الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 280 ] كتاب المأذون الإذن : الإعلام لغة [ ص: 281 ] وفي الشرع : فك الحجر وإسقاط الحق عندنا ، [ ص: 282 ] والعبد بعد ذلك يتصرف لنفسه بأهليته ; لأنه بعد الرق بقي أهلا للتصرف بلسانه الناطق وعقله المميز وانحجاره عن التصرف لحق المولى ; لأنه ما عهد تصرفه إلا موجبا تعلق الدين برقبته وبكسبه ، وذلك مال المولى فلا بد من إذنه كي لا يبطل حقه من غير رضاه ، ولهذا لا يرجع بما لحقه من العهدة على المولى ، [ ص: 283 ] ولهذا لا يقبل التأقيت ، حتى لو أذن لعبده يوما أو شهرا كان مأذونا أبدا حتى يحجر عليه ; لأن الإسقاطات لا تتوقت

التالي السابق


( كتاب المأذون )

إيراد كتاب المأذون بعد كتاب الحجر ظاهر المناسبة ، إذ الإذن يقتضي سبق الحجر ، فلما ترتبا وجودا ترتبا أيضا ذكرا وما للتناسب ( قوله الإذن الإعلام لغة ) أقول : لم أر قط في كتب اللغة المتداولة بين الثقات مجيء الإذن بمعنى الإعلام ، وإنما المذكور فيها كون الأذان بمعنى الإعلام ، فقوله الإذن الإعلام لغة محل نظر يظهر ذلك لمن يراجع كتب اللغة .

نعم قد وقع في كلام كثير من المشايخ في كتب الفقه تفسير معنى الإذن لغة بالإعلام كما ذكره المصنف ، ولعلهم تسامحوا في التفسير فعبروا عن معنى الإذن من أذن له في الشيء إذنا : أي أباحه ، كما صرح به في القاموس بما يلازمه عادة من الإعلام ، ولا يخلو عن نوع الإيماء إليه ما ذكره صاحب النهاية حيث قال هاهنا : يحتاج إلى بيان الإذن لغة وشرعا ، ثم قال : أما لغة فالإذن في الشيء رفع المانع لمن هو محجور عنه وإعلام بإطلاقه فيما حجر عنه من أذن له في الشيء إذنا ا هـ . ثم إن من المستبعد هاهنا ما ذكره الإمام الزيلعي حيث قال في التبيين : والإذن في اللغة الإعلام ، ومنه الأذان وهو الإعلام بدخول الوقت ا هـ .

وكذا ما ذكره صاحب البدائع حيث قال في فصل شرائط الركن من كتاب المأذون : لأن الإذن هو الإعلام ، قال الله تعالى { وأذان من الله ورسوله } أي إعلام ا هـ . فإن مدار ما ذكره اتحاد الإذن والأذان حيث استشهدا بمعنى أحدهما على معنى آخر وليس كذلك قطعا ، والأظهر في تفسير معنى الإذن لغة ما ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه حيث قال : أما الإذن فهو الإطلاق [ ص: 281 ] لغة ; لأنه ضد الحجر وهو المنع فكان إطلاقا عن شيء أي شيء كان ا هـ .

( قوله وفي الشرع فك الحجر وإسقاط الحق عندنا )

قال في غاية البيان : يعني أن العبد كان محجورا عن التصرف لحق المولى ، فإذا أذن له المولى أسقط حق نفسه ا هـ . وقال في النهاية : أي إذن المولى لعبده في التجارة إسقاط لحق نفسه الذي كان العبد لأجله محجورا عن التصرف في مال المولى قبل إذنه ، وبالإذن أسقط حق نفسه عنده ا هـ . وقال في العناية : فإن المولى إذا أذن لعبده في التجارة أسقط حق نفسه الذي كان العبد لأجله محجورا عن التصرف في مال المولى قبل إذنه ا هـ .

وقال تاج الشريعة : لأنه كان للمولى حق في رقبة العبد فقبل الإذن لا تتعلق الديون برقبته ولا بكسبه ، وبعد الإذن يسقط هذا الحق وتتعلق الديون بها ا هـ . وقال في الكفاية : وفي الشرع فك الحجر وإسقاط الحق وهو حق المولى مالية الكسب والرقبة فإنه يمنع تعلق حق الغير بها صونا لحق المولى ، وإنه بالإذن أسقط حقه ا هـ . فتلخص من المجموع أن المراد بالحق هاهنا حق المولى ، وقد أفصح عنه المصنف فيما بعد حيث قال : وانحجاره عن التصرف لحق المولى ; لأنه ما عهد تصرفه إلا موجبا تعلق الدين برقبته وبكسبه وذلك مال فلا بد من إذنه كي لا يبطل حقه من غير رضاه ا هـ . قال صاحب الإصلاح والإيضاح : المراد بالحق هاهنا حق المنع لا حق المولى ; لأنه مع اختصاصه بإذن العبد غير صحيح ; لأن حق المولى لا يسقط بالإذن ولذلك يأخذ من كسبه جبرا على ما سيأتي ، والمسقط هو المولى إن كان المأذون رقيقا والولي إن كان صبيا ا هـ كلامه . أقول : فيه نظر أما أولا فلأن كون المراد بالحق هاهنا حق المنع لا ينافي كونه حق المولى ، بل يقتضيه ; لأن حق المنع المتعلق بالعبد هو حق المولى لا حق غيره : فإن معنى حق المنع حق هو منع عن التصرف على أن تكون الإضافة بيانية ، ومعنى حق المولى حق هو للمولى ، على أن تكون الإضافة بمعنى اللام ، ولا ريب أن الحق الذي هو منع العبد عن التصرف إنما يكون للمولى لا لغيره فكان حقا له قطعا .

وأما ثانيا فلأنه إن أراد به بقوله ; لأن حق المولى لا يسقط بالإذن أنه لا يسقط به أصلا فممنوع ، كيف وسيأتي أنه إذا لزمته ديون تحيط بكسبه ورقبته تعلقت بكسبه ورقبته جميعا فيباع كل ذلك للغرماء فيسقط حق المولى في كسبه ورقبته جميعا لا محالة ، وإن أراد بذلك أنه لا يسقط به في الجملة كما إذا لم تحط بهما ديون فمسلم ، لكن لا يجدي نفعا إذ ليس المراد بإسقاط الحق في معنى الإذن شرعا إسقاطه بالكلية ألبتة ، بل المراد به إسقاطه في الجملة ، وذلك يتحقق في صورة إحاطة الدين بل في صورة عدم إحاطته أيضا بالنظر إلى البعض الساقط بمقدار الدين كما لا يخفى ، أما اختصاص حق المولى بإذن العبد فلا يضر إذ المقصود بالذات في كتاب المأذون بيان إذن العبد ، وإنما يبين فيه إذن الصبي أيضا على سبيل التبعية فيجوز أن يكون مدار ما ذكره في تفسير الإذن في الشرع على ما هو المقصود بالذات في كتاب المأذون .

ثم إن صاحب النهاية قال : وأما حكمه فما هو التفسير الشرعي وهو فك الحجر الثابت بالرق شرعا عما يتناوله الإذن لا الإنابة والتوكيل ; لأن حكم الشيء ما يثبت به ، والثابت بالإذن في التجارة فك الحجر عن التجارة . وقال : هذا ما ذكره في المبسوط والإيضاح والذخيرة والمغني وغيرها ا هـ . وقد اقتفى أثره الإمام الزيلعي حيث قال في التبيين : وحكمه هو التفسير الشرعي وهو ما ذكرنا من فك الحجر ا هـ . أقول : كون حكم الإذن ما هو تفسيره الشرعي غير معقول المعنى ; لأن حكم الشيء على ما تقرر عندهم إنما هو أثره الثابت به المترتب عليه ، وقد أشار إليه صاحب النهاية أيضا بقوله ; لأن حكم الشيء ما يثبت به ، ولا يذهب على ذي مسكة أن ما يثبت بالشيء ويصير أثرا مترتبا عليه لا يصلح أن يكون تفسيرا لذلك الشيء محمولا عليه بالمواطأة . ثم أقول : ليس المذكور في الذخيرة وغيرها أن حكمه ما هو تفسيره الشرعي ، بل المذكور فيها هكذا ، وأما بيان حكمه فنقول : حكمه شرعا عندنا فك الحجر الثابت بالرق شرعا عما يتناوله الإذن لا الإنابة ولا التوكيل ; لأن حكم [ ص: 282 ] الشيء ما يثبت به ، والثابت بالإذن في التجارة فك الحجر عن التجارة ا هـ . فيجوز أن يكون المراد بفك الحجر المذكور فيها ما هو مصدر من المبني للمفعول فيئول إلى معنى انفكاك الحجر ويصير صفة للحجر ، ولا شك أن المراد بفك الحجر المذكور في تفسير الإذن شرعا ما هو مصدر من المبني للفاعل وصفة للإذن ، فيصح أن يكون المذكور في تلك الكتب حكما للإذن الشرعي ، إذ لا ريب أن الانفكاك أثر ثابت بالفك كالانكسار مع الكسر . ثم إن الأظهر في بيان حكم الإذن ما ذكره صاحب غاية البيان وعزاه إلى التحفة حيث قال : وأما حكمه فملك المأذون ما كان من قبيل التجارة وتوابعها وضروراتها ، وعدم ملكه ما لم يكن كذلك ، إلى هذا أشار في التحفة ، وذلك ; لأن حكم الشيء ما يثبت بالشيء ، والثابت بالإذن ما قلنا فكان حكما له ، إلى هنا كلامه .

( قوله والعبد بعد ذلك يتصرف لنفسه بأهليته ; لأنه بعد الرق بقي أهلا للتصرف بلسانه الناطق وعقله المميز ) فإن قيل : المأذون عديم الأهلية لحكم التصرف وهو الملك فينبغي أن لا يكون أهلا لنفس التصرف ; لأن التصرفات الشرعية إنما تراد لحكمها وهو ليس بأهل لذلك فلا يكون أهلا لسببه .

أجيب بأن حكم التصرف ملك اليد والرقيق أهل لذلك ، ألا يرى أن استحقاق ملك اليد يثبت للمكاتب مع قيام الرق فيه ، وهذا ; لأنه مع الرق أهل للحاجة فيكون أهلا لقضائها وأدنى طريق قضائها ملك اليد فهو الحكم الأصلي للتصرف ، وملك العين شرع للتوصل إليه فما هو الحكم الأصلي يثبت للعبد وما وراء ذلك يخلفه المولى فيه ، وهو نظير من اشترى شيئا على أن البائع بالخيار ثم مات ، فمتى اختار البائع البيع يثبت ملك العين للوارث على سبيل الخلافة عن المورث بتصرف باشره المورث بنفسه ، كذا ذكر في كثير من شروح هذا الكتاب وفي عامة كتب الأصول .

أقول : فيه بحث ; لأنهم إن أرادوا أن الرقيق له ملك اليد بأهليته الأصلية الذاتية كما هو المتبادر من كلامهم يشكل ما تقرر عندهم من أن المكاتب مملوك لمولاه رقبة لا يدا ، والمدبر مملوك له يدا لا رقبة ، والقن مملوك له يدا ورقبة ، فإن الرقيق إذا كان مالكا يده فكيف يكون مملوكا لمولاه يدا في صورة إن كان قنا أو مدبرا ، وإن أرادوا أن له ملك اليد بأهليته المكتسبة من مولاه بالإذن أو الكتابة فلا يتم التقريب ، إذ كلام المصنف وغيره صريح في أن أصل أصحابنا أن العبد المأذون له متصرف لنفسه بأهليته الأصلية الثابتة له بلسانه الناطق وعقله المميز فليتأمل في التوجيه ( قوله ولهذا لا يرجع بما لحقه من العهدة على المولى ) [ ص: 283 ] قال في العناية : وصحح المصنف كونه يتصرف بأهلية نفسه بقوله ولهذا لا يرجع بما لحقه من العهدة على المولى ، وهذا ; لأن أول تصرف يباشره العبد المأذون الشراء ; لأنه لا مال له حتى يبيع ، والعبد في الشراء متصرف لنفسه لا للمولى ; لأنه يتصرف في ذمته بإيجاب الثمن فيها ، حتى لو امتنع عن الأداء حال الطلب حبس وذمته خالص حقه لا محالة ، ولهذا لو أقر على نفسه بالقصاص صح وإن كذبه المولى فكان الشراء حقا له .

وهذا المعنى يقتضي نفاذ تصرفاته قبل الإذن أيضا ، لكن شرطنا إذن المولى دفعا للضرر عنه بغير رضاه ا هـ . وهذا حاصل ما ذكره صاحب النهاية ناقلا عن الذخيرة .

أقول : يرد على ظاهر قوله ; لأن أول تصرف يباشره العبد المأذون الشراء ; لأنه لا مال له حتى يبيع أنه لا يلزم من أن لا يكون له مال يبيعه أن يكون أول تصرفه الشراء لجواز أن يكون أول تصرفه أخذ المضاربة أو إيجار نفسه فإنه يملك كل واحد من ذينك التصرفين كما سيأتي في الكتاب ، ولا يقتضي شيء منهما أن يكون له مال كما لا يخفى ، ويمكن أن يقال : يجوز بناء قوله المزبور على ما هو الأصل في التجارة وما هو الغالب وقوعا فيها . ولا يخفى أن الأصل في التجارة هو البيع والشراء كما سيأتي التصريح به من المصنف ، وأنهما هما الغالب وقوعا في باب التجارة ، فعلى مقتضى ذلك البناء إذا لم يكن للعبد المأذون في أول تصرفه مال يبيعه يتعين له الشراء ثمة .

وقال بعض الفضلاء في حاشيته على قول صاحب العناية ; لأن أول تصرف يباشره العبد المأذون الشراء بل أول تصرف يباشره مؤاجرة نفسه . والجواب أنه عند الخصم فإن مؤاجرة نفسه غير جائزة عنده في أحد قوليه على ما سيجيء . ا هـ . أقول : في كل من إيراده وجوابه سقامة . أما في الأول فلأنه قال : بل أول تصرف يباشره مؤاجرة نفسه بطريق الجزم ، وكان الظاهر أن يقول : بل يجوز أن يكون أول تصرف يباشره مؤاجرة نفسه ، على أن قوله مؤاجرة نفسه خطأ على ما ذكر في الأساس والمغرب ، وكان الصواب أن يقول : بدل ذلك إيجار نفسه كما قلت فيما مر . وأما في الثاني فلأنا بصدد إثبات ما قلنا إن العبد المأذون له يتصرف بعد الإذن لنفسه بأهليته لا بصدد الجواب عما قاله الخصم ، بل لم يقع التصريح من المصنف هاهنا بما قاله الخصم أصلا فكيف يصح أن تحمل المقدمة المذكورة على مذهب الخصم في أحد قوليه دون مذهبنا ، على أنها لو حملت على مذهب الخصم لم نسلم أيضا لجواز أن يكون أول تصرف يباشره أخذ المضاربة كما ذكرنا من قبل ، والخصم لا ينكر جواز ذلك فلم يفد الحمل على مذهبه ، فالذي يمكن في الجواب ما قدمنا لا غير ( قوله ولهذا لا يقبل التأقيت ) قال صاحب العناية : وصحح المصنف كونه إسقاطا عندنا بقوله ولهذا لا يقبل التأقيت . ثم قال : فإن قيل : قوله فك الحجر وإسقاط الحق مذكور في حيز التعريف فكيف [ ص: 284 ] جاز الاستدلال عليه ؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه ليس باستدلال ، وإنما هو تصحيح النقل بما يدل على أنه عندنا معرف بذلك كما أشرنا إليه . والثاني أن حكمه الشرعي هو تعريفه فكان الاستدلال عليه من حيث كونه حكما لا من حيث كونه تعريفا ا هـ كلامه . أقول : في كل من وجهي الجواب نظر . أما في الأول فلأن تصحيح النقل بما يدل على أنه عندنا معرف بذلك عين الاستدلال ، فإن ما يدل على ذلك هو الدليل ، وتصحيح النقل به هو الاستدلال ، فما معنى قوله إنه ليس باستدلال .

وأما في الثاني فلأن كون حكمه الشرعي هو تعريفه مما لا يكاد يصح ; لأن حكم الشيء ما هو خارج عنه مباين له وإن كان أثرا مترتبا عليه ، وتعريف الشيء ما هو محمول عليه بالمواطأة متحد به في الذات فأنى يكون أحدهما هو الآخر ، وقد مر مثل ذلك من قبل .

والحق في الجواب أن يقال : ليس الاستدلال المذكور على نفس التعريف حتى يرد أن التعريف لا يقبل الاستدلال عليه ; لأنه تصور ، والتصور لا يكتسب من التصديق بل على الحكم الضمني ، كأن يقال : هذا التعريف صحيح ، وهذا التعريف مطابق لأصولنا أو نحو ذلك . ولا يخفى أن تلك الأحكام تصديقات تقبل الاستدلال عليها قطعا ، ونظير هذا ما حققوا في قنه من أن المنع والنقض والمعارضة في التعريف إنما تتوجه إلى الأحكام الضمنية لا إلى نفس التعريفات ، تدبر ترشد




الخدمات العلمية