الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله أخرج ابن جرير عن جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لما مات النجاشي : " اخرجوا فصلوا عن أخ لكم ، فخرج فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط " فأنزل الله تعالى هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وأنس وقتادة ، وعن عطاء أنها نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحارث بن كعب ، اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا جميعا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وروي عن ابن جريج وابن زيد وابن إسحاق أنها نزلت في جماعة من اليهود أسلموا ، منهم عبد الله بن سلام ومن معه ، وعن مجاهد أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ، وأشهر الروايات أنها نزلت في النجاشي - وهو بفتح النون على المشهور - كما قال الزركشي .

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل ابن السيد كسرها - وعليه ابن دحية - وفتح الجيم مخففة - وتشديدها غلط - وآخره ياء ساكنة وهو الأكثر رواية لأنها ليست للنسبة ، ونقل ابن الأثير تشديدها ، ومنهم من جعله غلطا - وهو لقب كل من ملك الحبشة - واسمه أصحمة - بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وحاء مهملة - والحبشة يقولونه بالخاء المعجمة ، ومعناه عندهم عطية الصنم ، وذكر مقاتل في نوادر التفسير أن اسمه مكحول بن صعصعة ، والأول هو المشهور ، وقد توفي في رجب سنة تسع ، والجملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت صفاتهم من نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك بل منهم من له مناقب جليلة ، وفيها أيضا تعريض بالمنافقين [ ص: 174 ] الذين هم أقبح أصناف الكفار ، وبهذا يحصل ربط بين الآية وما قبلها من الآيات ، وإذا لاحظت اشتراك هؤلاء مع أولئك المؤمنين فيما عند الله تعالى من الثواب قويت المناسبة ، وإذا لاحظ أن فيما تقدم مدح المهاجرين وفي هذا مدحا للمهاجر إليهم من حيث إن الهجرة الأولى كانت إليهم كان أمر المناسبة أقوى ، وإذا اعتبر تفسير الموصول في قوله تعالى : لا يغرنك باليهود زادت قوة بعد ولام الابتداء داخلة على اسم إن وجاز ذلك لتقدم الخبر .

                                                                                                                                                                                                                                      وما أنزل إليكم من القرآن العظيم الشأن وما أنزل إليهم من الإنجيل والتوراة أو منهما ، وتأخير إيمانهم بذلك عن إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمر بالعكس في الوجود لما أن القرآن عيار ومهيمن عليه ، فإن إيمانهم بذلك إنما يعتبر بتبعية إيمانهم بالقرآن إذ لا عبرة بما في الكتابين من الأحكام المنسوخة وما لم ينسخ إنما يعتبر من حيث ثبوته بالقرآن ولتعلق ما بعد بذلك ، وقيل : قدم الإيمان بما أنزل على المؤمنين تعجيلا لإدخال المسرة عليهم ، والمراد من الإيمان بالثاني الإيمان به من غير تحريف ولا كتم كما هو شأن المحرفين والكاتمين واتباع كل من العامة . خاشعين لله أي خاضعين له سبحانه ، وقال ابن زيد : خائفين متذللين ، وقال الحسن : الخشوع الخوف اللازم للقلب من الله تعالى وهو حال من فاعل (يؤمن) وجمع حملا على المعنى بعد ما حمل على اللفظ أولا ، وقيل : حال من ضمير إليهم وهو أقرب لفظا فقط ، وجيء بالحال تعريضا بالمنافقين الذين يؤمنون خوفا من القتل ، و(لله) متعلق بخاشعين ، وقيل : هو متعلق بالفعل المنفي بعده وهو في نية التأخير كأنه قال سبحانه : لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا لأجل الله تعالى ، والأول أولى ، وفي هذا النفي تصريح بمخالفتهم للمحرفين ، والجملة في موضع الحال أيضا ، والمعنى لا يأخذون عوضا يسيرا على تحريف الكتاب وكتمان الحق من الرشا والمآكل كما فعله غيره ممن وصفه سبحانه فيما تقدم ، ووصف الثمن بالقليل إما لأن كل ما يؤخذ على التحريف كذلك ولو كان ملء الخافقين ، وإما لمجرد التعريض بالآخذين ومدحهم بما ذكر ليس من حيث عدم الأخذ فقط بل لتضمن ذلك إظهار ما في الآيات من الهدى وشواهد نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة ، واختيار صيغة البعد للإيذان بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضيلة لهم أجرهم عند ربهم أي ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم ، والإضافة للعهد أي الأجر المختص بهم الموعود لهم بقوله سبحانه : أولئك يؤتون أجرهم مرتين وقوله تعالى : يؤتكم كفلين من رحمته وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف ، وفي الكلام أوجه من الإعراب فقد قالوا : إن (أولئك) مبتدأ والظرف خبره ، وأجرهم مرتفع بالظرف ، أو الظرف خبر مقدم ، وأجرهم مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر المبتدأ ، و (عند ربهم) نصب على الحالية من أجرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : متعلق به بناء على أن التقدير لهم أن يؤجروا عند ربهم ، وجوز أن يكون أجرهم مبتدأ ، و(عند ربهم) خبره ، ولهم متعلق بما دل عليه الكلام من الاستقرار والثبوت لأنه في حكم الظرف ، والأوجه من هذه الأوجه هو الشائع على ألسنة المعربين .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله سريع الحساب (199) إما كناية عن كمال علمه تعالى بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق ، وأنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي وقدر ما ينبغي وحينئذ تكون الجملة استئنافا واردا على سبيل التعليل لقوله تعالى : لهم أجرهم عند ربهم أو تذييلا لبيان علة الحكم المفاد بما ذكر ، وإما كناية عن قرب الأجر الموعود فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء وحينئذ تكون الجملة تكميلا لما قبلها فإنه في معنى الوعد [ ص: 175 ] كأنه قيل : (لهم أجر عند ربهم) عن قريب ، وفصلت لأن الحكم بقرب الأجر مما يؤكد ثبوته ثم لما بين سبحانه في تضاعيف هذه السورة الكريمة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية