الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الطبراني، والبيهقي في "الدلائل"، من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : قدم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف مكة على قريش، فحالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم : أنتم أهل العلم القديم، وأهل الكتاب، فأخبرونا عنا وعن محمد . قالوا : ما أنتم وما محمد؟ قالوا : ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ونصل الأرحام، قالوا : فما محمد؟ قالوا : صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، قالوا : لا بل أنتم خير منهم وأهدى سبيلا . فأنزل الله : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت إلى آخر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 481 ] وأخرجه سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة مرسلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال : نعم، قالوا : ألا ترى إلى هذا المنصبر المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية! قال : أنتم خير منه، فأنزلت : إن شانئك هو الأبتر [الكوثر : 3] وأنزلت : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت إلى قوله : نصيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يغزوه، وقال : إنا معكم نقاتله، فقالوا : إنكم أهل كتاب، وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين، وآمن بهما . ففعل، ثم قالوا : نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم ونقري الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه، وخرج من بلده، قال : بل أنتم خير [ ص: 482 ] وأهدى، فنزلت فيه : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الآية قال : أنزلت في كعب بن الأشرف، قال : كفار قريش أهدى من محمد عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : لما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود من النضير ما كان، حين أتاهم يستعينهم في دية العامريين فهموا به وبأصحابه، فأطلع الله رسوله على ما هموا به من ذلك، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة، فعاهدهم على محمد، فقال له أبو سفيان : يا أبا سعيد، إنكم قوم تقرءون الكتاب، وتعلمون، ونحن قوم لا نعلم، فأخبرنا : ديننا خير أم دين محمد؟ قال كعب : اعرضوا علي دينكم، فقال أبو سفيان : نحن قوم ننحر الكوماء، ونسقي الحجيج الماء، ونقري الضيف، ونعمر بيت ربنا، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه . قال : دينكم خير من دين محمد فاثبتوا عليه، ألا ترون أن محمدا يزعم أنه بعث بالتواضع وهو ينكح من النساء ما شاء، وما نعلم ملكا أعظم من ملك النساء . فذلك حين يقول : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 483 ] وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، عن ابن عباس قال : كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق وأبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وأبو عمار، ووحوح بن عامر، وهوذة بن قيس، فأما وحوح وأبو عمار، وهوذة فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول، فسلوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا : بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه . فأنزل الله فيهم : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله : ملكا عظيما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في "الدلائل"، وابن عساكر في "تاريخه"، عن جابر بن عبد الله قال : لما كان من كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان، اعتزل كعب بن الأشرف ولحق بمكة، وكان بها، وقال : لا أعين عليه ولا أقاتله . فقيل له بمكة : يا كعب، أديننا خير أم دين محمد وأصحابه؟ قال : دينكم خير وأقدم، ودين محمد حديث . فنزلت فيه : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في الآية قال : ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت في كعب بن الأشرف وحيي بن [ ص: 484 ] أخطب؛ رجلين من اليهود من بني النضير أتيا قريشا بالموسم، فقال لهم المشركون : أنحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ فإنا أهل السدانة والسقاية وأهل الحرم؟ فقالا : لا، بل أنتم أهدى من محمد وأصحابه، وهما يعلمان أنهما كاذبان، إنما حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن عكرمة قال : الجبت والطاغوت : صنمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، ورستة في "الإيمان"، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : الجبت : الساحر، والطاغوت : الشيطان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير من طرق عن مجاهد ، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الجبت : حيي بن أخطب، والطاغوت : كعب بن الأشرف .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 485 ] وأخرج ابن جرير عن الضحاك، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الجبت : الأصنام، والطاغوت : الذي يكون بين يدي الأصنام، يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الجبت : اسم الشيطان بالحبشية، والطاغوت : كهان العرب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : الجبت : الشيطان بلسان الحبش، والطاغوت : الكاهن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : الجبت : الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت : الكاهن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عن أبي العالية قال : الطاغوت : الساحر، والجبت : الكاهن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : كنا نحدث أن الجبت شيطان، والطاغوت الكاهن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق ليث، عن مجاهد قال : [ ص: 486 ] الجبت : كعب بن الأشرف، والطاغوت : الشيطان، كان في صورة إنسان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، عن قبيصة بن مخارق، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج رستة في الإيمان عن مجاهد في قوله : ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا قال : اليهود تقول ذلك؛ يقولون : قريش أهدى من محمد وأصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : أم لهم نصيب من الملك قال : فليس لهم نصيب، ولو كان لهم نصيب لم يؤتوا الناس نقيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في الآية يقول : لو كان [ ص: 487 ] لهم نصيب من ملك إذن لم يؤتوا محمدا نقيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، من طرق خمسة، عن ابن عباس قال : النقير : النقطة التي في ظهر النواة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطستي في "مسائله" عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن النقير قال : ما في شق ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة، قال : وهل تعرف العرب ذلك قال : نعم، أما سمعت قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      وليس الناس بعدك في نقير وليسوا غير أصداء وهام



                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن الأنباري في "الوقف والابتداء"، عن ابن عباس ، أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قول الله : فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ما النقير؟ قال : ما في ظهر النواة، قال فيه الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      لقد رزخت كلاب بني زبير     فما يعطون سائلهم نقيرا



                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، من طريق أبي العالية عن ابن عباس قال : هذا النقير؛ ووضع طرف الإبهام على باطن السبابة، ثم نقرها .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية