الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : بيان فضل التواضع في اللباس .

ومن يرتضي أدنى اللباس تواضعا سيكسى الثياب العبقريات في غد ( ومن ) أي : شخص يعني كل إنسان من ذكر وأنثى ( يرتضي ) هو لنفسه ( أدنى ) أي أنزل وأردأ ( اللباس ) أي الملبوس من إزار ورداء وقميص وعمامة وغيرها ، وإنما كان رضاه بذلك الأدنى ( تواضعا ) أي لأجل التواضع لله - سبحانه وتعالى - وانخفاضا واحتقارا للنفس وللدنيا وزينتها .

واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه بتركه لها حينئذ مع قدرته على لبسها .

وإنما تركها تواضعا له - سبحانه وتعالى ( سيكسى ) بتركه لحب الزينة والافتخار ورضاه بالدون والاحتقار ( الثياب العبقريات ) نسبة إلى قرية ثيابها في غاية الحسن .

والعبقري الكامل من كل شيء .

وفي السيرة الشامية في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله في حق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم أر عبقريا أحسن نزعا منه .

قال : العبقري بمهملة فموحدة فقاف فراء : طنافس ثخان . قال أبو عبيدة : تقول العرب لكل شيء من البسط عبقري ، ويقال : إن عبقر أرض يعمل فيها الوشي فنسب إليها كل شيء جيد . ويقال : العبقري الممدوح الموصوف من الرجل والفرش . انتهى .

فلما ترك الإنسان رفيع الثياب ورضي بأدناها تواضعا لله تعالى في هذه الدنيا جازاه الله سبحانه وتعالى بأن كساه الثياب النفيسة البديعة المنسوجة على الهيئة العجيبة الغريبة من الوشي وغيره ( في غد ) في دار البقاء التي لا يفنى شبابها ، ولا تبلى ثيابها ، ولا تهرم حورها ، ولا تهدم قصورها في النعيم المقيم ومزيد العز والتكريم جزاء وفاقا .

وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم ، وقال صحيح الإسناد عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 271 ] قال : { من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها } .

وأخرج أبو داود عن رجل من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه } - قال بشر أحد رواة الحديث - أحسبه قال : { تواضعا ، كساه الله حلة الكرامة } ورواه البيهقي من طريق زبان بن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه بزيادة .

وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي أمامة بن ثعلبة الأنصاري ، واسمه إياس رضي الله عنه قال { : ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما عنده الدنيا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تسمعون ، ألا تسمعون ، إن البذاذة من الإيمان ، إن البذاذة من الإيمان ، إن البذاذة من الإيمان } يعني التقحل . قال الحافظ المنذري : البذاذة - بفتح الباء الموحدة وذالين معجمتين - هو التواضع في اللباس برثاثة الهيئة وترك الزينة والرضا بالدون من الثياب . ورواه الإمام أحمد ولفظه { إن البذاذة من الإيمان } يعني التقحل ، وفي لفظ عند ابن ماجه : يعني التقشف .

قال الإمام أحمد : البذاذة التواضع في اللباس .

وفي الصحاح بذ الهيئة ، أي رثها ، بين البذاذة والبذوذة ، وفي جمهرة ابن دريد : بذت هيئته بذاذة وبذوذة إذا رثت ، وفي الحديث { البذاذة من الإيمان } ترك الزينة والتصنع .

وروى البيهقي عن أبي هريرة مرفوعا { إن الله عز وجل يحب المبتذل الذي لا يبالي ما لبس } .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي بردة قال { : دخلت على عائشة رضي الله عنها فأخرجت إلينا كساء ملبدا من التي يسمونها الملبدة وإزارا غليظا مما يصنع باليمن ، وأقسمت بالله لقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الثوبين } .

قال الحافظ المنذري : الملبد المرقع ، وقيل غير ذلك .

[ ص: 272 ] وروى أبو داود والبيهقي كلاهما من رواية إسماعيل بن عياش عن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال { : استكسيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكساني خيشتين ، فلقد رأيتني ، وأنا أكسى أصحابي } .

قال الحافظ المنذري : الخيشة - بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة تحت بعدهما شين معجمة - هو ثوب يتخذ من مشاقة الكتان يغزل غزلا غليظا وينسج نسجا رقيقا ، وقوله : " وأنا أكسى أصحابي " يعني أعظمهم وأعلاهم كسوة .

وروى البيهقي عن عمر رضي الله عنه قال : { نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا عليه إهاب كبش قد تمنطق به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شراها أو شريت بمائتي درهم فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون } .

الإهاب - بكسر الهمزة - هو الجلد ، وقيل : ما لم يدبغ .

وفي موطأ مالك عن أنس قال : رأيت عمر رضي الله عنه وهو يومئذ أمير المؤمنين وقد رقع بين كتفيه برقاع ثلاث لبد بعضها على بعض .

وروى الترمذي وحسنه عن أنس أيضا رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك } .

وفي فروع ابن مفلح بعد ذكره لهذا البيت الذي نحن بصدد شرحه قال : ولا بد في ذلك أن يكون يعني ترك الترفع في اللباس والرضا بالأدنى لله لا لعجب ولا شهرة ولا غيره .

قال جماعة : والتوسط في الأمور أولى ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بحسب الحال لا يمتنعون من موجود ، ولا يتكلفون مفقودا .

وقال في الفروع في آخر أحكام اللباس : قال المروذي : وذكرت رجلا من المحدثين يعني للإمام أحمد رضي الله عنه ، فقال : أنا أشرت به أن يكتب عنه ، وإنما أنكرت عليه حبه للدنيا .

وذكر أبو عبد الله من المحدثين علي بن المديني وغيره ، وقال : كم تمتعوا [ ص: 273 ] من الدنيا إني لأعجب من هؤلاء المحدثين وحرصهم على الدنيا .

قال : وذكرت لأبي عبد الله رجلا من المحدثين فقال : إنما أنكرت عليه أنه ليس زيه زي النساك .

وقال ابن الجوزي : قال أبي بن كعب : من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه حسرات على الدنيا .

وفي مسلم عن أبي عثمان النهدي قال : كتب إلينا عمر رضي الله عنه يا عتبة بن فرقد إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك ، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ، ولبوس الحرير وهو في مسند أبي عوانة الإسفراييني وغيره بإسناد صحيح كما في الفروع : أما بعد فاتزروا وارتدوا ، وألقوا الخفاف والسراويلات ، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل ، وإياكم والتنعم وزي الأعاجم وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب ، وتمعددوا ، واخشوشنوا ، واخلولقوا ، واقطعوا الركب وانزوا وارموا الأغراض .

وبين أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر سبب قول عمر ذلك .

فعنده في أوله أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر مع غلام له بسلال فيها خبيص عليها اللبود ، فلما رآه عمر قال : أيشبع المسلمون في رحالهم من هذا ؟ قال : لا قال عمر : لا أريده ، وكتب إلى عتبة إنه ليس من كدك الحديث .

قال زي - بكسر الزاي - ولبوس - بفتح اللام وضم الباء .

وفي لفظ عند الإمام أحمد : وألقوا الركب وانزوا وارتدوا ، وعليكم بالمعدية ، وارموا الأغراض ، وذروا التنعم وزي العجم .

فقوله : وانزوا أي ثبوا وثبا .

والمعدية أي اللبسة الخشنة نسبة إلى معد بن عدنان وهي المراد بقوله : تمعددوا ، ولذا قال في الصحاح : أي تشبهوا بعيش معد بن عدنان ، وكانوا أهل قشف وغلظ في المعاش .

يقول فكونوا مثلهم ودعوا التنعم وزي العجم .

قال : وهكذا هو في حديث له آخر : عليكم باللبسة المعدية .

وفي هامش الفروع من خط الشهاب الفتوحي في قوله : واقطعوا الركب : الظاهر [ ص: 274 ] أنه هنا بفتح الراء والكاف .

قال في الصحاح : وهو منبت العانة .

وفي القاموس : العانة أو منبتها وكأن المراد بذلك - والله أعلم - حلق العانة ، كأنه لما أمرهم بأن يخشوشنوا قال : ومع ذلك احلقوا العانة .

قال هذا ما ظهر لي والله أعلم انتهى .

قلت : والمناسب لقوله واقطعوا الركب وانزوا أن المراد بالركب ما يركب فيه .

قال في القاموس : والركب ككتب جمع ركابات ، وركائب من السرج كالغرز من الرحل .

ويؤيد هذا قول صاحب الفروع في تفسير وانزوا أي ثبوا وثبا .

وسيأتي تحقيق ذلك قريبا عند قول الناظم : وسر حافيا أو حاذيا إلخ .

وروى الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { لما بعثه إلى اليمن قال إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين } .

قال في الفروع : قال في كشف المشكل : الآفة في التنعم من أوجه : أحدها : أن المشتغل به لا يكاد يوفي التكليف حقه .

الثاني : أنه من حيث الأكل يورث الكسل والغفلة والبطر والمرح .

ومن اللباس يوجب لين البدن فيضعف عن عمل شاق ، ويضم ضمنه الخيلاء .

ومن النكاح يضعف عن أداء اللوازم .

الثالث : أن من ألفه صعب عليه فراقه فيفني زمنه في اكتسابه ، خصوصا في النكاح ، فإن المتنعمة به تحتاج إلى أضعاف ما يحتاج إليه غيرها .

قال : والإشارة بزي أهل الشرك ما ينفردون به .

فنهى عن التشبه بهم والله - تعالى - أعلم .

فإن قلت : قد كره الناظم للغني لبس الرديء ، وهنا ندب إلى الرضا باللباس الأدنى ، فهل هذا إلا تدافع ؟ قلت : ليس كذلك ، بل مراده - والله أعلم - أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بنعمة أحب أن يرى عليه أثر نعمته لما أسلفنا من الفوائد ، فلا يلبس لبس الفقراء ، ولكن ليتوسط في ملبسه ، أو يكون لبسه ثياب التجمل أحيانا بنية إظهار أثر نعم الباري جل شأنه ، فما ينفك عن عبادته ما دام ملاحظا لذلك .

وهنا أراد أن من يرضى بالأدنى عن الأعلى تواضعا لله ، ولعل المراد بما [ ص: 275 ] لا يلتحق به إلى زي الفقراء بل يتوسط ، كما حكاه في الفروع كما أسلفناه عنه آنفا ، ويخرج به عن زي أهل الخيلاء فتكون حالته بين حالتين فخير الأمور أوسطها كما قدمنا ، فلكل مقام مقال والله ولي الأفضال جل شأنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية