياد. روى له الجماعة إلا أبا داود.

وأما الحكم، فهو أبو عبد الله الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي مولى امرأة من كندة، كان من أثبت أصحاب إبراهيم النخعي، ثقة عابد زاهد ثبت في الحديث، ولد سنة خمسين، ومات سنة ثلاث عشرة ومائة روى له الجماعة .

(وأبو سليمان الداراني وعلي بن بكار الشاميان) أما أبو سليمان فهو أحمد بن عبد الرحمن بن عطية من أهل داريا، ترجمه صاحب الحلية والرسالة والذهبي في التاريخ، وكان من الورع والعبادة بمكان .

وأما علي بن بكار: فهو البصري الزاهد نزيل المصيصة من ثغور الشام. روى عن ابن عوف وحسين المعلم والطبقة، وكان صاحب كرامات وتأله. مات سنة سبع وعشرين. روى له النسائي .

(وأبو عبد الله الخواص وأبو عاصم العباديان) . أما أبو عبد الله الخواص... وأما أبو عاصم، فهو عبيد الله وقيل: عبد الله بن عبد الله. روى عن أبان وابن جدعان. وعنه ابن المديني وإسحاق. قال ابن معين وغيره: صالح الحديث روى له ابن ماجه. وعبادان جزيرة في بحر فارس تقدم ذكرها في آخر كتاب الحج .

(وحبيب أبو محمد، وأبو جابر السلماني الفارسيان) أما حبيب، فهو أبو محمد العجمي من ساكني البصرة، صاحب الكرامات مجاب الدعوات [ ص: 200 ] ترجمه أبو نعيم في " الحلية " .

وأخرج من طريق السري بن يحيى قال: كان أبو محمد يرى بالبصرة يوم التروية، ويرى بعرفة عشية عرفة. قيل: إنه أسند عن الحسن وابن سيرين، وهو وهم من قائله، فإن حبيبا الذي أسند عنهما هو حبيب المعلم.

وأما أبو جابر السلماني.

(ومالك بن دينار، وسليمان التيمي، ويزيد الرقاشي، وحبيب بن أبي ثابت، ويحيى البكاء البصريون) أما مالك بن دينار: فهو أبو يحيى الناجي السامي البصري الزاهد، مولى امرأة من بني ناجية بن سامة بن لؤي، وكان أبوه من سبي سجستان. وقيل: من كابل. قال النسائي : ثقة. وذكره ابن حبان في كتاب المصاحف، وكان يكتب المصاحف بالأجرة ويتقوت بأجرته، وكان يجانب الإباحات جهده، ولا يأكل شيئا من الطيبات، وكان من المتعبدة الصبر والمتقشفة الخشن: له ترجمة طويلة في " الحلية ". مات سنة ثلاث وعشرين ومائة .

وأما سليمان التيمي: فهو أبو المعتمر سليمان بن طرخان التيمي، تقدمت ترجمته في كتاب الدعوات .

وأما يزيد الرقاشي: فهو يزيد بن أبان القاص العابد، روى عن أنس والحسن، وعنه صالح المري وحماد بن سلمة، روى له الترمذي وابن ماجه .

وأما حبيب بن أبي ثابت: فهكذا هو في "القوت " وتبعه المصنف، والذي يظهر أنه وهم من النساخ، فإن حبيب بن أبي ثابت كوفي، وهو قد ساقه في عداد البصريين. قال العجلي: تابعي ثقة كان يفتي بالكوفة قبل حماد بن أبي سليمان.

وأما حبيب بن أبي حبيب: فإنه بصري ثقة، روى له مسلم والنسائي وابن ماجه ، ومن أهل البصرة من يسمى بهذا الاسم حبيب بن الشهيد الأزدي أبو محمد تابعي أدرك أبا الطفيل، وحبيب المعلم أبو محمد البصري مولى معقل بن يسار، روى له الجماعة .

وأما يحيى البكاء: فهو يحيى بن مسلمة، ويقال: ابن أبي خليد، تابعي بصري، روى عن ابن عمر وأبي العالية، وعنه عبد الوارث وعلي بن عاصم، روى له الترمذي وابن ماجه .

(وكهمس بن المنهال) السدوسي أبو عثمان البصري اللؤلؤي محله الصدق، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، قال صاحب "القوت ": (وكان يختم في الشهر تسعين ختمة، وما لم يفهمه رجع وقرأه مرة أخرى) ، روى له البخاري حديثا واحدا مقرونا بغيره .

(وأيضا من أهل المدينة أبو حازم) سلمة بن دينار الأعرج الأفرز القاص الزاهد الحكيم، مولى ابن شجيع من بني ليث بن بكر ، روى عن سهل بن سعد الساعدي، وهو راويه، قال أحمد: ثقة، لم يكن في زمانه مثله، وله ترجمة في " الحلية " مطولة. مات سنة أربع وأربعين ومائة .

(ومحمد بن المنكدر) بن الهدير أبو بكر المدني تقدمت ترجمته قريبا (في جماعة يكثر عددهم) هؤلاء المشهورون منهم كذا، قاله صاحب "القوت " وتبعه المصنف، ونقل صاحب العوارف مثل ذلك مختصرا، وأحاله على "القوت " .

وممن كان يحيي الليل كله الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، وقد تقدم ذلك للمصنف قريبا، وكان ينبغي عداده في الكوفيين فهو أفضلهم وأورعهم، ومنهم أبو عبد الله الحارث بن يعقوب بن ثعلبة المصري، مولى قيس بن سعد بن عبادة، قال ابن معين: ثقة. وقال النسائي : ليس به بأس. وقال موسى بن ربيعة: كان الحارث من العباد، قانتا لله، وكان إذا انصرف من صلاة عشاء الآخرة يدخل بيته فيصلي ركعتين، ويجاء بعشائه فيوضع عنده، فهو ينظر إليه فيقول: أصلي أيضا ركعتين، فإذا فرغ من الركعتين يقول: أصلي أيضا ركعتين، فلا يزال يصلي ركعتين حتى يصبح فيكون عشاؤه وسحوره واحدا. روى له مسلم والترمذي والنسائي .




الخدمات العلمية