الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      أحمد بن عبد الملك بن هود

                                                                                      الملقب بالمستنصر بالله الأندلسي من بيت مملكة وحشمة ، وأموال عظيمة ، وكان بيده قطعة من الأندلس ، فاستعان بالفرنج على إقامة دولته .

                                                                                      ذكره اليسع بن حزم ، فقال : انعقد الصلح بين المستنصر بن هود وبين السليطين ملك الروم وهو ابن بنت أذفونش إلى مدة عشرين سنة ، على أن يدفع للفرنج روطة ، ويدفعوا إليه حصونا عوضها ، ويعينوه بخمسين ألفا من الروم ، يخرج بها إلى بلاد المسلمين ليملك ، فجعل الله تدميره في تدبيره ، وكنا نجد في الآثار عن السلف فساد الأندلس على يدي بني هود ، [ ص: 42 ] وصلاحها بعد على أيديهم ، فخرج اللعين السليطين وابن هود في نحو من أربعين ألف فارس ، وتاشفين بالزهراء ، فقصد ابن هود جهة إشبيلية ، وبقي ينفق على جيوش السليطين نحو ثمانية أشهر ، وشرط عليهم أنهم لا يأسرون أحدا ، فحدثني المستنصر -وقد ندم على فعله من شيطنة الشبيبة وطلب ملك آبائه- فقال لي : الذي أنفقت في تلك السفرة من الذهب الخالص ثلاثة آلاف ألف دينار ، والذي دفعت إليهم من مخازن روطة من الدروع أربعون ألف درع ، ومن البيض مثلها ، ومن الطوارق ثلاثون ألفا .

                                                                                      وذكر لي جماعة أنه دفع إلى السليطين خيمة كان يحملها أربعون بغلا ، وذكر لي محمد بن مالك الشاعر أنه أبصر تلك الخيمة ، قال : فما سمع بأكبر منها قط ، ولما طالت إقامته على البلاد ، ولم يخرج إلى ابن هود أحد ، رجع ومعه ابن هود ، ولم يكن مع ابن هود إلا نحو من مائتي فارس ، فأقام ابن هود بطليطلة ليذهب منها إلى حصونه التي عوض بها - بئس للظالمين بدلا - ثم إن قرطبة اضطرب أمرها ، واشتغل أمير المسلمين بما دهمه من خروج التومرتية فجاء المستنصر بالله أحمد من مدينة غرليطش ، وقصد قرطبة .

                                                                                      وكان محببا إلى الناس بالصيت ، فبرز إليه ابن حمدين زعيم قرطبة بعسكرها ، فقصد عسكرها نحو ابن هود طائعين ، ففر حينئذ ابن حمدين إلى بليدة ، ودخل ابن هود قرطبة بلا كلفة ولا ضربة ولا طعنة ، فاستوزر أبا سعيد المعروف بفرج الدليل ، وكاتب نواب البلاد ، ففرحوا به لأصالته في الملك ، ثم خرج فرج الدليل إلى حصن المدور ، فقيل لابن هود : قد نافق وفارق ، فخرج بنفسه ، واستنزله من [ ص: 43 ] الحصن ، فنزل غير مظهر خلافا ، وكان رجلا صالحا ، فقتله صبرا ، فساء ذاك أهل قرطبة ، وثارت نفوسهم ، وعظم عليهم قتل أسد من أسد الله ، فزحفوا إلى القصر ، ففر ابن هود من قرطبة ، فقصدها ابن حمدين ، فأدخله أهله ، وكثر الهيج ، واشتد البلاء بالأندلس ، وغلت مراجل الفتنة .

                                                                                      وأما أبو محمد بن عياض ، فكان على مملكة لاردة ، فخرج في خمس مائة فارس ، ليسعى في إصلاح أمر الأمة ، وقصده أهل مرسية وبلنسية ليملكوه عليهم ، فامتنع ، ثم بايع أهل بلنسية عن الخليفة عبد الله العباسي ، ثم اتفق ابن عياض وابن هود على أن اسم الخلافة لأمير المؤمنين العباسي ، وأن النظر في الجيوش والأموال لابن عياض -رحمه الله ، وأن السلطنة لابن هود .

                                                                                      قال اليسع : فكتبت بينهما عهدا هذا نصه :

                                                                                      كتاب اتفاق ونظام وائتلاف لجمع كلمة الإسلام يفرح به المؤمنون ، انعقد بين الأمير المستنصر بالله أحمد ، وبين المجاهد المؤيد أبي محمد عبد الله بن عياض ، وصل الله بهما أبواب التوفيق . . . إلى أن قال : وأنا لي في جزيرة الأندلس غرباء في مادة الروم ، فلم لا تعزم على إذاعة العدل وتروم ؟ وقد توجه نحوكم كاتبنا ابن اليسع ، وكل ما عقده وفي أموركم اعتمده أمضيناه .

                                                                                      قال : فلما وصلت المدينة ، وقرأت الكتاب ، فرحوا . . .

                                                                                      إلى أن قال : فأغارت الروم على أحواز شاطبة ، فبعثني عبد الله بن عياض إلى المستنصر يقول له : أنا أحتفل للقاء القوم ، فلا تخرج . فلما جئته بهذه الرسالة ، قال لي : إنما تريد أن تفسد ما بيني وبين الروم من وكيد الذمة ، وإذا أنا خرجت ، واجتمعت بملوكهم ، ردوا ما أخذوه ، فأعلمت ابن عياض ، فقال لي : يحسب هذا أن الروم تفي له ، سيتبع رأيي حين لا [ ص: 44 ] ينفعه ، فتضرعت إلى المستنصر ، فأبى ، فخرجنا جميعا نؤم العدو ، حتى وصلنا ، فأمراني بكتابين عنهما إلى الملكين مونق وفراندة ، وكتاب عن ابن عياض إلى صهره أبي محمد ليصل بعسكر بلنسية ، فقال له ابن عياض : يقرب صيدنا ، والحرب خدعة ، فأبى ، وقال : إذا وصلهم كتابي ، ردوا الغنائم ، فلم يغن كتابه شيئا .

                                                                                      إلى أن قال : فالتقينا نحن والروم ، فكمنوا لنا ألفي فارس ، وظهر لنا أربعة آلاف ، ونحن نحو الألفين ، ووقع الحرب ، فمات من أهل بلنسية نحو سبع مائة ، ومن الروم نحو الألف ، وفر أهل مرسية عن ابن عياض ، وفر ابن هود ، فثبت ابن عياض في نحو مائة فارس ، وانكسرت الروم ، لكن خرج كمينهم ، فانكسرنا بعد بأس شديد ، واستشهد الأمير أبو محمد عبد الله بن مردنيش صهر ابن عياض ، وأحمد بن مردنيش ، فشق حينئذ ابن عياض وسط الروم ، وجاز نهر شقر حتى وصل مدينة جنجالة ، وتوصل الفل إليه ، وفقدنا ابن هود ، ودخلنا مرسية ، واستبشر أهلها بسلامة الملك المجاهد عبد الله بن عياض وذلك سنة بضع وثلاثين وخمس مائة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية