الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما

                                                          * * *

                                                          ما قبل هذا النص الكريم كان في وجوب إطاعة الله تعالى ورسوله، ووجوب إطاعة أولي الأمر الذين ينفذون حكم الله تعالى ويقومون على رعاية [ ص: 1740 ] شرعه، ويرجعون إليه في وفاقهم وفي اختلافهم. وكان فيما سبق أيضا بيان أن من يتركون حكم الله ورسوله، إنما يتحاكمون عند تركه إلى الظلم والطغيان; لأن ما جاء به الشرع هو الحق الذي لا شك فيه، وماذا بعد الحق إلا الضلال، وماذا بعد ترك حكم الله إلا حكم الطغيان!!

                                                          وفي الآيات التالية يبين سبحانه أن الالتجاء إلى حكم الله تعالى، عندما يكون الخلاف، هو من الإيمان، فمن ترك حكم الله إلى غيره عامدا مستهينا بحكم الله، أو منكرا عدالته وصلاحيته، لا يعد مؤمنا ولا يعد آخذا بحكم الرسالة، ولذا قال سبحانه وتعالى:

                                                          وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ومعنى النص السامي: لا نرسل أي رسول في أي أمة، إلا كان من شأنه أن يطاع، وهذه الطاعة اللازمة على من أرسل إليهم هي بإذن الله بطاعته، فالله تعالى هو الذي يأمر بطاعته، ومن عصاه فإنما يعصى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله: من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء]. وفي الأثر الصحيح: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني" أي أن من يعصي الأمير المعين من قبل الرسول، أو الذي عين على مقتضى أحكام شريعته، فقد عصى الله، فليس كل أمير يعد أميرا للرسول.

                                                          وقوله تعالى: وما أرسلنا من رسول يدل على أبلغ عموم وأبلغ استغراق، إذ تأكد الاستغراق بالتنكير وبحرف (من) وبالنفي والإثبات، وإن هذا يدل على أن الطاعة هي مقتضى الرسالة، فأساس الإيمان بالرسالة الإيمان بأن ما يبلغ إنما يبلغ عن الله تعالى، ولقد أيد سبحانه وتعالى هذا المعنى وهو التبليغ عن الله تعالى بقوله: بإذن الله فكل أمر يأمر به هو من الله تعالى، وكل ما [ ص: 1741 ] ينهى عنه هو من الله تعالى، كما قال تعالى: إن هو إلا وحي يوحى [النجم]. ويجرنا الكلام في هذا إلى الكلام في اجتهاد النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل طاعته واجبة فيه بإذن من الله، وبعبارة أخرى: أهو لا يخطئ فتجب الطاعة، ويكون ما ينتهي إليه في الاجتهاد هو كالموحى به؟ والجواب عن ذلك: أنه يجوز الخطأ على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الاجتهاد في بيان بعض الأحكام، ويجوز الخطأ عليه في القضاء إذا لبس الخصوم. والخطأ الأول قد وقع، فقد اجتهد مع أصحابه في معاملة الأسرى، وخطأهم الله في اجتهادهم في ذلك الموضع. وقد فرض عليه الصلاة والسلام جواز الخطأ في القضاء، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من البعض الآخر، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقتطع له قطعة من النار". ولكن الخطأ في الأحكام لا يمكن أن يقره الله تعالى عليه، بل يبينه، لسلامة النقل عن الله تعالى، وليكون كل ما يأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- حقا، وليتحقق معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه". وكذلك لا يجتهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في قضائه [ ص: 1742 ] ويكون باطلا; لأنه يكون ظلما، ولا يقع منه عليها الصلاة والسلام، وقوله السابق في هذا من قبيل فرض التقصير في نفسه، كما فرض التقصير في كثير من أمره تنزها عن الغرور، وتوجيها لنا. ولعل قوله عليه الصلاة والسلام لتعليم الناس قول الحق في مجلس القضاء، وليبين لهم أن إثم خطأ القاضي يقع عليهم، والقضاء لا يبرر الباطل ولا يغمط الحق، فإن أخطأ لا يحل دينا لمن كان الخطأ لمصلحته أن يأكل مال أخيه، أو يغمط حقه.

                                                          ولقد ذهبت الجرأة ببعض الذين يتكلمون في الفقه إلى أن ما يكون باجتهاد من النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يكون حجة. كأن النبي يمكن أن يقر على الخطأ في اجتهاده! وذلك كلام باطل لا يكون إلا من مستهين بمقام النبوة، وتبليغ الرسالة! ولقد قال بعض المالكية وقولهم الحق: إن كل من لم يرض بحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- وطعن فيه ورده، فهي ردة يستتاب فاعلها. فأولى بهؤلاء أن يصمتوا ولا يتكلموا، فكلامهم تلبيس وأوهام لا تصدر عن عالم في الدين يفهم حقائقه، ويدرك معانيه!.

                                                          طاعة الرسول إذن واجبة في كل ما يأمر به على أنه دين واجب الأخذ به، وكل من يعاند الرسول في حكمه يكون ظالما لنفسه; لأنه تمرد على أمر ربه، ولأنه اختار الباطل بدل الحق، ويجب عليه التوبة والاستغفار. ولذا قال تعالى في أولئك الذين يتمردون على أحكام الرسول وقضائه:

                                                          ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما أي: لو ثبت أن أولئك الذين تحاكموا إلى الطغيان والظلم، من اليهود أو المنافقين، وظلموا أنفسهم بخروجهم عن جادة الحق وردهم الحق الثابت، جاءوا إليك تائبين راجعين، فطلبوا غفران الله تعالى، وطلبت لهم ذلك، لعلموا علم اليقين أن الله كثير القبول للتوبة، رحيم بعباده، يفتح باب المغفرة ليدخلوه آمنين مطمئنين إليه، وما سلكوه من طريق الضلال يغفر لهم سلوكه; لأن الله تعالى يحب قبول التوبة ويحب المغفرة. وإن مثلهم كمثل الناقة [ ص: 1743 ] الشاردة التي يراها صاحبها، يضع لها أسباب التقريب، فإذا عادت إليه فرح بعودتها، بيد أن أحدا من عباد الله لا ينفعه!.

                                                          وهنا إشارات بيانية يجب التنبيه إليها:

                                                          أولاها: أن الله تعالى سمى الذين تحاكموا إلى غير الشرع ظالمين لأنفسهم، يستوي في ذلك من حكم له ومن حكم عليه; لأن تحكيم الطاغي الظالم هو بث للظلم ونشر له، وإذا شاع الظلم وكثر شاع معه الفساد والاضطراب، ومن فعل ما يؤدي إلى ذلك هو ظالم لنفسه، وظالم لجماعته التي يعيش فيها.

                                                          وثانيتها: أن الله تعالى قرن الاستغفار من الرسول بالاستغفار له، ليشير بهذا إلى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يقول من عند نفسه، بل يقول عن الله تعالى، ولتكريم مقام الرسالة ومقام الحاكم العادل، فإن الإعراض عنه استهانة به، والاستهانة بالحاكم العادل تؤدي إلى الفوضى وعدم استقرار الأحكام.

                                                          والثالثة: أن قوله تعالى: واستغفر لهم الرسول فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، ويقول الزمخشري في ذلك "لم يقل: (واستغفرت لهم) وعدل عنه إلى طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتعظيما لاستغفاره. وتنبيها على أن شفاعة من اسمه رسول من الله بمكان". فالالتفات كما نرى للتنبيه إلى مكانة الرسالة، وتفخيمها، ولبيان أن شفاعة الرسول بمقتضى كونه رسولا، لها مقامها من الله تعالى، وفوق ذلك أن الالتفات يؤدي إلى أن يكون الاستغفار للرسول بوصف أنه رسول، فالباعث على وجوب الاستغفار له هو أنه يبلغ رسالة الله، فترك حكمه استهانة بحكم الله، وهو رسول الله، ورسول الله له حق الكرامة الكاملة.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية