الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق السادس والتسعون بين قاعدة من يتعين تقديمه وبين قاعدة من يتعين تأخيره في الولايات والمناصب والاستحقاقات الشرعية )

اعلم أنه يجب أن يقدم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها على من هو دونه ، فيقدم في ولاية الحروب من هو أعرف بمكائد الحروب وسياسة الجيوش والصولة على الأعداء والهيبة عليهم ، ويقدم في القضاء من هو أعرف بالأحكام الشرعية وأشد تفطنا لحجاج الخصوم وخدعهم ، وهو [ ص: 158 ] معنى قوله { عليه السلام أقضاكم علي } أي هو أشد تفطنا لحجاج الخصوم وخدع المتحاكمين .

وبه يظهر الجمع بينه وبين قوله { عليه السلام أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل } وإذا كان معاذ عرف بالحلال والحرام كان أقضى الناس غير أن القضاء لما كان يرجع إلى معرفة الحجاج والتفطن لها كان أمرا زائدا على معرفة الحلال والحرام فقد يكون الإنسان شديد المعرفة بالحلال والحرام .

وهو يخدع بأيسر الشبهات فالقضاء عبارة عن هذا التفطن ، ولهذا قال عليه السلام { إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع } الحديث فدل ذلك على أن القضاء تبع الحجاج وأحوالها فمن كان لها أشد تفطنا كان أقضى من غيره ، ويقدم في القضاء ويقدم في أمانة اليتيم من هو أعلم بتنمية أموال اليتامى وتقدير أموال النفقات وأحوال الكوافل والمناظرات عند الحكام عن أموال الأيتام ، ويقدم في جباية الصدقات من هو أعرف بمقادير النصب وأحكام الزكاة من الخلطة وغيرها .

ويقدم في الصلاة من هو أعرف بأحكامها وعوارض سهوها واستخلافها وغير ذلك من عوارضها ومصالحها حتى يكون المقدم في باب ربما أخر في باب آخر كالنساء مقدمات في باب الحضانة على الرجال ؛ لأنهن أصبر على أخلاق الصبيان وأشد شفقة ورأفة وأقل أنفة عن قاذورات الأطفال ، والرجال على العكس من ذلك في هذه الأحوال فقدمن لذلك وأخر الرجال عنهن وأخرن في الإمامة والحروب وغيرهما من المناصب ؛ لأن الرجال أقوم بمصالح تلك الولايات منهن [ ص: 159 ]

ويظهر لك باعتبار هذا التقرير أن التقديم في الصلاة لا يلزم منه من حيث هو تقديم في الصلاة التقديم في الإمامة العظمى ؛ لأن الإمامة العظمى مشتملة على سياسة الأمة ومعرفة معاقد الشريعة وضبط الجيوش وولاية الأكفاء وعزل الضعفاء ومكافحة الأضداد والأعداء وتصريف الأموال وأخذها من مظانها وصرفها في مستحقاتها إلى غير ذلك مما هو معروف بالإمامة الكبرى .

وعلى هذا ورد سؤال عن قول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما في أمر الإمامة رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا إشارة لتقديمه في الصلاة فجعل عمر [ ص: 160 ] ذلك دليلا على تقديمه رضي الله عنه للإمامة وهذا في ظاهر الحال لا يستقيم ؛ لأنه لا يلزم من التقديم في الصلاة التقديم في الخلافة .

والجواب عن هذا السؤال من وجوه الأول ما ذكره بعض العلماء وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن أبا بكر الصديق هو المتعين للخلافة ، ولم يمكن أن يفعل ذلك من قبل نفسه ؛ لأنه عليه السلام يتبع ما أنزل عليه من ربه ، وما أنزل عليه في ذلك شيء يعتمد عليه فعند ذلك ، وكل الأمر فيه إلى الاجتهاد فكان عليه السلام يشير إلى خلافته بالإيماء وأنواع التكريم والثناء عليه بمحاسنه التي توجب تقديمه فمن ذلك تقديمه عليه السلام في الصلاة { وقوله عليه السلام في مرض موته يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر } مشيرا بذلك إلى أن من كان متعينا للخلافة كيف يتقدم عليه غيره للصلاة فمراد عمر رضي الله عنه أنك رضيك النبي عليه السلام لديننا الرضا الخاص الذي تقدم تفسيره فيتعين علينا أن نرضاك للخلافة .

وليس المراد مطلق الرضا بحيث يقتصر على أهليته للإمامة في الصلاة خاصة الثاني أن عمر رضي الله عنه قصد بذلك تسكين الثائرة والفتنة وردع الأهواء بذكر حجة ظاهرة ليسكن لها أكثر الناس فيندفع الفساد .

وثالثها أن يجعل قول عمر رضيك النبي عليه السلام لديننا على ظاهره وتجعل الإضافة على بابها موجبة للعموم كما تقرر أنه هو اللغة عند الأصوليين فجعلوها من صيغ العموم لغة ، ومنه قوله عليه السلام { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } فكان ذلك عاما في جميع ماء البحر وميتته بسبب الإضافة ففهم عمر من إشارته عليه السلام أن الصديق مرضي لجميع حرمات الدين ومن جملة ذلك أحوال الأمة والنظر في مصالح الملة فإنه من أعم [ ص: 161 ] فروض الكفايات فهو من الدين ، ويكون قوله أفلا نرضاك لدنيانا أي هؤلاء إنما يتنازعون يعني الأنصار في أمور رئاسة وعلو وحصول الأمر والنهي من قبلهم ، وهذا أمر دنيوي لا ديني فيكون حسيسا بالنسبة إلى الدين الذي هو من جملة مصالح الأمة والملة ، وهذا كلام صحيح فإن المرضي لمعالي الأمور لا يقصر دون خسيسها فاندفع بهذه الوجوه هذا السؤال ، وكان الصديق رضي الله عنه أجل من هذا كله بين الصحابة رضي الله عنهم ، وإنما قام الأنصار في منازعته لطلب العلو والرئاسة ، ولهذا قال قائلهم منا أمير ومنكم أمير ومعلوم أن الشركة في الإمامة ليست من مصالح الدين ، فإن ذلك يفضي إلى المخالفة والمشاققة لكن لما لم يجد هذا القائل الأمر يصفو له وحده طلب الشركة تحصيلا لمقصده ، وإن كان ذلك ليس مصلحة للناس .

وقد قال العلماء رحمهم الله إن قوله تعالى { وإنه لذكر لك ولقومك } إنه الخلافة وإنه { كان صلى الله عليه وسلم يطوف على القبائل في أول أمره لينصروه فيقولون له ويكون لنا الأمر من بعدك فيقول صلى الله عليه وسلم إني قد منعت من ذلك وإنه قد أنزل علي { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } } فلم يكن للأنصار في هذا الشأن شيء ، وهذا مستوعب في كتب الإمامة وموضعه من أصول الدين ليس هذا موضعه ، وقد سئل بعض علماء القيروان من كان مستحقا للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سبحان الله إنا بالقيروان نعلم من هو أصلح منا بالقضاء ، ومن هو أصلح منا للفتيا ومن هو أصلح منا للإمامة أيخفى ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما يسأل عن هذه المسائل أهل العراق ، وصدق رضي الله تعالى عنه فيما قاله [ ص: 162 ] وبهذه المباحث أيضا يظهر ما قاله العلماء أن الإمام إذا وجد من هو أصلح للقضاء ممن هو متول الآن عزل الأول وولى الثاني ، وكان ذلك واجبا عليه لئلا يفوت على المسلمين مصلحة الأفضل منهما ، ويحرم عليه أن يعزل الأعلى بالأدنى لئلا يفوت على المسلمين مصلحة الأعلى ولا ينفذ عزل الأعلى ؛ لأن الإمام الذي عزله معزول عن عزله ، وإنما ولاه الله تعالى على خلاف ذلك لقوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } وإذا كان الوصي معزولا عن غير الأحسن في مال اليتيم فمصلحة جميع المسلمين أولى بذلك .

فالإمام الأعظم معزول عن عزل الأصلح للناس ، ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم { من ولي من أمور أمتي شيئا ثم لم يجتهد لهم ولم ينصح فالجنة عليه حرام } [ ص: 163 ] والمنهي عنه المحرم لا ينفذ في الشريعة لقوله صلى الله عليه وسلم { من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد } فقد تحرر الفرق بين من يصح تقديمه وبين من يصح تأخيره ، وذلك عام في الصلاة والقضاء والأوصياء والكفلاء في الحضانة وفي غيرها ، وولاية النكاح وصلاة الجنازة وكثير من أبواب الفقه يحتاج فيه إلى معرفة هذا الفرق بين هاتين القاعدتين وتحرير ضابطهما وبالله العصمة .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال : ( الفرق السادس والتسعون بين قاعدة من يتعين تقديمه وبين قاعدة من يتعين تأخيره في الولايات والمناصب والاستحقاقات الشرعية اعلم أنه يجب أن يقدم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها على من هو دونه إلى قوله [ ص: 158 ] لأن الرجال أقوم بمصالح تلك الولايات منهن ) قلت : إن أراد بقوله من هو أقوم بمصالحها من هو متصف بالأهلية لذلك وبمن هو دونه من ليس متصفا بالأهلية لذلك فلا خفاء أنه يجب تقديم المتصف دون غيره ، وإن أراد بمن هو أقوم بمصالحها من هو أتم قياما مع أن من هو دونه ممن له أهلية القيام [ ص: 159 ] بها ففي ذلك نظر ، والأظهر عند التأمل في ذلك أنه لا يجب وجوب حتم تقديم الأقوم بتلك المصالح ، بل يجوز تقديم غير الأقوم بها وتقديم الأقوم أولى ، ودليل ذلك أن المقصود من تلك المصالح حاصل بكل واحد منهما ؛ لأنه متصف بالأهلية لذلك فلا وجه لتعين الأقوم إلا على وجه الأولوية خاصة ، ولا يصح الاعتراض على هذا بتعيين تقديم النساء على الرجال في باب الحضانة فإن الرجال ليسوا كالنساء في القيام بمصالح أمور الحضانة فتعين تقديمهن عليهم لذلك ، وليس الكلام فيما هذا سبيله ، وإنما الكلام في مثل رجلين لكل واحد منهما أهلية ولاية القضاء غير أن أحدهما أصلح لها مع أن الأدنى صالح لها أيضا .

قال : ( ويظهر لك باعتبار هذا التقرير أن التقديم في الصلاة لا يلزم منه من حيث هو تقديم في الصلاة التقديم في الإمامة العظمى إلى قوله إلى غير ذلك مما هو معروف بالإمامة الكبرى ) . قلت : ما قاله من أن أهلية القيام بإمامة الصلاة لا يلزم أن يكون له أهلية القيام بإمامة الخلافة صحيح .

قال : ( وعلى هذا ورد سؤال عن قول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما في أمر الإمامة رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا إشارة لتقديمه رضي الله عنه في الصلاة فجعل عمر رضي الله عنه [ ص: 160 ] ذلك دليلا على تقديمه للإمامة ، وهذا في ظاهر الحال لا يستقيم ؛ لأنه لا يلزم من التقديم في الصلاة التقديم في الخلافة ، والجواب عن هذا السؤال من وجوه إلى منتهى قوله [ ص: 161 ] إنما يسأل عن هذا المسائل أهل العراق ، وصدق رضي الله تعالى عنه فيما قاله ) .

قلت : الجوابات لا بأس بها غير ما تضمنه الجواب الأخير من الحمل على الأنصار في قوله إنما قاموا في منازعته لطلب [ ص: 162 ] العلو والرئاسة ، وإنهم لما رأوا أن الأمر لا يصفو لهم طلبوا الشركة فإن ذلك كله أمر لا يليق بهم ، ولا تصح نسبة مثله إليهم ، وليس الظن بهم إلا أنهم طلبوا ذلك لتحصيل الأجور الحاصلة لمتولي أمر الإمامة على الوجه الشرعي فلما لم يساعدوا على ذلك طلبوا الشركة طمعا في تحصيل بعض تلك الأجور إذ تعذر تحصيل جميعها هذا هو اللائق بهم لا ما ذكره من إيثار الرئاسة الدنيوية التي لا تناسب أحوالهم في بذلهم في ذات الله تعالى أنفسهم وأموالهم . والله أعلم .

قال : ( وبهذه المباحث أيضا يظهر ما قاله العلماء أن الإمام إذا وجد من هو أصلح للقضاء ممن هو متول الآن عزل الأول وولى الثاني ، وكان ذلك واجبا عليه لئلا يفوت على المسلمين مصلحة الأفضل إلى آخر ما قاله في هذا الفرق ) . قلت : ما حكاه عن العلماء من أن الإمام إذا وجد من هو أصلح للقضاء عزل المتولي ينبغي أن يحمل على أن المتولي مقصر عن الأهلية لا على أنه أهل ، ولكن غيره أمس منه بالأهلية ، ودليل ذلك أن المصلحة المقصودة من القضاء تحصل من المفضول المتصف [ ص: 163 ] بالأهلية كما تحصل من الفاضل المتصف بها فلا وجه لعزله ، وقياسه على الوصي فيه واستدلاله بقوله صلى الله عليه وسلم { من ولي من أمور أمتي شيئا ولم يجتهد لهم ولم ينصح فالجنة عليه حرام } نقول بموجبه ولا يتناول محل النزاع ، فإن الكلام ليس فيمن لم يجتهد ولم ينصح ، وإنما الكلام فيمن يجتهد وينصح وهو أهل لذلك غير أن غيره أمس بالأهلية منه ، وما قاله فيما بعد ذلك من الفروق السبعة إلى تمام الفرق الثالث والمائة صحيح .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 164 - 165 ] الفرق السادس والتسعون بين قاعدة من يتعين تقديمه وبين قاعدة من يتعين تأخيره في الولايات والمناصب والاستحقاقات الشرعية )

لا خفاء في أنه يجب تقديم من هو متصف بالأهلية لأي ولاية أو منصب أو استحقاق من الولاية والمناصب والاستحقاقات الشرعية وتأخير من ليس متصفا بالأهلية لذلك ضرورة أن المصلحة المقصودة من ذلك إنما تحصل ممن اتصف بالأهلية لا ممن ليس كذلك ، فيقدم في أمانة الأيتام من اتصف بأهلية تنمية أموالهم وتقدير أموال النفقات وأحوال الكوافل والمناظرات عند الحكام عن أموالهم على من لم يتصف بتلك الأهلية ، ويقدم في جباية الصدقات من فيه أهلية معرفة مقادير النصب وأحكام الزكاة من الخلطة وغيرها على من لم تكن فيه تلك [ ص: 172 ] الأهلية ، ويقدم في الصلاة من كان أهلا في معرفة أحكامها وعوارض سهوها واستخلافها وغير ذلك من عوارضها ومصالحها على من ليس أهلا في ذلك ، وإن كان أهلا في غير ذلك .

وأما الأتم قياما بذلك فلا يجب حتم تقديمه على من هو دونه ممن له أهلية القيام بذلك بل يجوز تقديم غير الأتم على الأتم ضرورة أن المقصود من تلك المصالح حاصل بكل واحد منهما ؛ لأنه متصف بالأهلية لذلك فلا وجه لتعيين الأتم إلا على وجه الأولوية خاصة وقول العلماء إن الإمام إذا وجد من هو أصلح للقضاء ممن هو متول الآن وجب عليه عزل الأول وتولية الأصلح لئلا يفوت على المسلمين مصلحة الأفضل منهما ، ويحرم عليه أن يعزل الأعلى بالأدنى لئلا يفوت على المسلمين مصلحة الأعلى ولا ينفذ عزل الأعلى ؛ لأن الإمام الذي عزله معزول عن عزله ، وإنما ولاه الله تعالى على خلاف ذلك ا هـ .

يتعين أن يحمل على أن المتولي قاصر عن الأهلية لا على أنه أهل ، ولكن غيره أمس منه بالأهلية إذ لا وجه لعزله حينئذ ، والحال أن المصلحة المقصودة من القضاء كما تحصل من الفاضل المتصف بالأهلية كذلك تحصل من المفضول المتصف بها ، وتعيين تقديم النساء على الرجال في باب الحضانة إنما هو ؛ لأن الرجال ليسوا كالنساء في أهلية القيام بمصالح أمور الحضانة فإن النساء أصبر على أخلاق الصبيان وأشد شفقة ورأفة وأقل أنفة عن قاذورات الأطفال وأكثر إقامة بالمنزل ، والرجال على العكس من ذلك في هذه الأحوال فتعيين تقديم النساء عليهم لذلك لا لكونهن أمس منهم بالأهلية ، كما إن تقديم الرجال عليهن في الإمامة والحروب وغيرهما من المناصب لأنهن لسن كالرجال في أهلية القيام بمصالح تلك المناصب والولايات ، بل الأهلية فيها ليست بثابتة لجميع الرجال ألا ترى قوله { صلى الله عليه وسلم أقضاكم علي } مع قوله صلى الله عليه وسلم { أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل } فإنه صلى الله عليه وسلم لما علم أن القضاء تبع الحجاج وأحوالها ، وأن من كان لها أشد تفطنا كان أقضى من غيره ممن لم تكن له تلك الأهلية فيقدم في القضاء عليه .

وإن كان ذلك الغير شديد المعرفة بالحلال والحرام إذ هو يخدع بأيسر الشبهات ، ولكون القضاء عبارة عن التفطن للحجاج قال عليه السلام { إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع } فظهر الجمع بين حديثي علي ومعاذ ، وأن من له أهلية القيام بالفتيا من حيث إنه شديد المعرفة بالحلال والحرام لا يلزم أن يكون له أهلية القيام بالقضاء كما إن من له أهلية القيام بإمامة الصلاة لا يلزم أن يكون له أهلية القيام بإمامة الخلافة ضرورة أن إمامة الخلافة مشتملة على سياسة الأمة ومعرفة الشريعة وضبط الجيوش وولاية الأكفاء وعزل الضعفاء ومكافحة الأضداد والأعداء وتصريف الأموال وأخذها من مظانها وصرفها في مستحقاتها إلى غير ذلك مما هو معروف بالإمامة الكبرى ، ومن حيث إنه لا يلزم من التقديم في الصلاة التقديم في الخلافة كانت إشارة عمر بقوله لأبي بكر رضي الله عنهما في أمر الإمامة رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا إلى أن تقديمه في الصلاة دليل على تقديمه رضي الله عنه للإمامة لا تستقيم في ظاهر الحال إلا أن يقال ليس مراد عمر رضي الله تعالى عنه أنك [ ص: 173 ] رضيك النبي عليه السلام لديننا مطلق الرضا بحيث يقتصر على أهليته للإمامة في الصلاة خاصة بل الرضا الخاص المفسر باختصاصه بأنواع التكريم من نحو الثناء عليه بمحاسنه التي توجب تقديمه ومن تقديمه عليه السلام في الصلاة ومن قوله عليه السلام في مرض موته { يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر } فيتعين علينا أن نرضاك للخلافة ، وذلك لأنه إنما يشير باختصاصه بذلك إلى أن من كان متعينا للخلافة كيف يتقدم عليه غيره للصلاة فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه رضي الله عنه هو المتعين للخلافة .

ولا يمكن أن يفعل ذلك من قبل نفسه لأنه عليه السلام يتبع ما أنزل عليه من ربه ، وحيث لم ينزل عليه في ذلك شيء وكل الأمر فيه إلى الاجتهاد وإنه عليه السلام كان يشير ويومئ باختصاصه بأنواع التكريم إلى خلافته ، أو يقال قصد عمر رضي الله عنه بذلك تسكين الثائرة والفتنة وردع الأهواء بذكر حجة ظاهرة ليسكن لها أكثر الناس فيندفع الفساد أو يقال إن عمر رضي الله عنه فهم من إشارته عليه السلام أن الصديق مرضي لجميع حرمات الدين ومن جملة ذلك أحوال الأمة والنظر في مصالح الملة فإنه من أهم فروض الكفاية فهو من الدين بناء على جعل الإضافة في قوله لديننا على بابها موجب للعموم لكون الأصوليين جعلوها من صيغ العموم لغة في نحو قوله عليه السلام { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } فكان ذلك عاما في جميع ماء البحر وميتته بسبب الإضافة ، ويكون قوله أفلا نرضاك لدنيانا أي من العلو والرئاسة فلا نقدم عليك من الأنصار من يطلب التقدم عليك فيه ، وإن كان لغرض شرعي من تحصيل الأجور الحاصلة لمتولي أمر الأمة على الوجه الشرعي ولا نشرك معك من يطلب منهم الشركة فيه طمعا لتحصيل بعض تلك الأجور كما هو المناسب لأحوال الأنصار في بذلهم في ذات الله تعالى أنفسهم وأموالهم فإن المرضي لمعالي الأمور لا يقصر دون خسيسها .

ولأن المشاركة في الإمامة ليست من مصالح الدين فإن ذلك يفضي إلى المخالفة والمشاققة ، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى إن قوله تعالى { وإنه لذكر لك ولقومك } إنه الخلافة وإنه { كان صلى الله عليه وسلم يطوف على القبائل في أول أمره لينصروه ، فيقولون له ويكون لنا الأمر من بعدك فيقول صلى الله عليه وسلم إني قد منعت من ذلك وإنه قد أنزل علي { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } } فلم يكن للأنصار في هذا الشأن شيء كما هو مستوعب في موضعه من أصول الدين ، وقد سئل بعض علماء القيروان من كان مستحقا للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سبحان الله إنا بالقيروان وإنا نعلم من هو أصلح منا بالقضاء ، ومن هو أصلح منا للفتيا ، ومن هو أصلح منا للإمامة أيخفى ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما يسأل عن هذه المسائل أهل العراق والله سبحانه وتعالى أعلم




الخدمات العلمية