الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنـزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منـزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين

                                                                                                                                                                                                أوحيت إلى الحواريين : أمرتهم على ألسنة الرسل مسلمون : مخلصون ، من أسلم وجهه لله يا عيسى في محل النصب على إتباع حركة الابن ، كقولك : يا زيد بن عمرو ، وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموما كقولك : يا زيد بن عمرو ، والدليل عليه قوله [من المتقارب] :

                                                                                                                                                                                                [ ص: 313 ]

                                                                                                                                                                                                أحار بن عمرو كأني خمر ويبدو على المرء ما يأتمر



                                                                                                                                                                                                لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم . فإن قلت : كيف قالوا : هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص ، وإنما حكى [ ص: 314 ] ادعاءهم لهما ، ثم أتبعه قوله : إذ قال فآذن أن دعواهم كانت باطلة ، وأنهم كانوا شاكين ، وقوله : "هل يستطيع ربك" كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ، وكذلك قول عيسى - عليه السلام - لهم معناه : اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ، ولا تقترحوا عليه ، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها إن كنتم مؤمنين : إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة ، وقرئ : "هل تستطيع ربك" ، أي : هل تستطيع سؤال ربك ، والمعنى : هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله ، والمائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام ، وهي من "ماده" إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليه ونكون عليها من الشاهدين : نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ، أو نكون من الشاهدين لله بالوحدانية ولك وبالنبوة ، عاكفين عليها ، على أن "عليها" في موضع الحال ، وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم الإيمان والإخلاص ، وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا ، وقرئ : "ويعلم" بالياء على البناء للمفعول . "وتعلم" . "وتكون" ، بالتاء ، والضمير للقلوب اللهم أصله يا الله . فحذف حرف النداء ، وعوضت منه الميم ، و ربنا : نداء ثان تكون لنا عيدا أي : يكون يوم نزولها عيدا . قيل : هو يوم الأحد ، ومن ثم اتخذه النصارى عيدا ، وقيل : العيد السرور العائد ، ولذلك يقال : يوم عيد . فكان معناه : تكون لنا سرورا وفرحا ، وقرأ عبد الله : "تكن" ، على جواب الأمر ، ونظيرهما . "يرثني" "ويرثني" لأولنا وآخرنا بل من "لنا" بتكرير العامل ، أي : لمن في زماننا من أهل ديننا ، ولمن يأتي بعدنا ، وقيل : يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم ، ويجوز للمتقدمين منا والأتباع ، وفي قراءة زيد : "لأولانا وأخرانا" ، والتأنيث بمعنى الأمة والجماعة عذابا : بمعنى تعذيبا ، والضمير في "لا أعذبه" للمصدر ، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء ، وروي أن عيسى - عليه السلام - لما أراد الدعاء لبس صوفا ، ثم قال : اللهم أنزل علينا ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها وأخرى تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى - عليه السلام - وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، وقال لهم : ليقم [ ص: 315 ] أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها . فقال شمعون رأس الحواريين : أنت أولى بذلك ، فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ، ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما ، وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد . فقال شمعون : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال : ليس منهما ، ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا الله ويزدكم من فضله ، فقال الحواريون : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال يا سمكة احيي بإذن الله ، فاضطربت . ثم قال لها : عودي كما كنت ، فعادت مشوية . ثم طارتالمائدة ، ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير ، وروي أنهم لما سمعوا بالشريطة وهي قوله تعالى : فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه قالوا : لا نريد فلم تنزل ، وعن الحسن : والله ما نزلت ، ولو نزلت لكان عيدا إلى يوم القيامة ، لقوله "وآخرنا" والصحيح أنها نزلت .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية