الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب الذبائح [ ص: 485 - 486 ] قال ( الذكاة شرط حل الذبيحة ) لقوله تعالى { إلا ما ذكيتم } ولأن بها يتميز الدم النجس من اللحم الطاهر . وكما يثبت به الحل يثبت به الطهارة في المأكول وغيره ، فإنها تنبئ عنها . ومنها قوله عليه الصلاة والسلام { ذكاة الأرض يبسها } وهي اختيارية كالجرح فيما بين اللبة واللحيين ، واضطرارية وهي الجرح في أي موضع كان من البدن . والثاني كالبدل عن الأول لأنه لا يصار إليه إلا عند العجز عن الأول .

وهذا آية البدلية ، وهذا لأن الأول أعمل في إخراج الدم والثاني أقصر فيه ، فاكتفى به عند العجز عن الأول ، إذ التكليف بحسب الوسع . ومن شرطه أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد إما اعتقادا كالمسلم أو دعوى كالكتابي ، وأن يكون حلالا [ ص: 487 ] خارج الحرم على ما نبينه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


( كتاب الذبائح )

قال جمهور الشراح : المناسبة بين المزارعة والذبائح كونهما إتلافا في الحال للانتفاع في المآل ، فإن المزارعة إنما تكون بإتلاف الحب في الأرض للانتفاع بما ينبت منها ، والذبح إتلاف الحيوان بإزهاق روحه في الحال للانتفاع بلحمه بعد ذلك انتهى . أقول : يتجه على ظاهر ما ذكروه من المناسبة أنه إنما يقتضي تعقيب المزارعة بالذبائح دون تعقيب المساقاة بالذبائح ، إذ [ ص: 485 ] لا إتلاف في المساقاة . والذي وقع في ترتيب الكتاب تعقيب المساقاة بالذبائح لا تعقيب المزارعة بها فلا يتم التقريب . اللهم إلا أن يقال : جعلوا المزارعة والمساقاة في حكم شيء واحد بناء على اتحادهما في أكثر الشرائط والأحكام كما تقرر في مباحثهما ، فكانت المناسبة المذكورة بين المزارعة والذبائح بمنزلة المناسبة بين المساقاة والذبائح فاكتفوا بذلك ، وعن هذا ترى كثيرا من أصحاب معتبرات الفتاوى كالذخيرة والمحيط وفتاوى قاضي خان وغيرها اكتفوا بذكر كتاب المزارعة وجعلوا المساقاة بابا منها وعنونوها بالمعاملة ، وذكر كل واحدة من المزارعة والمساقاة في الكتاب بكتاب على حدة لا يدل على استبداد كل واحدة منهما بذاتها واختصاصها بأحكامها ، بل يكفي جهة التغاير بينهما في الجملة .

ألا يرى أنهم ذكروا الصرف بكتاب على حدة عقيب ذكرهم كتاب البيوع مع أنه أنواع البيوع قطعا كما صرحوا به ، ثم إن الذبائح جمع ذبيحة وهي اسم ما يذبح كالذبح والذبح مصدر ذبح إذا قطع الأوداج ، كذا في الكافي والكفاية اعلم أن بعض العراقيين من مشايخنا ذهبوا إلى أن الذبح محظور عقلا لما فيه من إيلام الحيوان ولكن الشرع أحله قال شمس الأئمة السرخسي في المبسوط بعد نقل قولهم : وهذا عندي باطل ، لأن { رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتناول اللحم قبل مبعثه } ولا يظن به أنه كان يأكل ذبائح المشركين لأنهم كانوا يذبحون بأسماء الأصنام فعرفنا أنه كان يذبح ويصطاد بنفسه ، وما كان يفعل ما كان محظورا عقلا كالكذب والظلم والسفه انتهى . وقال في العناية بعد ذكر ذلك : أجيب بأنه يجوز أن يكون ما كان يأكل ذبائح أهل الكتاب وليس الذبح كالكذب والظلم . لأن المحظور العقلي ضربان : ما يقطع بتحريمه فلا يرد الشرع بإباحته إلا عند الضرورة ، وما فيه نوع تجويز من حيث تصور منفعة فيجوز أن يرد الشرع بإباحته ويقدم عليه قبله نظرا إلى نفعه كالحجامة للأطفال وتداويهم بما فيه ألم لهم انتهى .

وقال العيني بعد نقل ما قاله شمس الأئمة السرخسي : والجواب المذكور في العناية : قلت كل من الكلامين لا يخلو عن نظر . أما الأول فلأنه يحتاج إلى دليل على أنه كان يذبح بنفسه قبل البعثة . وأما الثاني فكذلك يحتاج إلى دليل على أنه كان يأكل من ذبائح أهل الكتاب فلم لا يجوز أنه لم يكن أكل شيئا من الذبيحة إلا بعد البعثة انتهى . أقول : ليس هذا بشيء ، لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم يتناول اللحم قبل البعثة أمر متواتر لا يحتاج إلى دليل ، والدليل على أنه كان يذبح بنفسه عند شمس الأئمة أن لا يظن به عليه الصلاة والسلام أنه كان يأكل ذبائح المشركين كما ذكره ، والمجيب يمنع ذلك بناء على جواز أنه كان كان يأكل ذبائح أهل الكتاب .

[ ص: 486 ] ولا يلزمه الدليل عليه ولا يحتاج إليه لكونه مانعا لا مستدلا فلا محل لنظره أصلا ( قوله قال الذكاة شرط حل الذبيحة ) قال في غاية البيان : وهذا وقع على خلاف وضع الكتاب . لأنه إذا ذكر لفظ قال في أول المسألة كان يشير به إلى ما ذكر في الجامع الصغير أو مختصر القدوري ، وهنا لم تقع الإشارة إلى أحدهما ، ولهذا لم يذكره في البداية ، وكان ينبغي أن لا يورد لفظ قال أو يقول قال العبد الضعيف مشيرا به إلى نفسه انتهى . وقال العيني بعد نقل ذلك : قلت هذا تطويل بلا فائدة ، لأنه ذكر في مواضع كثيرة من الكتاب لفظة قال بإضمار الفاعل وأراد به نفسه ، فهذا أيضا مثله ، ولا يلزم تعيين الفاعل ; ألا يرى أنه عند إسناد القول إلى القدوري أو محمد بن الحسن لم يصرح بفاعله ، وكذلك عند إسناده إلى نفسه ، ولا يخفى هذا إلا على من لم يميز مسائل القدوري من مسائل الجامع الصغير ، ومن لم يميز بينهما لم يستحق الخوض في الهداية انتهى كلامه .

أقول : الحق ما ذكر في غاية البيان وقول العيني ذكر في مواضع كثيرة من الكتاب لفظة قال بإضمار الفاعل وأراد به نفسه ، إن أراد به أنه ذكرها في أول المسألة في مواضع كثيرة من الكتاب مشيرا بها إلى نفسه فهو فرية بلا مرية ، فإنه إذا ذكرها في أول المسألة كان يشير بها إلى ما ذكر في الجامع الصغير أو مختصر القدوري على الاطراد كما ذكره صاحب الغاية ، وإن أراد بذلك أنه ذكرها في غير أول المسألة في مواضع كثيرة من الكتاب مشيرا بها إلى نفسه فهو واقع ، ولكن إذا ذكرها في مثل تلك المواضع كأن يقول قال العبد الضعيف على ما وقع في النسخ القديمة أو قال رضي الله عنه على ما وقع في النسخ الجديدة ولم يقع منه ذكر لفظة قال وحدها في مثل تلك المواضع قط ، وهذا غير خاف على من له دارية بأساليب كلام المصنف ، فالشارح العيني مكابر فيما ذكره هاهنا ( قوله لقوله تعالى { إلا ما ذكيتم } ) فإن حكم ما بعد الاستثناء يخالف ما قبله ، وقد قال الله تعالى قبله [ ص: 487 ] { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } إلى آخره .

فاستثنى من الحرمة المذكى فيكون حلالا . قال صاحب العناية : والمرتب على المشتق معلول للصفة المشتق منها ، لكن لما كان الحل ثابتا بالشرع جعلت شرطا انتهى . أقول : ليس هذا الكلام منه بمعقول المعنى ، لأن ثبوت الحل بالشرع مما لا ينافي كون الصفة المشتق منها التي هي الذكاة علة الحكم كما لا يخفى على على ذي مسكة .




الخدمات العلمية