الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا

                                                          * * *

                                                          قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري : إن هذه الآية واردة في أهل الكتاب، فقال في ذلك: "عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره.

                                                          ومؤدى هذا الكلام أن هؤلاء هم أهل الكتاب الذين آمنوا بالتوراة، ثم عبدوا العجل وحرفوا التوراة، ثم آمنوا بالإنجيل ثم حرفوه وكفروا بعيسى وبالله، إذ جعلوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا".

                                                          ونرى أن نص القرآن يفيد أن الذين يخبر عنهم - سبحانه طائفة واحدة آمنت ثم كفرت، ثم آمنت ثم كفرت، ثم ازدادت كفرا. . وما قاله ابن جرير يؤدي إلى أن يكون الكلام في طائفتين: إحداهما اليهود والأخرى النصارى، ولذلك نرى [ ص: 1906 ] ترجيح قول الذين قالوا إن هذا النص في مرضى القلوب والمنافقين الذين اضطربت عقائدهم، فهم يؤمنون أول النهار، ويكفرون آخره، فيعتريهم قبس الإيمان، فيهتدون حينا فيؤمنون، ثم تعتريهم ظلمة نفوسهم فيكفرون، ثم لا يزالون يترددون حتى تنطفئ قبسات النور من قلوبهم، وبذلك يزدادون كفرا، وذلك وصف دقيق للمترددين الحائرين، يبتدئون بحيرة مضطربة بين النور والظلمة، ثم يوغلون في الظلام إيغالا.

                                                          وإن أولئك الذين يترددون ذلك التردد، ثم ينتهون إلى تلك النهاية الموغلة في الكفر لا تنالهم المغفرة، ولذا قال سبحانه:

                                                          لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا هذا نفي مؤكد للغفران والهداية معا، فالله لا يغفر لهم، ولا يهديهم سبيلا مستقيما، بل هم في حيرة مستمرة، واللام في قوله: (ليغفر) ، و(ليهديهم) هي اللام التي يسميها النحويون لام الجحود أي النفي المؤكد، وهي تكون بعد الفعل المشتق من الكون، ككان ويكون، ولتقريب معناها نضرب مثلا من عبارات الناس، فيقول بعض الناس: لم أكن لأكرمك أي لم أوجد لأكرمك، أي ليس من شأني وحالي المستمرة استمرار وجودي أن أكرمك، ويكون معنى النص السامي على هذا ذكر ما يؤدي إليه الكفر.

                                                          وبعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان لم يكن من حكمته وعلمه وكمال تدبيره أن يغفر لهؤلاء، ولا أن يهديهم السبيل، والسبب في ذلك أنه لا تتصور منهم التوبة والرجوع إلى الحق، والإنابة إلى الله، حتى تكون منهم التوبة النصوح التي تجب ما قبلها من الذنوب، إذ إن التوبة تكون لمن يقع في الذنب عن جهالة، ثم يتوب قبل أن يوغل في الشر ويفقد معه كل عناصر، وكذلك لا يهديهم سبيلا; لأن الهداية تكون لمن لم يظلم قلبه، ولمن أراد الهداية، وهؤلاء لا يريدونها.

                                                          فنفى الغفران، ونفى الهداية، بسبب أنهم أركسوا في الشر، وأحاطت بهم خطيئاتهم، ولقد قال في ذلك الزمخشري -رضي الله عنه-: "والمعنى أن الذين [ ص: 1907 ] تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر، والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت، يرضاه الله; لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب ضربت بالكفر، ومرنت على الردة، حيث كان الإيمان أهون شيء عندهم، وأدونه حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى".

                                                          اللهم هبنا إيمانا ثابتا وقلوبا مخلصة نقية من أخلاط الريب، إنك سميع الدعاء.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية