الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 232 ] كتاب الإكراه قال ( الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به سلطانا كان أو لصا ) [ ص: 233 ] لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره مع بقاء أهليته ، وهذا إنما يتحقق إذا خاف المكره تحقيق ما توعد به ، وذلك إنما يكون من القادر والسلطان وغيره سيان عند تحقق القدرة ، والذي قاله أبو حنيفة إن الإكراه لا يتحقق إلا من السلطان لما أن المنعة له والقدرة لا تتحقق بدون المنعة .

فقد قالوا هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان ، ولم تكن القدرة في زمنه إلا للسلطان ، ثم بعد ذلك تغير الزمان وأهله ، ثم كما تشترط قدرة المكره لتحقق الإكراه يشترط خوف المكره وقوع ما يهدد به ، وذلك بأن يغلب على ظنه أنه يفعله ليصير به محمولا على ما دعي إليه من الفعل .

التالي السابق


( كتاب الإكراه ) قيل في مناسبة الوضع لما ذكر ولاء العتاقة لمناسبة المكاتب ، وذكر ولاء الموالاة لمناسبة ولاء العتاقة لاق إيراد الإكراه عقيب ولاء الموالاة لمناسبة أن في كل منهما تغير حال المخاطب من الحرمة إلى الحل ، فإن ولاء الموالاة يغير حال المخاطب الذي هو المولى الأعلى من حرمة تناول مال المولى الأسفل بعد موته إلى حله بالإرث ، فكذلك الإكراه يغير حال المخاطب الذي هو المكره من حرمة المباشرة إلى حلها في عامة المواضع .

ثم إن الإكراه في اللغة عبارة عن حمل الإنسان على شيء يكرهه ، يقال أكرهت فلانا إكراها : أي حملته على أمر يكرهه ، وأما في اصطلاح الفقهاء فقد ذكر في المبسوط أن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره من غير أن ينعدم به الأهلية في حق المكره أو يسقط عنه الخطاب ، فإن المكره مبتلى والابتلاء يقرر الخطاب ، ألا يرى أنه متردد بين فرض وحظر وإباحة ورخصة ، ويأثم مرة ويؤجر أخرى وهو آية الخطاب [ ص: 233 ] وذكر في الإيضاح أن الإكراه فعل يوجد من المكره فيحدث في المحل معنى فيصير به مدفوعا إلى الفعل الذي طلب منه .

وذكر في الوافي أنه عبارة عن تهديد القادر غيره على ما هدده بمكروه على أمر بحيث ينتفي به الرضا ، كذا في النهاية ومعراج الدراية ، وقال في النهاية : ولك أن تختار من هذه الثلاث أيها شئت

قلت : وقد اختار المصنف عبارة المبسوط كما ترى ، وسيجيء ما يتعلق بتفسيرها . وأما شرطه وحكمه فيأتي في الكتاب أثناء المسائل ( قوله لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره ) قال صاحب العناية : وتفسيره أن يحمل المرء غيره على المباشرة حملا ينتفي به رضاه وهو أعم من أن يكون مع فساد اختيار أو مع عدمه ، وهو إشارة إلى نوعي الإكراه ويفسد به اختياره ، وذلك يستلزم نفي عدم الرضا وهو إشارة إلى القسم الآخر ، لكن لا بد من تقدير " لا " في أو يفسد به اختياره ، فذلك أنواع الإكراه الثلاثة وموضعه أصول الفقه ا هـ كلامه .

أقول : قد خرج الشارح المذكور في تفسير كلام المصنف هذا عن سنن الصواب ، وسلك مسلكا لا يرتضيه أحد من ذوي الألباب ، وإن شئت ما هو التحقيق في هذا المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام : فاعلم أن الشائع المذكور في عامة الكتب من الأصول والفروع هو أن الإكراه نوعان : نوع يعدم الرضا ويفسد الاختيار ، وذلك بأن يكون بقتل أو بقطع عضو وهو الإكراه [ ص: 234 ] الملجئ ، ونوع يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار ، وذلك بأن يكون بضرب أو بقيد أو بحبس وهو الإكراه الغير الملجئ ، وكل منهما لا ينافي الأهلية ولا الخطاب .

وأما فخر الإسلام البزدوي فقال في أصوله : الإكراه ثلاثة أنواع : نوع يعدم الرضا ويفسد الاختيار وهو الملجئ . ونوع يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار وهو الذي لا يلجئ ، ونوع آخر لا يعدم الرضا وهو أن يهم بحبس أبيه أو ولده أو ما يجري مجراه . والإكراه بجملته لا ينافي أهليته ولا يوجب وضع الخطاب ا هـ . وقال صاحب الكشف في شرح هذا المقام من أصول فخر الإسلام :

الإكراه حمل الغير على أمر يكرهه ولا يريد مباشرته لولا الحمل عليه .

ويدخل في هذا التعريف الأقسام الثلاثة المذكورة في الكتاب . قال شمس الأئمة : هو اسم لفعل يفعله الإنسان بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره ، ولم يدخل فيه القسم الثالث الذي ذكر في الكتاب ، وكأنه لم يجعله من أقسام الإكراه لعدم ترتب أحكامه عليه ، إلى هنا كلام صاحب الكشف ، إذا عرفت هذا فقد ظهر لك أن ما ذكره المصنف هاهنا من معنى الإكراه .

وما ذكره شمس الأئمة في المبسوط بعينه ، وأن القسم الثالث من الأقسام الثلاثة المذكورة في أصول فخر الإسلام غير داخل في هذا المعنى كما توهمه صاحب العناية ، وإنما هو داخل في معنى الإكراه لغة كما أشار إليه صاحب الكشف ، وهو أن وجه عدم إدخال ذلك القسم في معنى الإكراه شرعا عدم ترتب أحكام الإكراه عليه ، فإن الإكراه في عرف الشرع ما ترتب عليه أحكامه ، وانكشف عندك أيضا ستر ما وقع في عامة الكتب من تنويع الإكراه إلى نوعين فقط ، فإن المقصود بالبيان في الكتب الشرعية أحوال ما هو الواقع كما عرفت غير صحيح في نفسه .

أما أولا فلأنه جعل قول المصنف فينتفي به رضاه أعم من أن يكون مع فساد اختيار أو مع عدمه مع أن مقابلة قوله أو يفسد به رضاه تمنعه قطعا ، وأما ثانيا فلأنه قال : إن قول المصنف أو يفسد به اختيار يستلزم نفي عدم الرضا ، ولا معنى له لأنه إن أراد أنه بحسب ظاهره : أي بدون تقدير شيء آخر يستلزم ذلك فليس كذلك قطعا ، لأن فساد الاختيار إنما يستلزم عدم الرضا لا نفي عدمه وهو ثبوت الرضا ، وإن أراد أنه إذا أخرج عن ظاهره بتقدير " لا " كما ذكره فيما بعد يستلزم ذلك فليس كذلك أيضا ، إذ بتقدير لا يصير المعنى أو لا يفسد به اختياره وذلك بأن يصح اختياره معه ، ولا شك أن صحة الاختيار لا تستلزم نفي عدم الرضا وهو ثبوت الرضا لجواز أن يصح الاختيار وانعدام الرضا كما في النوع الغير الملجئ من نوعي الإكراه على ما مر .

وأما ثالثا فلأنه قال وهو إشارة إلى القسم الآخر ، لكن لا بد من تقدير لا في أو يفسد به اختياره ، وهو أيضا مختل لأن هذا التقدير مع كونه خلاف الظاهر جدا سيما في مقام التعريف لا يجدي ما ذكره من كون مقصود المصنف الإشارة إلى الأنواع الثلاثة للإكراه ، لأن نفي فساد الاختيار إنما يفيد صحة الاختيار وهي لا تقتضي الرضا بل تحقق عدم الرضا أيضا كما عرفت آنفا فلا تحصل الإشارة بقوله أو يفسد به الاختيار على تقدير كلمة " لا " فيه إلى القسم الثالث من الإكراه لصدقه على القسم الثاني من النوعين الأولين كما ترى ، اللهم إلا أن يقال : نفي فساد الاختيار في مقابلة انتفاء الرضا يدل على بقاء الرضا في المقابل فيخرج القسم الثاني من النوعين الأولين ، لكن لا يخفى على ذي مسكة أن المعنى الذي نسبه الشارح المزبور هاهنا إلى المصنف كان يحصل بأن يقول بدل قوله أو يفسد به اختياره أو لا بمعنى أو لا ينتفي به رضاه ، فهل يجوز العاقل بمثل المصنف أن يترك ذاك اللفظ الأقصر الخالي عن التمحلات بأسرها لو أراد إفادة ذلك المعنى الذي نسبه الشارح المزبور إليه ويختار هذا اللفظ الأطول المشتمل على تمحلات كثيرة في إفادة ذلك المعنى ، ولعمري إن رتبة المصنف بمعزل عن مثل ذلك .

فالحق أن مراده بقوله فينتفي به رضاه أن ينتفي به رضاه بدون فساد اختياره بقرينة مقابلة قوله أو يفسد به [ ص: 235 ] اختياره فإن العام إذا قوبل بالخاص يراد به ما عدا ذلك الخاص كما في قوله تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فكان قوله فينتفي به رضاه إشارة إلى أحد نوعي الإكراه وهو غير الملجئ ، وقوله أو يفسد به اختياره إشارة إلى النوع الآخر منهما وهو الملجئ فانتظم كلامه من غير كلفة أصلا وانطبق لما في عامة الكتب




الخدمات العلمية