الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبهذا يظهر الجواب عما ذكره بعضهم في تقرير هذا الوجه، فإن بعضهم لما رأى ما أوردوه على ما ذكره الرازي حرر الدليل على وجه آخر فقال: القول بكون كل من الحركات الجزئية مسبوقا بأخرى لا إلى أول يستلزم المحال فيكون محالا.

بيان الأول: أن كل واحد منه من حيث إنه حادث يقتضي أن يكون مسبوقا بعدم أزلي، لأن كل حادث مسبوق بعدم أزلي، فهذا يقتضي أن تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل، ومن حيث إنه ما من جنس يفرض إلا ويجب أن يكون فرد منها موجودا يقتضي ألا تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل، وإلا لزم أن يكون السابق مقارنا للمسبوق، ولا شك أن اجتماعها في الأزل وعدم اجتماعها فيه متناقضان، فالمستلزم له محال.

فيقال لمن احتج بهذا الوجه: العدم الأزلي السابق على كل من الحوادث إن جعلته شيئا ثابتا في الأزل متميزا عن عدم الحادث الآخر فهذا ممنوع، فإن العدم الأزلي لا امتياز فيه أصلا ولا يعقل حتى يقال: إن هناك أعداما، ولكن إذا حدث حادث علم أنه انقضى عدمه الداخل في ذلك النوع الشامل لها، وليس شمول جنس الموجودات لها [ ص: 37 ] كشمول جنس العدم للمعدومات، فإن الموجودات لها امتياز في الخارج، فشخص هذا الموجود متميز في الخارج عن شخص الآخر، وأما العدم فليس بشيء أصلا في الخارج، ولا امتياز فيه بوجه من الوجوه.

ولكن هذا الدليل قد بني على قول من يقول: المعدوم شيء، ولا يبعد أن يكون الرازي أخذ هذا الوجه من المعتزلة القائلين بهذا، فإنهم يثبتون المعدوم شيئا، فيكون هذا الحادث في حال عدمه شيئا، وهذا الحادث في حال عدمه شيئا، وحينئذ فللحوادث أعدام متميزة ثابتة في الأزل.

وهؤلاء القائلون بهذا يقولون ذلك في كل معدوم ممكن، سواء حدث أو لم يحدث، فإذا قال القائل: "للحوادث أعدام أزلية ثابتة في الأزل متميزة" لم يتوجه إلا على قول هؤلاء، وهذا القول قد عرف فساده. وبتقدير تسليمه فيجاب عنه بما ذكره هؤلاء، وهو أن اجتماعه في الأزل بمعنى غير انتفاء البداية ممتنع، وعدم البداية ليس أمرا موجودا حتى يعقل فيه اجتماع.

وعلى هذا فيقال: لا نسلم أن الأزل شيء مستقر أو شيء موجود، وليس للأزل حد محدود حتى يعقل فيه اجتماع، بل الأزل عبارة عن عدم الابتداء، وما لا ابتداء له فهو أزلي، وما لا انتهاء له فهو أبدي، [ ص: 38 ] وما من حين يقدر موجودا إلا وليس هو الأزل، ففي كل حين بعضها موجود وبعضها معدوم، فوجود البعض مقارن لقدم البعض دائما، وحينئذ فاجتماعها في الأزل معناه اشتراكها في أن كل واحد ليس له أول، وعدم اجتماعها فيه معناه أنه لم يزل في كل حين واحد منها موجودا، وعدمه زائلا، ولا تناقض بين اشتراكها في عدم الابتداء، ووجود أشخاصها دائم، إلا إذا قيل: يمتنع جنس الحوادث الدائمة.

التالي السابق


الخدمات العلمية