الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد اعترف الرازي بحيرته في مسائل الذات والصفات والأفعال، وهو تارة يقول بقول هؤلاء، وتارة يقول بقول هؤلاء. والآمدي متوقف في مسائل الوجود والذات ونحو ذلك، مع أنه لم يذكر دليلا على إثبات واجب الوجود ألبتة. فإنه ظن أن الطرق المذكورة ترجع إلى الاستدلال بالإمكان على المرجح الموجب، فلم يسلك في إثبات واجب الوجود إلا هذه الطريقة التي هي طريقة ابن سينا، لكن ابن سينا وأتباعه قرروها أحسن من تقرير الآمدي، فإن أولئك أثبتوا واجب الوجود بالبرهان العقلي الذي لا ريب فيه، لكن احتجوا على مغايرته للموجودات المحسوسة بطريقتهم المبنية على نفي الصفات وهي باطلة. وأما الآمدي فلم يقرر إثبات واجب الوجود بحال، بل قال في كتاب أبكار الأفكار في أعظم مسائل الكتاب وهي مسألة إثبات واجب الوجود: مذهب أهل الحق من المتشرعين وطوائف الإلهيين القول بوجوب [ ص: 89 ] وجود موجود وجوده لذاته لا لغيره، وكل ما سواه فمتوقف في وجوده عليه خلافا لطائفة شاذة من الباطنية، ومنشأ الاحتجاج على ذلك ما نشاهده من الموجودات العينية، ونتحققه من الأمور الحسية، فإنه إما أن يكون واجبا لذاته، أو لا يكون واجبا لذاته، فإن كان الأول فهو المطلوب، وإن كان الثاني فكل موجود لا يكون واجبا لذاته فهو ممكن لذاته، لأنه لو كان ممتنعا لذاته لما كان موجودا، وإذا كان ممكنا فالوجود والعدم عليه جائزان، وعند ذلك، فإما أن يكون في وجوده مفتقرا إلى مرجح أو غير مفتقر إليه، فإن لم يكن مفتقرا إلى المرجح فقد ترجح أحد الجائزين من غير مرجح، وهو ممتنع، وإن افتقر إلى المرجح فذلك المرجح إما واجب لذاته أو لغيره، فإن كان الأول فهو مطلوب، وإن كان الثاني فذلك الغير إما أن يكون معلولا لمعلوله أو لغيره، فإن كان الأول فيلزم أن يكون كل واحد منهما مقوما للآخر، ويلزم من ذلك أن يكون كل واحد منهما مقوما لمقوم نفسه، فيكون كل واحد منهما مقوما لنفسه، لأن مقوم المقوم مقوم، وذلك يوجب جعل كل واحد من الممكنين متقوما بنفسه، والمقوم بنفسه لا يكون ممكنا، وهو خلاف الفرض. ولأن التقويم إضافة بين المقوم [ ص: 90 ] والمقوم، فيستدعي المغايرة بينهما، ولا مغايرة بين الشيء ونفسه، وإن كان الثاني: وهو أن يكون ذلك الغير معلولا للغير، فالكلام في ذلك الغير كالكلام في الأول، وعند ذلك فإما أن يقف الأمر على موجود هو مبدأ الموجودات غير مفتقر في وجوده إلى غيره، أو يتسلسل الأمر إلى غير النهاية، فإن كان الأول فهو المطلوب، وإن كان الثاني فهو ممتنع.

ثم ذكر الأدلة المتقدمة على إبطال التسلسل وبين فسادها كلها كما تقدم حكاية قوله، واختار الحجة المذكورة عنه التي حكيناها، فقال: "وإن كانت العلل والمعلولات المفروضة موجودة معا، فلا يخفى أن النظر إلى الجملة غير النظر إلى كل واحد واحد من آحادها، فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد، وعند ذلك فالجملة موجودة، وهي إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة، لا جائز أن تكون واجبة، وإلا لما كانت آحادها ممكنة، وقد قيل: إنها ممكنة [ ص: 91 ] كما سبق، وإن كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب، وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح، والمرجح إما أن يكون داخلا فيها أو خارجا عنها، لا جائز أن يقال بالأول، فإن المرجح للجملة مرجح لآحادها، ويلزم أن يكون مرجحا لنفسه ضرورة كونه من الآحاد، ويخرج بذلك عن أن يكون ممكنا، وهو خلاف الفرض، وأن يكون مرجحا لعلته لكونه من الآحاد، وفيه جعل العلة معلولا والمعلول علة، وهو دور ممتنع. وإن كان المرجح خارجا عنها فهو إما ممكن أو واجب، فإن كان ممكنا فهو من الجملة، وهو خلاف الفرض، فلم يبق إلا أن يكون واجبا لذاته، وهو المطلوب".

قلت: فهذه الطريقة التي ذكرها لم يذكر غيرها في إثبات الصانع. ثم أورد على نفسه أسئلة كثيرة، منها قول المعترض: لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي ليصح ما ذكرتموه، ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهي، مع إشعاره بالحصر، صحته في غير المتناهي، سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وأنه ممكن. [ ص: 92 ] ولكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية وعند ذلك فلا يلزم أن يكون معللا بغير علة الآحاد. سلمنا أنه زائد على الآحاد، ولكن ما المانع أن يكون مترجحا بآحاده الداخلة فيه، لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه، بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من الآحاد بالآخر إلى غير النهاية، وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة، ولا أن يكون المرجح للجملة مرجح لنفسه ولا لعلته.

ثم قال في الجواب: قولهم: لا نسلم أن مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية. قلنا: إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الإحالة. وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد، فلا خفاء بكونه زائدا على كل واحد من الآحاد، وهو المطلوب. قولهم: ما المانع من أن تكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه؟ قلنا: إما أن يقال: تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها [ ص: 93 ] أو بواحد منها، فإن كان بواحد منها فالحال الذي ألزمناه حاصل، وإن كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المفروضة، وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال.

التالي السابق


الخدمات العلمية