الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولله ما في السماوات وما في الأرض كلام مستأنف سيق لبيان اختصاص ملكية جميع الكائنات به تعالى إثر بيان اختصاص طرف من ذلك به عز شأنه تقريرا لما سبق وتكملة له ، وتقديم الخبر للقصر ، (وما) عامة للعقلاء وغيرهم تغليبا أي له سبحانه ما في هذين النوعين ، أو ما في هاتين الجهتين ملكا وملكا وخلقا واقتدارا لا مدخل لأحد معه في ذلك ، فالأمر كله له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .

                                                                                                                                                                                                                                      يغفر لمن يشاء أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه ويعذب من يشاء أن يعذبه عدلا منه ، وإيثار كلمة ( من ) في الموضعين لاختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء ، وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى على غضبه .

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر الآية يدل على أن مغفرة الله تعالى وتعذيبه غير مقيدين بشيء ، بل قد يدعى أن التقييد مناف للسوق إذ هو لإثبات أنه سبحانه المالك على الإطلاق ، فله أن يفعل ما يشاء لا مانع له من مشيئته ولو كانت مغفرته مقيدة بالتوبة ، وتعذيبه بالظلم لم يكن فاعلا لما يشاء ، بل لما تستدعيه التوبة أو الظلم ، فالآية ظاهرة في نفي الوجوب على الله تعالى ، وأنه يجوز أن يغفر سبحانه للمذنب ويعذب المصلح ، وهو مذهب الجماعة ، وذهب المعتزلة إلى أن المغفرة مشروطة بالتوبة ، فمن لم يتب لا يجوز أن يغفر له أصلا ، وتمسكوا في ذلك بوجهين : الأول : الآيات والأحاديث الناطقة بوعيد العصاة ، الثاني : أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراء للغير عليه ، وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، وحملوا هذه الآية على التقييد وخصوا أمثالها من المطلقات بالصغائر أو الكبائر المقرونة بالتوبة وقالوا : إن المراد : يغفر لمن يشاء إذا تاب ، وجعلوا القرينة على ذلك أنه تعالى عقب قوله سبحانه : أو يعذبهم بقوله جل شأنه : فإنهم ظالمون وهو دليل على أن الظلم هو السبب الموجب فلا تعذيب بدونه ، ولا مغفرة مع وجوده ، فهو مفسر ( لمن يشاء ) وأيدوا كون المراد ذلك بما روي عن الحسن في الآية يغفر لمن يشاء بالتوبة ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين ويعذب من يشاء ولا يشاء أن يعذب إلا للمستوجبين ، وبما روي عن عطاء يغفر لمن يتوب عليه ويعذب من لقيه ظالما ، والجماعة [ ص: 52 ] تمسكوا بإطلاق الآيات ، وأجابوا عن متمسك المخالف ، أما عن الأول فبأن تلك الآيات والأحاديث على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب ، والنزاع فيه على أن كثرة النصوص في العفو تخصص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد ، وأما عن الثاني فبأن مجرد جواز العفو لا يوجب ظن عدم العقاب فضلا عن الجزم به ، وكيف يوجب جواز العفو العلم بعدم العقاب ، والعمومات الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع بالنسبة إلى كل واحد وكفى به زاجرا ، فكيف يكون العلم بجواز العفو تقريرا وإغراء على الذنب مع هذا الزاجر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأيضا إن الكثير من المعتزلة خصوا مثل قوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا بالصغائر ، فلو كان جواز العفو مستلزما كما زعموا للعلم بعدم العقاب لزم اشتراك الإلزام بأن يقال : إن المرتكب للصغائر إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراء للغير عليه وفيه من الفساد ما فيه ، وما جعلوه قرينة على التقييد معارض بما يدل على الإطلاق أعني قوله : ولله ما في السماوات وما في الأرض فإنه معطوف معنى على قوله جل اسمه : ليس لك من الأمر شيء ويدل ذلك على أن له سبحانه التصرف المطلق وهو على خلاف ما يقولون حيث جعلوا تصرفه ومشيئته مقيدا بأن يكون على مقتضى الحكمة ، والحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب ، ولا يخفى أنه في حيز المنع ؛ لأن المشيئة والحكمة كلاهما من صفاته تعالى لا تتبع إحداهما الأخرى ، وبتقدير الاستتباع لا نسلم أن الحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب على أن تعقيب أو يعذبهم بقوله عز وجل : فإنهم ظالمون لا يدل على أكثر من أن الظلم مفض إلى التعذيب ، ومن يمنع الإفضاء ، إنما المنع على أن يكون تفسيرا ( لمن يشاء ) وأين الدلالة على أن كل ظلم كذلك ولا عموم للفظ ولا هو من قبيل مفهوم الصفة ليصلح متمسكا في الجملة ، وما نقل عن الحسن ، وعطاء ، لا يعرف له سند أصلا ، ومن ادعاه فليأت به إن كان من الصادقين ، ومما يدل على كذبه أن فيه حجرا على الرحمة الواسعة وتضييق مسالكها من غير دليل قطعي ، ولا يظن بمثل الحسن هذا القبيح ، سلمنا الصدق وعدم لزوم ما ذكر ، لكن قول الحسن ونحوه لا يترك له ظاهر الكتاب ، والحق أحق بالاتباع .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قال الخصم : نحن نتمسك في هذا المطلب بلزوم الخلف ، قلنا : يكون رجوعا إلى الاستدلال بالمعقول ، وقد أذقناكم الموت الأحمر فيه لا بالآيات فتبقى دلالة هذه الآية على عمومها وهو مطلوبنا هنا ، على أن هذه الآية واردة في الكفار على أكثر الروايات ، ومعتقد الجماعة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان كما يفصح عنه قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وليسوا محل خلاف بين الطائفتين ، فمن استدل بها من المعتزلة على غرضه الفاسد فقد ضل سواء السبيل .

                                                                                                                                                                                                                                      والله غفور رحيم (129) تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى : ( يغفر لمن يشاء ) مع زيادة ، وفي تخصيص التذييل به إشارة إلى ترجيح جهة الإحسان والإنعام ، وفيه ما يؤيد مذهب الجماعة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية