الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

في شروط وجوب الكفارة فيه .

- وأما شروط وجوب الكفارة : فإن الجمهور على أنها لا تجب دون العود ، وشذ مجاهد وطاوس فقالا : لا تجب دون العود .

ودليل الجمهور : قوله تعالى : ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة ) وهو نص في معنى وجوب تعلق الكفارة بالعود . وأيضا فمن طريق القياس ، فإن الظهار يشبه الكفارة في اليمين ، فكما أن الكفارة إنما تلزم بالمخالفة أو بإرادة المخالفة ، كذلك الأمر في الظهار .

وحجة مجاهد وطاوس : أنه معنى يوجب الكفارة العليا ، فوجب أن يوجبها بنفسه لا بمعنى زائد تشبيها بكفارة القتل والفطر . وأيضا قالوا : إنه كان طلاق الجاهلية فنسخ تحريمه بالكفارة ، وهو معنى قوله تعالى : ( ثم يعودون لما قالوا ) والعود عندهم هو العود في الإسلام .

فأما القائلون باشتراط العود في إيجاب الكفارة ، فإنهم اختلفوا فيه ما هو ؟ .

فعن مالك في ذلك ثلاث روايات :

إحداهن : أن العود هو أن يعزم على إمساكها والوطء معا .

والثانية : أن يعزم على وطئها فقط ، وهي الرواية الصحيحة المشهورة عن أصحابه ، وبه قال أبو حنيفة ، وأحمد .

والرواية الثالثة : أن العود هو نفس الوطء ، وهي أضعف الروايات عند أصحابه .

وقال الشافعي : العود هو الإمساك نفسه ، قال : ومن مضى له زمان يمكنه أن يطلق فيه ولم يطلق ثبت أنه عائد ولزمته الكفارة ، لأن إقامته زمانا يمكن أن يطلق فيه من غير أن يطلق يقوم مقام إرادة الإمساك منه ، أو هو دليل ذلك .

وقال داود وأهل الظاهر : العود هو أن يكرر لفظ الظهار ثانية ، ومتى لم يفعل ذلك فليس بعائد ولا كفارة عليه .

فدليل الرواية المشهورة لمالك ينبني على أصلين :

أحدهما : أن المفهوم من الظهار هو أن وجوب الكفارة فيه إنما يكون بإرادته العود إلى ما حرم على نفسه بالظهار ، وهو الوطء ، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن تكون العودة هي : إما الوطء نفسه ، وإما العزم عليه وإرادته .

والأصل الثاني : ليس يمكن أن يكون العود نفسه هو الوطء لقوله تعالى في الآية : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) ، ولذلك كان الوطء محرما حتى يكفر . قالوا : ولو كان العود نفسه هو الإمساك لكان الظهار نفسه يحرم الإمساك فكان الظهار يكون طلاقا .

وبالجملة : فالمعول عليه عندهم في هذه المسألة هو الطريق الذي يعرفه الفقهاء بطريق السبر والتقسيم ، [ ص: 481 ] وذلك أن معنى العود لا يخلو أن يكون تكرار اللفظ على ما يراه داود ، أو الوطء نفسه ، أو الإمساك نفسه ، أو إرادة الوطء .

ولا يكون تكرار اللفظ ، لأن ذلك تأكيد ، والتأكيد لا يوجب الكفارة ، ولا يكون إرادة الإمساك للوطء ، فإن الإمساك موجود بعد ، فقد بقي أن يكون إرادة الوطء ، وإن كان إرادة الإمساك للوطء فقد أراد الوطء ، فثبت أن العود هو الوطء .

ومعتمد الشافعية في إجرائهم إرادة الإمساك ، أو الإمساك مجرى إرادة الوطء : أن الإمساك يلزم عنه الوطء ، فجعلوا لازم الشيء مشبها بالشيء ، وجعلوا حكمهما واحدا ، وهو قريب من الرواية الثانية; وربما استدلت الشافعية على أن إرادة الإمساك هو السبب في وجوب الكفارة : أن الكفارة ترتفع بارتفاع الإمساك ، وذلك إذا طلق إثر الظهار ، ولهذا احتاط مالك في الرواية الثانية ، فجعل العود هو إرادة الأمرين جميعا ( أعني : الوطء والإمساك ) . وأما أن يكون العود الوطء فضعيف مخالف للنص ، والمعتمد فيها تشبيه الظهار باليمين ( أي : كما أن كفارة اليمين إنما تجب بالحنث كذلك الأمر هاهنا ) ، وهو قياس شبه عارضه النص .

وأما داود : فإنه تعلق بظاهر اللفظ في قوله تعالى : ( ثم يعودون لما قالوا ) وذلك يقتضي الرجوع إلى القول نفسه .

وعند أبي حنيفة : أنه العود في الإسلام إلى ما تقدم من ظهارهم في الجاهلية .

وعند مالك والشافعي : أن المعنى في الآية : ثم يعودون فيما قالوا .

وسبب الخلاف بالجملة إنما هو مخالفة الظاهر للمفهوم : فمن اعتمد المفهوم جعل العودة إرادة الوطء أو الإمساك ، وتأول معنى اللام في قوله تعالى : ( ثم يعودون لما قالوا ) بمعنى الفاء .

وأما من اعتمد الظاهر : فإنه جعل العودة تكرير اللفظ ، وأن العودة الثانية إنما هي ثانية للأولى التي كانت منهم في الجاهلية .

ومن تأول أحد هذين ، فالأشبه له أن يعتقد أن بنفس الظهار تجب الكفارة كما اعتقد ذلك مجاهد ، إلا أن يقدر في الآية محذوفا وهو إرادة الإمساك ، فهنا إذا ثلاثة مذاهب : إما أن تكون العودة هي تكرار اللفظ ، وإما أن تكون إرادة الإمساك ، وإما أن تكون العودة التي هي في الإسلام .

وهذان ينقسمان قسمين ( أعني الأول والثالث ) : أحدهما أن يقدر في الآية محذوفا ، وهو إرادة الإمساك فيشترط هذه الإرادة في وجوب الكفارة ، وإما ألا يقدر فيها محذوفا فتجب الكفارة بنفس الظهار .

واختلفوا من هذا الباب في فروع وهو : هل إذا طلق قبل إرادة الإمساك ، أو ماتت عنه زوجته ، هل تكون عليه كفارة أم لا ؟ فجمهور العلماء على أن لا كفارة عليه إلا أن يطلق بعد إرادة العودة ، أو بعد الإمساك بزمان طويل على ما يراه الشافعي . وحكي عن عثمان البتي أن عليه الكفارة بعد الطلاق ، وأنها إذا [ ص: 482 ] ماتت قبل إرادة العودة لم يكن له سبيل إلى ميراثها إلا بعد الكفارة ، وهذا شذوذ مخالف للنص ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية