الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإذن في الانتصار في هذا السياق المادح مرغبا فيه مع ما للنفس من الداعية إليه، زجر عنه لمن كان له قلب أولا بكفها عن الاسترسال فيه وردها على حد المماثلة، وثانيا بتسميته سيئة وإن كان على طريق المشاكلة، وثالثا بالندب إلى العفو، فصار المحمود منه إنما هو ما كان لإعلاء كلمة الله لا شائبة فيه للنفس أصلا فقال: وجزاء سيئة أي أي سيئة كانت سيئة مثلها أي لا تزيد عليها في عين ولا معنى أصلا، وقد كفلت هذه الجمل بالدعاء إلى أمهات الفضائل الثلاث العلم والعفة والشجاعة على [ ص: 336 ] أحسن الوجوه، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم، وبالنفقة إلى العفة، وبالانتصار إلى الشجاعة، حتى لا يظن ظان أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث، فإن من علم المماثلة كان عالما، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفا، ومن قصر نفسه على ذلك كان شجاعا، وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول للعاجز والثاني للمتغلب المتكبر بدليل البغي.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان شرط المماثلة نادبا بعد شرع العدل الذي هو القصاص إلى العفو الذي هو الفصل لأن تحقق المثلية من العبد الملزوم للعجز لا يكاد يوجد، سبب عنه قوله: فمن عفا أي بإسقاط حقه كله أو بالنقص عنه لتتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة وأصلح أي أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس، فيكون بذلك منتصرا من نفسه لنفسه فأجره على الله أي المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا" . [ ص: 337 ] ولما كان هذا ندبا إلى العفو بعد المدح بالانتصار، بين أن علته كراهة أن يوضع شيء في غير محله لأنه لا يعلم المماثلة في ذلك إلا الله، فقال مضمرا إشارة إلى أن المثلية من الغيب الخفي مؤكدا لكف النفس لما لها من عظم الاسترسال في الانتصار: إنه لا يحب الظالمين أي لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله دأب من يمشي في مأخذ الاشتقاق إذا كان عريقا في ذلك سواء كان ابتداء أو مجاوزة في الانتقام بأخذ الثأر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية