الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 2 ] كتاب اللقيطة

( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي الفضل السرخسي اختلف الناس فيمن وجد لقطة فالمتفلسفة يقولون : لا يحل له أن يرفعها ; لأنه أخذ المال بغير إذن صاحبه ، وذلك حرام شرعا ، فكما لا يحل له أن يتناول مال الغير بغير إذن صاحبه لا يحل له إثبات اليد عليه ، وبعض المتقدمين من أئمة التابعين كان يقول : يحل له أن يرفعها والترك أفضل ; لأن صاحبها إنما يطلبها في الموضع الذي سقطت منه ، فإذا تركها وجدها صاحبها في ذلك الموضع ، ولأنه لا يأمن على نفسه أن يطمع فيها بعد ما يرفعها فكان في رفعها معرضا نفسه للفتنة ، والمذهب عند علمائنا رحمهم الله وعامة الفقهاء أن رفعها أفضل من تركها ; لأنه لو تركها لم يأمن أن تصل إليها يد خائنة فيكتمها عن مالكها ، فإذا أخذها هو عرفها حتى يوصلها إلى مالكها ، ولأنه يلتزم الأمانة في رفعها ; لأنه يحفظها ويعرفها ، والتزام أداء الأمانة يفرض بمنزلة الثواب ; لأنه يثاب على أداء ما يلتزمه من الأمانة ، فإنه يمتثل فيه الأمر قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } وامتثال الأمر سبب لنيل الثواب ، ثم ما يجده نوعان :

( أحدهما ) ما يعلم أن مالكه لا يطلبه كقشور الرمان والنوى .

( والثاني ) ما يعلم أن مالكه يطلبه . فالنوع الأول له أن يأخذه وينتفع به إلا أن صاحبه إذا وجده في يده بعد ما جمعه كان له أن يأخذه منه ; لأن إلقاء ذلك من صاحبه كان إباحة الانتفاع به للواحد ولم يكن تمليكا من غيره ، فإن التمليك من المجهول لا يصح ، وملك المبيح لا يزول بالإباحة ولكن للمباح له أن ينتفع به مع بقاء ملك المبيح ، فإذا وجده في يده فقد وجد عين ملكه قال صلى الله عليه وسلم : { من وجد عين ماله فهو أحق به } وإن وجد ذلك مجتمعا لم يحل له أن ينتفع به ; لأن الظاهر أن المالك ما ألقاه بعد ما جمعه ولكنه سقط منه فكان هذا من النوع الثاني ، وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله أن من ألقى شاة ميتة له فجاء آخر وجز صوفها كان له أن ينتفع به ولو وجده صاحب [ ص: 3 ] الشاة في يده كان له أن يأخذه منه ، ولو سلخها ودبغ جلدها كان لصاحبها أن يأخذ الجلد منه بعد ما يعطيه ما زاد الدباغ فيه ; لأن ملكه لم يزل بالإلقاء ، والصوف مال متقوم من غير اتصال شيء آخر به ، فله أن يأخذه مجانا ، فأما الجلد لا يصير مالا متقوما إلا بالدباغ ، فإذا أراد أن يأخذه كان عليه أن يعطيه ما زاد الدباغ فيه .

فأما ( النوع الثاني ) وهو ما يعلم أن صاحبه يطلبه فمن يرفعه فعليه أن يحفظه ويعرفه ليوصله إلى صاحبه ، وبدأ الكتاب به ورواه عن إبراهيم قال في اللقطة : يعرفها حولا ، فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها ، فإن جاء صاحبها فهو بالخيار إن شاء أنفذ الصدقة ، وإن شاء ضمنه ، وما ذكر هذا على سبيل الاحتجاج بقول إبراهيم ; لأن أبا حنيفة رحمه الله كان لا يرى تقليد التابعين ، وكان يقول هم رجال ونحن رجال ، ولكن ظهر عنده أن إبراهيم فيما كان يفتى به يعتمد قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما ، فإن فقه أهل الكوفة دار عليهما ، وكان إبراهيم أعرف الناس بقولهما فما صح عنه فهو كالمنقول عنهما ، فلهذا حشا الكتاب من أقاويل إبراهيم ، وفي هذا الحديث بيان أن الملتقط ينبغي له أن يعرف اللقطة ، والتقدير بالحول ليس بعام لازم في كل شيء ، وإنما يعرفها مدة يتوهم أن صاحبها يطلبها وذلك يختلف بقلة المال وكثرته حتى قالوا في عشرة دراهم فصاعدا : يعرفها حولا ; لأن هذا مال خطير يتعلق القطع بسرقته ويتملك به ما له خطر ، والتعريف لإيلاء العذر والحول الكامل لذلك حسن قال القائل :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

وفيما دون العشرة إلى ثلاثة يعرفها شهرا ، وفيما دون ذلك إلى الدرهم يعرفها جمعة ، وفي دون الدرهم يعرف يوما ، وفي فلس أو نحوه ينظر يمنة ويسرة ثم يضعه في كف فقير ، وشيء من هذا ليس بتقدير لازم ; لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون ولكنا نعلم أن التعريف بناء على طلب صاحب اللقطة ، ولا طريق له إلى معرفة مدة طلبه حقيقة فيبنى على غالب رأيه ، ويعرف القليل إلى أن يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطلبه بعد ذلك ، فإذا لم يجئ صاحبها بعد التعريف تصدق بها ; لأنه التزم حفظها على مالكها ، وذلك باتصال عينها إليه إن وجده وإلا فباتصال ثوابها إليه ، وطريق ذلك التصدق بها .

فإن جاء صاحبها فهو بالخيار إن شاء ضمنه لأنه تصدق بماله بغير إذنه ، وذلك سبب موجب للضمان عليه ، وإن شاء أنفذ الصدقة فيكون ثوابها له وإجازته في الانتهاء بمنزلة إذنه في الابتداء ، فإن قيل : كيف يضمنها له ، وقد تصدق بها بإذن الشرع قلنا : [ ص: 4 ] الشرع أباح له التصدق بها وما ألزمه ذلك ، ومثل هذا الإذن مسقط للإثم عنه غير مسقط لحق محترم للغير ، كالإذن في الرمي إلى الصيد ، والإذن في المشي في الطريق ، فإنه يتقيد بشرط السلامة ، وحق صاحب هذا المال مرعي محترم ، فلا يسقط حقه عن هذا العين بهذا الإذن ، فله أن يضمنه إن شاء ، والإذن هنا دون الإذن لمن أصابته مخمصة في تناول ملك الغير ، وذلك غير مسقط للضمان الواجب لحق صاحب المال . وذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه اشترى جارية بسبعمائة درهم أو بثمانمائة درهم فذهب صاحبها فلم يقدر عليه فخرج ابن مسعود رضي الله عنه بالثمن في صرة فجعل يتصدق بها ويقول لصاحبها ، فإن أبى فلنا وعلينا الثمن ، فلما فرغ قال : هكذا يصنع باللقطة وفي هذا اللفظ بيان أن الملتقط له أن يتصدق بها بعد التعريف على أن يكون ثوابها لصاحبها إن أجاز ، وإن أبى فله الضمان على المتصدق ، وليس مراد ابن مسعود رضي الله عنه من هذا أن حكم الثمن الواجب عليه حكم اللقطة من كل وجه ، وكيف يكون ذلك والثمن دين في ذمته وما تصدق به من الدراهم خالص ملكه ، فأما عين اللقطة فمملوكة لصاحبها والملتقط أمين فيها فعرفنا أن هذا ليس في معنى اللقطة ، ولا يقال : لعله كان اشتراها بمال معين ; لأنه صح من مذهبه أن النقود لا تتعين في العقد ، ولو تعينت فهي مضمونة على المشتري فعرفنا أنه ليس كاللقطة من كل وجه وأنه بالتصدق ما قصد إسقاط الثمن عن نفسه بل قصد إظهار المجاملة في المعاملة واتصال ثوابها إلى صاحبها إن رضي بصنيعه وإلا فالثمن دين عليه كما كان .

وعن أبي سعيد مولى أسيد قال : وجدت خمسمائة درهم بالحرة وأنا مكاتب فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : اعمل بها وعرفها فعملت بها حتى أديت مكاتبتي ثم أتيته فأخبرته بذلك فقال : ادفعها إلى خزان بيت المال ، وفي هذا دليل أن للإمام ولاية الإقراض في اللقطة والدفع مضاربة ; لأن قول عمر رضي الله عنه اعمل بها وعرفها إما أن يكون بطريق المضاربة أو الإقراض مضاربة ، وقد علمنا أنه لم يرد المضاربة حتى لم يتبين نصيبه من الربح فكان مراده الإقراض منه ، وفي هذا معنى النظر لصاحب المال ; لأنه يعرض للهلاك فيهلك من صاحبه قبل الإقراض وبعد الإقراض يصير دينا في ذمة المستقرض يؤمن فيه التوى بالهلاك ، وكذلك بالجحود ; لأنه متأكد بعلم القاضي ; ولهذا كان للقاضي ولاية الإقراض في أموال اليتامى ، وربما يكون معنى النظر في الدفع إليه مضاربة أو إلى غيره فذلك كله إلى القاضي ; لأنه نصب ناظرا ، وفيه دليل على أن الملتقط إذا كان محتاجا ، فله أن ينتفع باللقطة بعد . [ ص: 5 ] التعريف ; لأن هذا المكاتب كان محتاجا إلى العمل فيها فيؤدي مكاتبته من ربحها فأذن له عمر رضي الله عنه في ذلك وفيه دليل أن للإمام أن يقبض اللقطة من الملتقط إن رأى المصلحة في ذلك ; لأنه أمره بدفعها إلى خزان بيت المال ، وكأنه إنما أمره بذلك ; لأنه كان سبيلها التصدق بها بعد التعريف فأمره بدفعها إلى من هو في يده بيت مال الصدقة ليضعها موضع الصدقة ، وذكر في الأصل عن سويد بن غفلة قال : حججت مع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فوجدنا سوطا فاحتماه القوم وكرهوا أن يأخذوه ، وكنت أحوجهم إليه فأخذته فسألت عن ذلك أبي بن كعب فحدثني بالمائة دينار التي وجدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وجدت مائة دينار { فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال : عرفها سنة فعرفتها فلم يعرفها أحد ، فأخبرته فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته ثم قال بعد ثلاث سنين : اعرف عددها ووكاءها واخلطها بمالك ، فإن جاء طالبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها ، فإنها رزق ساقه الله إليك } .

وأما قوله : وجدنا سوطا يحتمل أن يكون ذلك مما يكسر من السياط ويعلم أن صاحبه ألقاه فتركه القوم ; لأنهم ما كانوا محتاجين إليه وأخذه سويد لينتفع به ، فإنه كان محتاجا إليه فذلك يدل على أن ما ألقاه صاحبه يباح أخذه للانتفاع به لمن شاء ، ويحتمل أن هذا كان سوطا هو مال متقوم يعلم أن صاحبه يطلبه فيكون بمنزلة اللقطة ، وفي قوله : فاحتماه القوم حجة لمن يقول : ترك اللقطة أولى من رفعها ولكنا نقول : هذا كان في ذلك الوقت ; لأن الغلبة كانت لأهل الخير والصلاح ، فإذا تركه واحد يتركه الآخر أيضا أو يأخذه ليؤدي الأمانة ، فأما في زماننا فقد غلب أهل الشر إذا ترك الأمين يأخذ الخائن فيكتم من صاحبه ، والحكم يختلف باختلاف أحوال الناس ، ألا ترى أن النساء كن يخرجن إلى الجماعات في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه ثم منعن من ذلك في زمن عمر رضي الله عنه وكان صوابا ، وفي الحديث الذي رواه أبي بن كعب رضي الله عنه دليل لما قلنا أن التقدير بالحول في التعريف ليس بلازم ولكنه يعرفها بحسب ما يطلبها صاحبها ، ألا ترى أن المائة دينار لما كانت مالا عظيما كيف أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعرفها ثلاث سنين ، ثم بظاهر الحديث يستدل الشافعي رحمه الله في أن للملتقط أن ينتفع باللقطة بعد التعريف ، وإن كان غنيا ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوز ذلك لأبي رضي الله عنه [ ص: 6 ] وهو كان غنيا ، وقد دل على غناه قوله عليه الصلاة والسلام اخلطها بمالك ، ولكنا نقول : يحتمل أنه لفقره وحاجته لديون عليه فأذن له في الانتفاع وخلطها بماله ، ويحتمل أنه علم أن ذلك المال لحربي لا أمان له ، وقد سبقت يده إليه فجعله أحق به لهذا .

وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال : { رزق ساقه إليك الله } ولكن مع هذا أمره بأن يعرف عددها ووكاءها احتياطا ، حتى إذا جاء طالب لها محترم تمكن من الخروج مما عليه يدفع مثلها إليه ، وذكر عن الحسن بن صباح قال : وجد رجل لقطة أيام الحاج فسأل عنها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال : عرفها في الموسم ، فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها ، فإن جاء صاحبها فخيره بين الأجر وبين الثمن يعني القيمة ، فإن اختار الثمن فادفع إليه ، وإن اختار الأجر ، فله الأجر ، وفي هذا دليل على أنه ينبغي للملتقط أن يعرفها في الموضع الذي أصابها فيه ، وأن يعرفها في مجمع الناس ; ولهذا أمره بالتعريف في الموسم . وهذا لأن المقصود إيصالها إلى صاحبها ، وذلك بالتعريف في مجمع الناس في الموضع الذي أصابها حتى يتحدث الناس بذلك بينهم فيصل الخبر إلى صاحبها ، وذكر عن أبي إسحاق عن رجل قال : وجدت لقطة حين أنفر علي بن أبي طالب رضي الله عنه الناس إلى صفين فعرفتها تعريفا ضعيفا حتى قدمت على علي رضي الله عنه فأخبرته بذلك فضرب يده على صدري ، وفي رواية قال لي : إنك لعريض القفا خذ مثلها فاذهب حيث وجدتها ، فإن وجدت صاحبها فادفعها إليه وإلا فتصدق بها ، فإن جاء صاحبها فخيره إن شاء اختار الأجر ، وإن شاء ضمنك ومعنى قوله : فعرفتها تعريفا ضعيفا أي عرفتها سرا وما أظهرت تعريفها في مجمع الناس فكأنه طمع في أن تبقى له ، وعرف ذلك منه علي رضي الله عنه حين ضرب يده على صدره ، وقال ما قال إنك سليم القلب تطمع في مال الغير ، وهذا من دعابة علي رضي الله عنه ، وقد كان به دعابة كما قال عمر رضي الله عنه حين ذكر عليا رضي الله عنه للخلافة ، أما إنه إن ولي هذا الأمر حمل الناس على محجة بيضاء لولا دعابة به .

وفيه دليل أن التعريف سرا لا يكفي بل ينبغي للملتقط أن يظهر التعريف كما أمر علي رضي الله عنه الرجل به ، وأنه ينبغي أن يعرفها في الموضع الذي وجدها ; لأن صاحبها يطلبها في ذلك الموضع ، وحكي أن بعض العلماء وجد لقطة وكان محتاجا إليها فقال في نفسه : لا بد من تعرفها ، ولو عرفتها في المصر ربما يظهر صاحبها فخرج من المصر حتى انتهى إلى رأس بئر فدلى رأسه في البئر وجعل يقول : وجدت كذا ، فمن سمعتموه ينشد ذلك فدلوه علي ، وبجنب البئر رجل يرقع شملة وكان صاحب اللقطة فتعلق به حتى [ ص: 7 ] أخذها منه ليعلم أن المقدور كائن لا محالة ، فلا ينبغي أن يترك ما التزمه شرعا ، وهو إظهار التعريف ، وبعد إظهار التعريف إن جاء صاحبها دفعها إليه لحصول المقصود بالتعريف ، وإن لم يجئ فهو بالخيار إن شاء أمسكها حتى يجيء صاحبها ، وإن شاء تصدق بها ; لأن الحفظ هو العزيمة والتصدق بها بعد التعريف حولا رخصة ، فيخير بين التمسك بالعزيمة أو الترخص بالرخصة ، فإن تصدق بها ثم جاء صاحبها فهو بالخيار إن شاء أجاز الصدقة ويكون له ثوابها وإن شاء اختار الضمان ، وإذا اختار الضمان يخير بين تضمين الملتقط وبين تضمين المسكين ; لأن كل واحد منهما في حقه مكتسب سبب الضمان الملتقط بتمليك ماله من غيره بغير إذنه ، والمسكين يقبضه لنفسه على طريق التمليك ، وأيهما ضمنه لم يرجع على الآخر بشيء ، أما المسكين فلأنه في القبض عامل لنفسه ، فلا يرجع بما يلحقه من الضمان على غيره ، وأما الملتقط فلأنه بالضمان قد ملك وظهر أنه تصدق بملك نفسه فله ثوابها ، ولا رجوع له على المسكين بشيء ، وإن كان الملتقط محتاجا فله أن يصرفها إلى حاجة نفسه بعد التعريف ; لأنه إنما يتمكن من التصدق بها على غيره لما فيه من سد خلة المحتاج واتصال ثوابها إلى صاحبها ، وهذا المقصود يحصل بصرفها إلى نفسه إذا كان محتاجا . فكان له صرفها إلى نفسه لهذا المعنى .

فأما إذا كان غنيا فليس له أن يصرف اللقطة إلى نفسه عندنا ، وقال الشافعي له ذلك على أن يكون ذلك دينا عليه إذا جاء صاحبها لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه كما روينا ولما روي عن علي رضي الله عنه أنه وجد دينارا فاشترى به طعاما بعد التعريف فأكل من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين ، ولو كان سبيله التصدق ولم يكن للملتقط صرفها إلى منفعة نفسه لما أكلوا من ذلك ، فإن الصدقة ما كانت تحل لهم ، والمعنى فيه أن للملتقط أن يصرفها إلى نفسه إذا كان محتاجا بسبب الالتقاط ، وما يثبت له بسبب الالتقاط يستوي فيه أن يكون غنيا أو فقيرا ، كالحفظ والتعريف والتصدق به على غيره ، وهذا لأن في الصرف إلى نفسه معنى النظر له ولصاحبها أظهر ; لأنه يتوصل إلى منفعته ببدل يكون دينا عليه لصاحبها إذا حضر ، فكان منفعة كل واحد في هذا أظهر ، وحجتنا في ذلك ما روينا من الآثار الموجبة للتصدق باللقطة بعد التعريف ، ولأن المقصود اتصال ثوابها إلى صاحبها ، وهذا المقصود لا يحصل بصرفها إلى نفسه إذا كان غنيا بل يتبين به أنه في الأخذ كان عاملا لنفسه ، ولا يحل له شرعا أخذ اللقطة لنفسه فكما يلزمه أن يتحرز عن هذه النية في الابتداء فكذلك [ ص: 8 ] في الانتهاء يلزمه التحرز عن إظهار هذا ، وقد بينا تأويل حديث أبي ، فأما حديث علي رضي الله عنه فقد قيل : ما وجده لم يكن لقطة ، وإنما ألقاها ملك ليأخذه علي رضي الله عنه فقد كانوا لم يصيبوا طعاما أياما وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بطريق الوحي ، فلهذا تناولوا منه على أن الصدقة الواجبة كانت لا تحل لهم ، وهذا لم يكن من تلك الجملة فلهذا استجاز علي رضي الله عنه الشراء بها لحاجته ، وإذا وجد الرجل اللقطة وهي دراهم أو دنانير فجاء صاحبها وسمى وزنها وعددها ووكاءها فأصاب ذلك كله ، فإن شاء الذي في يده دفعها إليه .

وإن شاء أبى حتى يقيم البينة عندنا ، وقال مالك يجبر على دفعها إليه ; لأنه لما أصاب العلامات فالوهم الذي سبق إلى وهم كل واحد أنه صاحبه والاستحقاق بالظاهر يثبت خصوصا عند عدم المنازع كما يثبت الاستحقاق لذي اليد باعتبار الظاهر يثبت والملتقط غير منازع له ; لأنه لا يدعيها لنفسه ، ولأنه يتعذر على صاحبها إقامة البينة ، فإنه ما أشهد أحدا عند سقوطها منه ، ولو تمكن من ذلك لما سقطت منه فسقط اشتراط إقامة البينة للتعذر وتقام العلامة مقام ذلك كما يقام شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال مقام شهادة الرجال ، ولكنا نقول : إصابة العلامة محتمل في نفسه فقد يكون ذلك جزافا ، وقد يعرف الإنسان ذلك من ملك غيره ، وقد يسمع من مالكه ينشد ذلك ويذكر علاماته ، والمحتمل لا يكون حجة للإلزام .

التالي السابق


الخدمات العلمية