الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ابتداء كلام مشتمل على أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميما لما سلف من الإرشاد إلى ما هو الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد ، ولعل إيراد النهي عن الربا بخصوصه هنا لما أن الترغيب في الإنفاق في السراء والضراء الذي عمدته الإنفاق في سبيل الجهاد متضمن للترغيب في تحصيل المال ، فكان مظنة مبادرة الناس إلى طرق الاكتساب ومن جملتها بل أسهلها الربا فنهوا عنه . [ ص: 55 ] وقدمه على الأمر اعتناء به وليجيء ذلك الأمر بعد سد ما يخدشه ، وقال القفال : يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلا بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين قد اجتمعت من الربا ، وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر ، وكان من الممكن أن يصير ذلك داعيا للمسلمين إلى الإقدام عليه كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر أيضا ويتمكنوا من الانتقام من عدوهم ، فورد النهي عن ذلك رحمة عليهم ولطفا بهم ، وقيل : إنه تعالى شأنه لما ذكر أن له التعذيب لمن يشاء والمغفرة لمن يشاء وصل ذلك بالنهي عما لو فعلوه لاستحقوا عليه العقاب وهو الربا ، وخصه بالنهي لأنه كان شائعا إذ ذاك وللاعتناء بذلك لم يكتف بما دل على تحريمه مما في سورة البقرة بل صرح بالنهي ، وساق الكلام له أولا وبالذات إيذانا بشدة الحظر .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد من الأكل الأخذ ، وعبر به عنه لما أنه معظم ما يقصد به ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة التشنيع ، وقد تقدم الكلام في الربا أضعافا مضاعفة حال من الربا ، والأضعاف جمع ضعف ، وضعف الشيء مثله ، وضعفاه مثلاه ، وأضعافه أمثاله ، وقال بعض المحققين : الضعف اسم ما يضعف الشيء ، كالثني اسم ما يثنيه ، من ضعفت الشيء بالتخفيف فهو مضعوف على ما نقله الراغب بمعنى ضعفته وهو اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر فأكثر ، والنظر فيه إلى فوق بخلاف الزوج فإن النظر فيه إلى ما دونه فإذا قيل : ضعف العشرة لزم أن تجعلها عشرين بلا خلاف لأنه أول مراتب تضعيفها ، ولو قال : له عندي ضعف درهم لزمه درهمان ضرورة الشرط المذكور ، كما إذا قيل : هو أخو زيد اقتضى أن يكون زيد أخاه ، وإذا لزم المزاوجة دخل في الإقرار ، وعلى هذا له ضعفا درهم منزل على ثلاثة دراهم ، وليس ذلك بناء على ما يتوهم أن ضعف الشيء موضوعه مثلاه وضعفيه ثلاثة أمثاله ، بل ذلك لأن موضوعه المثل بالشرط المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا معزى الفقهاء في الأقارير والوصايا ، ومن البين أنهم ألزموا في ضعفي الشيء ثلاثة أمثاله ، ولو كان موضوع الضعف المثلين لكان الضعفان أربعة أمثال ، وليس مبناه العرف العامي بل الموضوع اللغوي ، كما قال الأزهري .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا ظهر أنه لو قال : له علي الضعفان درهم ودرهم أو الضعفان من الدراهم لم يلزم إلا درهمان كما لو قال الأخوان ، ثم قال : والحاصل أن تضعيف الشيء ضم عدد آخر إليه ، وقد يزاد ، وقد ينظر إلى أول مراتبه ؛ لأنه المتيقن ، ثم إنه قد يكون الشيء المضاعف مأخوذا معه فيكون ضعفاه ثلاثة ، وقد لا يكون فيكون اثنين وهذا كله موضوع له في اللغة لا العرف ، وليس هذه الحال لتقييد المنهي عنه ليكون أصل الربا غير منهي بل لمراعاة الواقع ، فقد روى غير واحد أنه كان الرجل يربي إلى أجل ، فإذا حل قال للمدين : زدني في المال حتى أزيدك بالأجل فيفعل وهكذا عند كل أجل ، فيستغرق بالشيء الضعيف ماله بالكلية فنهوا عن ذلك ونزلت الآية ، وقرئ – مضعفة - بلا ألف مع تشديد العين .

                                                                                                                                                                                                                                      واتقوا الله أي فيما نهيتم عنه ومن جملته أكل الربا لعلكم تفلحون (130) أي لكي تفلحوا أو راجين الفلاح ، فالجملة حينئذ في موضع الحال قيل : ولا يخفى أن اقتران الرجاء بالتخويف يفيد أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف فهما جناحاه اللذان يطير بهما إلى حضائر القدس .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية