الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : لا تحسبن الذين يفرحون الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 171 ] أخرج أحمد، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي في "الشعب" من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل - معذبا، لنعذبن أجمعين . فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس : (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس) الآية . وتلا : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا الآية . فقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري ومسلم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي سعيد الخدري، أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 172 ] وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم، أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان وهو أمير بالمدينة، فقال مروان : يا رافع، في أي شيء نزلت هذه الآية : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا قال رافع : أنزلت في ناس من المنافقين، كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقالوا : ما حبسنا عنكم إلا الشغل، فلوددنا أنا كنا معكم، فأنزل الله فيهم هذه الآية، فكأن مروان أنكر ذلك فجزع رافع من ذلك، فقال لزيد بن ثابت : أنشدك بالله، هل تعلم ما أقول؟ قال : نعم، فلما خرجا من عند مروان قال له زيد : ألا تحمدني شهدت لك؟ قال : أحمدك أن تشهد بالحق . قال : نعم، قد حمد الله على الحق أهله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : هؤلاء المنافقون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : لو قد خرجت لخرجنا معك . فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم تخلفوا وكذبوا، ويفرحون بذلك ويرون أنها حيلة احتالوا بها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال : يعني فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا أن يقول لهم الناس : علماء، وليسوا بأهل علم، لم [ ص: 173 ] يحملوهم على هدى ولا خير ويحبون أن يقول لهم الناس : قد فعلوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي ، عن ابن عباس في الآية قال : هم أهل الكتاب، أنزل عليهم الكتاب، فحكموا بغير الحق، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فرحوا أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ويصومون ويصلون ويطيعون الله، فقال الله لمحمد : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا كفروا بالله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصوم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن الضحاك في الآية قال : إن اليهود كتب بعضهم إلى بعض : إن محمدا ليس بنبي فأجمعوا كلمتكم، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم، ففعلوا ففرحوا بذلك وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال : كتموا اسم محمد ففرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه، وكانوا يزكون أنفسهم فيقولون : نحن أهل الصيام، وأهل الصلاة، وأهل الزكاة، ونحن على دين إبراهيم . فأنزل الله [ ص: 174 ] فيهم : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا من كتمان محمد صلى الله عليه وسلم ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا أحبوا أن تحمدهم العرب بما يزكون به أنفسهم وليسوا كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا قال : بكتمانهم محمدا صلى الله عليه وسلم ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا قال : هو قولهم : نحن على دين إبراهيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في الآية قال : يهود، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب، وحمدهم إياهم عليه، ولا تملك يهود ذلك، ولن تفعله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في الآية قال : هم اليهود يفرحون بما آتى الله إبراهيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به، وأنهم متابعوه، وهم متمسكون بضلالتهم، وأرادوا أن يحمدهم النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا، فأنزل الله : لا تحسبن الذين يفرحون الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، من وجه آخر عن قتادة في الآية قال : إن [ ص: 175 ] أهل خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا : إنا على رأيكم وإنا لكم ردء، فأكذبهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : إن اليهود من أهل خيبر قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد قبلنا الدين، ورضينا به . فأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : كان في بني إسرائيل رجال عباد فقهاء، فأدخلتهم الملوك، فرخصوا لهم وأعطوهم، فخرجوا وهم فرحون بما أخذت الملوك من قولهم وما أعطوا، فأنزل الله : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن إبراهيم في قوله : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا قال : ناس من اليهود جهزوا جيشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج مالك ، وابن سعد، والطبراني ، والبيهقي في "الدلائل"، عن محمد بن ثابت، أن ثابت بن قيس قال : يا رسول الله، لقد خشيت أن أكون قد [ ص: 176 ] هلكت . قال : «لم؟» قال : نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال، ونهانا أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا رجل جهير الصوت، فقال : «يا ثابت، ألا ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟» فعاش حميدا، وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني عن محمد بن ثابت قال : حدثني ثابت بن قيس بن شماس قال قلت : يا رسول الله، لقد خشيت . فذكره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن الأحنف بن قيس أن رجلا قال له : ألا تميل فنحملك على ظهر؟ قال : لعلك من العراضين؟ قال : وما العراضون؟ قال : الذين ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، إذا عرض لك الحق فاقصد له، واله عما سواه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن يعمر : (فلا يحسبنهم) يعني أنفسهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد ، أنه قرأ : (فلا يحسبنهم) على الجماع، [ ص: 177 ] بكسر السين ورفع الباء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله : بمفازة قال بمنجاة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن زيد، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية