الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا (ومن باب الإشارة في الآيات) ولا يحزنك لتوقع الضرر أو لشدة الغيرة الذين يسارعون في الكفر لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية إنهم لن يضروا الله شيئا فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن هجوم ظلال الضلال ، أو المراد لن يضروك أيها المظهر الأعظم إلا أنه تعالى أقام نفسه تعالى مقام نفسه صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفي الآية إشارة إلى الفرق والجمع يريد الله إظهارا لصفة قهره ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم لعظم حجابهم ونظرهم إلى الأغيار .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين اشتروا الكفر وأخذوه بالإيمان بدله لقبح استعدادهم وسوء اختيارهم الغير المجعول لن يضروا الله شيئا ولكن يضرون أنفسهم لحرمانها تجلي الجمال ولهم عذاب أليم لكونهم غدوا بذلك مظهر الجلال .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ونزيد في مددهم خير لأنفسهم ينتفعون به في القرب إلينا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما بسبب ذلك لازديادهم حجابا على حجاب وبعدا على بعد ولهم عذاب مهين لفرط بعدهم عن منبع العز .

                                                                                                                                                                                                                                      ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان حتى يميز الخبيث من صفات النفس وحظوظ الشيطان ودواعي الهوى من الطيب وهو صفات القلب كالإخلاص واليقين والمكاشفة ومشاهدة الروح ومناغاة السر ومسامراته ، وذلك بوقوع الفتن والمصائب بينكم وما كان الله ليطلعكم على الغيب أي غيب وجودكم من الحقائق الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول للبعد وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه سبحانه ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك ويهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية التي بينكم وبينه .

                                                                                                                                                                                                                                      فآمنوا بالله ورسله بالتصديق والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي منهم وإن تؤمنوا بعد ذلك الإيمان الحقيقي الحاصل بالسلوك والمتابعة في الطريقة وتتقوا الحجب والموانع فلكم أجر عظيم من كشف الحقيقة ، وقد يقال : إن لله تعالى غيوبا : غيب الظاهر وغيب الباطن وغيب الغيب وسر الغيب وغيب السر ، فغيب الظاهر هو ما أخبر به سبحانه عن أمر الآخرة ، وغيب الباطن هو غيب المقدورات المكنونة عن قلوب الأغيار ، وغيب الغيب هو سر الصفات في الأفعال ، وسر الغيب هو نور الذات في الصفة ، وغيب السر هو غيب القدم وسر الحقيقة والاطلاع بالواسطة على ما عدا الأخير واقع للسالكين على حسب مراتبهم ، وأما الاطلاع على الأخير فغير واقع لأحد أصلا ، فإن الأزلية منزهة عن الإدراك وخاصة بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ، من ذلك المعنى رؤيته بنعت الكشف له وابتسام صباح الأزل في وجهه لا بنعت الإحاطة والإدراك .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله من المال أو العلم أو القدرة أو النفس فلا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين أو المستعدين أو الأنبياء والصديقين في الذب عنهم ، أو في الفناء في الله تعالى هو خيرا لهم بل هو شر لهم لاحتجابهم به سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ويلزمون وباله ويبقى ذلك حسرة في قلوبهم عند هلاكهم على ما يشير قوله تعالى : ولله ميراث السماوات والأرض وقد ذكر بعض العارفين أن من أعظم أنواع البخل كتم الأسرار عن أهلها وعدم إظهار مواهب الله تعالى على المريدين وإبقائهم في مهامه الطريق مع التمكن من إرشادهم ويقال : إن مبنى الطريق على السخاء ، وإن السخاء بالمال وصف المريدين ، والسخاء بالنفس وصف المحبين ، وبالروح وصف العارفين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطاء : السخاء بذل النفس والسر والروح والكل ، ومن بخل في طريق الحق بماله حجب وبقي [ ص: 154 ] معه ، ومن نظر إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وهم اليهود حيث سمعوا الاستقراض ولم يفهموا سره فوقعوا فيما وقعوا وقالوا ما قالوا ، وهذا القول إنما يجر إليه الطغيان وغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى على النفس الأمارة ، فتطلب حينئذ الارتداء برداء الربوبية ، ومن هنا تقول : (أنا ربكم الأعلى) أحيانا مع حجابها وبعدها عن الحضرة الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قيل : إنه روي أن أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله تعالى فتأتي نار من السماء فتأكله ، وتأويله أن يأتوا بنفوسهم يتقربون بها إلى الله تعالى ويدعون بالزهد والعبادة فتأتي نار العشق من سماء الروح فتأكله وتفنيه في الوحدة ، وبعد ذلك تصح نبوتهم وتظهر ، فلما سمع بذلك عوام بني إسرائيل اعتقدوا ظاهره الممكن في عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية إلى أن جاء نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فاقترحوا عليه ، ونقل الله تعالى ذلك لنا ورده عليهم ، وأولى من هذا في باب التأويل أن يهود صفات النفس البهيمية والشيطانية قالوا لرسول الخاطر الرحماني والإلهام الرباني لا ننقاد لك حتى يأتينا بقربان هو الدنيا وما فيها تجعلها نسيكة لله عز وجل فتأكلها نار المحبة قل يا وارد الحق قد جاءكم رسل من قبلي أي واردات الحق بالبينات بالحجج الباهرة وبالذي قلتم وهو جعل الدنيا وما فيها قربانا فلم قتلتموهم أي غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم تبقوا أثرا لتلك الواردات إن كنتم صادقين في أنكم تؤمنون لمن يأتيكم بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن كذبوك خطاب للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات للعوام والزبر للمتوسطين والكتاب المنير للخواص ، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى توحيد الأفعال ، والثاني إلى توحيد الصفات ، والثالث إلى توحيد الذات المشار إليه بقوله تعالى : الله نور السماوات والأرض ولهذا أتى بالكتاب مفردا ووصفه بالمنير ، وجوز أن يكون الخطاب للوارد الرحماني والرسل إشارة إلى الواردات المختلفة المتنوعة .

                                                                                                                                                                                                                                      كل نفس ذائقة الموت حكم شامل لجميع الأنفس مجردة كانت أو بسيطة بحمل الموت على ما يشمل الموت الطبيعي والفناء في الله سبحانه وتعالى ثم توفون أجوركم على اختلافها يوم القيامة فمن زحزح عن النار أي نار الحجاب أو ما يعمها والنار المعروفة وأدخل الجنة المتنوعة إلى ما قدمناه غير مرة ، أو الجنة بالمعنى الأعم فقد فاز وما الحياة الدنيا ولذاتها الفانية إلا متاع الغرور لأنها الحجاب الأعظم لمن نظر إليها من حيث هي لتبلون لتختبرن في أموالكم بإيجاب إنفاقها مع ميلكم إليها ، وأنفسكم بتعريضها لما يكاد يجر إلى إتلافها مع حبكم لها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العارفين : إن الله تعالى أظهر النفس وزينها بكسوة الربوبية وملأها باللطف والقهر وكساها زينة الملك من الأموال ابتلاء وامتحانا ، فمن نظر إلى نفسه بعين زينة الربوبية فنيت نفسه فيها ونطق لسان الربوبية منه وصار كشجرة موسى عليه السلام حيث نطق الحق منها ، وذلك مثل الحلاج القائل : أنا الحق ، ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زينة الملك صار حاله كحال سليمان عليه السلام حيث كان ينظر إلى عظم جلال المولى من خلال تلك الزينة ، ومن نظر إلى نفسه من حيث إنها نفسه واغتر بالسراب ولم يحقق بالذوق ما عنده صار حاله كحال فرعون إذ نادى أنا ربكم الأعلى ، ومن نظر إلى خضرة الدنيا وحسا كأس شهواتها وسكر بها صار كبلعام فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وهذا وجه الابتلاء بالأموال والأنفس ، وأي ابتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون الذي هو محل الالتباس ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ ص: 155 ] وهم أهل مقام الجمع ومن الذين أشركوا وهم أهل الكثرة أذى كثيرا لنطقهم بما يخالف مشربكم والخطاب للمتوسطين من السالكين ، فإنهم ينكرون على أهل مقام الجمع وعلى أهل الكثرة جميعا ما داموا غير واصلين إلى توحيد الذات وغير كارعين من بحار الفرق بعد الجمع وإن تصبروا على مجاهدة أنفسكم وتتقوا النظر إلى الأغيار فإن ذلك من عزم الأمور أي من الأمور المطلوبة التي تجر إلى المقصود والفوز بالمطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه الظاهر هنا عدم صحة إرادة المعنى الذي أريد من الذين أوتوا الكتاب آنفا ، ومن حمله عليه تكلف جدا ، فلعله باق على ظاهره ، أو أنه إشارة إلى العلماء مطلقا وضمير فنبذوه وراء ظهورهم إلخ راجع إليهم باعتبار البعض فتدبر .

                                                                                                                                                                                                                                      لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا أي يعجبون بما فعلوا من طاعة ويحجبون برؤيته ويحبون أن يحمدوا أي يحمدهم الناس فهم محجوبون بغرض الحمد والثناء من الناس ، أو أن يكونوا محمودين عند الله بما لم يفعلوا بل فعله الله تعالى على أيديهم إذ لا فعل حقيقة إلا لله تعالى فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم وهو عذاب الحرمان والحجاب .

                                                                                                                                                                                                                                      ولله ملك السماوات والأرض ليس لأحد فيهما شيء وهو المتصرف فيهما وفيما اشتملتا عليه فكيف يعجب من ظهر على يده فعل بما ظهر والله على كل شيء قدير لا يقدر سواه على فعل ما حتى يحجب برؤيته .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية