الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 69 ] 51

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين

وفيها كان مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم ، وغزوة بسر بن أبي أرطاة الصائفة .

ذكر مقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما

في هذه السنة قتل حجر بن عدي وأصحابه .

وسبب ذلك أن معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين ، فلما أمره عليها دعاه وقال له : أما بعد فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ، وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم ، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا على بصرك ، ولست تاركا إيصاءك بخصلة : لا تترك شتم علي وذمه ، والترحم على عثمان والاستغفار له ، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم ، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم ، فقال له المغيرة : قد جربت وجربت ، وعملت قبلك لغيرك فلم يذممني ، وستبلو فتحمد أو تذم . فقال : بل نحمد إن شاء الله .

فأقام المغيرة عاملا على الكوفة وهو أحسن شيء سيرة ، غير أنه لا يدع شتم علي والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له ، فإذا سمع ذلك حجر بن عدي قال : بل إياكم ذم الله ولعن ! ثم قام وقال : أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ، ومن تزكون أولى بالذم . فيقول له المغيرة : يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته ، فإن غضب السلطان يهلك أمثالك ، ثم يكف عنه ويصفح .

فلما كان آخر إمارته قال في علي وعثمان ما كان يقوله ، فقام حجر فصاح صيحة [ ص: 70 ] بالمغيرة سمعها كل من بالمسجد وقال له : مر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك ، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين .

فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون : صدق حجر وبر ، مر لنا بأرزاقنا فإن ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعا ! وأكثروا من هذا القول وأمثاله . فنزل المغيرة فاستأذن عليه قومه ودخلوا وقالوا : علام تترك هذا الرجل يجترئ عليك في سلطانك ويقول لك هذه المقالة فيوهن سلطانك ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية ؟ فقال لهم المغيرة : إني قد قتلته ، سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي فيصنع به ما ترونه يصنع بي فيأخذه ويقتله ! إني قد قرب أجلي ولا أحب أن أقتل خيار أهل هذا المصر فيسعدوا وأشقى ويعز في الدنيا معاوية ويشقى في الآخرة المغيرة .

ثم توفي المغيرة وولي زياد ، فقام في الناس فخطبهم عند قدومه ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه . فقام حجر ففعل كما كان يفعل بالمغيرة . ورجع زياد إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث ، فبلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه وأنهم حصبوا عمرو بن حريث ، فشخص زياد إلى الكوفة حتى دخلها فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وحجر جالس ، ثم قال : أما بعد فإن غب البغي والغي وخيم ، إن هؤلاء جموا فأشروا ، وأمنوني فاجترءوا على الله ، لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم ، ولست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر ، وأدعه نكالا لمن بعده ، ويل أمك يا حجر ، سقط العشاء بك على سرحان .

وأرسل إلى حجر يدعوه وهو بالمسجد ، فلما أتاه رسول زياد يدعوه قال أصحابه : لا تأته ولا كرامة . فرجع الرسول فأخبر زيادا ، فأمر صاحب شرطته ، وهو شداد بن الهيثم الهلالي ، أن يبعث إليه جماعة ففعل ، فسبهم أصحاب حجر ، فرجعوا وأخبروا زيادا ، فجمع أهل الكوفة وقال : تشجون بيد وتأسون بأخرى ! أبدانكم معي وقلوبكم مع حجر الأحمق ! هذا والله من دحسكم ! والله ليظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم ! فقالوا : معاذ الله أن يكون لنا رأي إلا طاعتك وما فيه رضاك ، قال : [ ص: 71 ] فليقم كل رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله . ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه . وقال زياد لصاحب شرطته : انطلق إلى حجر فإن تبعك فأتني به وإلا فشدوا عليهم بالسيوف حتى تأتوني به .

فأتاه صاحب الشرطة يدعوه ، فمنعه أصحابه من إجابته ، فحمل عليهم ، فقال أبو العمرطة الكندي لحجر : إنه ليس معك من معه سيف غيري وما يغني عنك سيفي ، قم فالحق بأهلك يمنعك قومك :

وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر ، وغشيهم أصحاب زياد ، وضرب رجل من الحمراء رأس عمرو بن الحمق بعموده فوقع ، وحمله أصحابه إلى الأزد فاختفى عندهم حتى خرج ، وانحاز أصحاب حجر إلى أبواب كندة ، وضرب بعض الشرطة يد عائذ بن حملة التميمي وكسر نابه وأخذ عمودا من بعض الشرط فقاتل به وحمى حجرا وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة ، وأتى حجر بغلته ، فقال له أبو العمرطة : اركب فقد قتلتنا ونفسك . وحمله حتى أركبه ، وركب أبو العمرطة فرسه ، ولحقه يزيد بن طريف المسلي فضرب أبا العمرطة على فخذه بالعمود ، وأخذ أبو العمرطة سيفه فضرب به رأسه فسقط ، ثم برأ ، وله يقول عبد الله بن همام السلولي :


ألؤم ابن لؤم ما عدا بك حاسرا إلى بطل ذي جرأة وشكيم     معاود ضرب الدارعين بسيفه
على الهام عند الروع غير لئيم     إلى فارس الغارين يوم تلاقيا
بصفين قرم خير نجل قروم     حسبت ابن برصاء الحتار قتاله
قتالك زيدا يوم دار حكيم



وكان ذلك السيف أول سيف ضرب به في الكوفة في اختلاف بين الناس .

ومضى حجر وأبو العمرطة إلى دار حجر واجتمع إليهما ناس كثير ، ولم يأته من كندة كثير أحد :

فأرسل زياد ، وهو على المنبر ، مذحجا وهمدان إلى جبانة كندة ، وأمرهم أن يأتوه بحجر ، وأرسل سائر أهل اليمن إلى جبانة الصائدين ، وأمرهم أن يمضوا إلى صاحبهم حجر فيأتوه به ، ففعلوا ، فدخل مذحج وهمدان إلى جبانة كندة فأخذوا كل من وجدوا ، فأثنى عليهم زياد .

فلما رأى حجر قلة من معه أمرهم بالانصراف وقال لهم : لا طاقة لكم بمن قد [ ص: 72 ] اجتمع عليكم وما أحب أن تهلكوا . فخرجوا ، فأدركهم مذحج وهمدان فقاتلوهم وأسروا قيس بن يزيد ونجا الباقون ، فأخذ حجر طريقا إلى بني حوت فدخل دار رجل منهم يقال له سليم بن يزيد ، وأدركه الطلب فأخذ سليم سيفه ليقاتل ، فبكت بناته ، فقال حجر : بئس ما أدخلت على بناتك إذا ! قال : والله لا تؤخذ من داري أسيرا ولا قتيلا وأنا حي :

فخرج حجر من خوخة في داره فأتى النخع فنزل دار عبد الله بن الحارث أخي الأشتر ، فأحسن لقاءه .

فبينما هو عنده إذ قيل له : إن الشرط تسأل عنك في النخع . وسبب ذلك أن أمة سوداء لقيتهم فقالت : من تطلبون ؟ فقالوا : حجر بن عدي . فقالت : هو في النخع .

فخرج حجر من عنده فأتى الأزد فاختفى عند ربيعة بن ناجد .

فلما أعياهم طلبه دعا زياد محمد بن الأشعث وقال له : والله لتأتيني به أو لأقطعن كل نخلة لك وأهدم دورك ثم لا تسلم مني حتى أقطعك إربا إربا .

فاستمهله ، فأمهله ثلاثا وأحضر قيس بن يزيد أسيرا ، فقال له زياد : لا بأس عليك ، قد عرفت رأيك في عثمان وبلاءك مع معاوية بصفين وأنك إنما قاتلت مع حجر حمية وقد غفرتها لك ولكن ائتني بأخيك عمير . فاستأمن له منه على ماله ودمه ، فأمنه ، فأتاه به وهو جريح فأثقله حديدا ، وأمر الرجال أن يرفعوه ويلقوه ، ففعلوا به ذلك مرارا ، فقال قيس بن يزيد لزياد : ألم تؤمنه ؟ قال : بلى قد أمنته على دمه ولست أهريق له دما . ثم ضمنه وخلى سبيله .

ومكث حجر بن عدي في بيت ربيعة يوما وليلة ، فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول له ليأخذ له من زياد أمانا حتى يبعث به إلى معاوية . فجمع محمد جماعة ، منهم : جرير بن عبد الله ، وحجر بن يزيد ، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر ، فدخلوا على زياد فاستأمنوا له على أن يرسله إلى معاوية ، فأجابهم فأرسلوا إلى حجر بن عدي فحضر عند زياد ، فلما رآه قال : مرحبا بك أبا عبد الرحمن ، حرب أيام الحرب ، وحرب وقد سالم الناس ، على أهلها تجني براقش ، فقال حجر : ما خلعت طاعة ، ولا فارقت جماعة ، وإني على بيعتي . فأمر به إلى السجن . فلما ولى قال زياد : والله لأحرصن على قطع خيط رقبته :

وطلب أصحابه ، فخرج عمرو بن الحمق حتى أتى الموصل ومعه رفاعة بن شداد فاختفيا بجبل هناك ، فرفع خبرهما إلى عامل الموصل ، فسار إليهما :

[ ص: 73 ] فخرجا إليه ، فأما عمرو فكان قد استسقى بطنه ولم يكن عنده امتناع ، وأما رفاعة فكان شابا قويا فركب فرسه ليقاتل عن عمرو ، فقال له عمرو : ما ينفعني قتالك عني ؟ انج بنفسك ! فحمل عليهم ، فأفرجوا له ، فنجا ، وأخذ عمرو أسيرا ، فسألوه : من أنت ؟ فقال : من إن تركتموه كان أسلم لكم ، وإن قتلتموه كان أضر عليكم ، ولم يخبرهم . فبعثوه إلى عامل الموصل ، وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي الذي يعرف بابن أم الحكم ، وهو ابن أخت معاوية ، فعرفه فكتب فيه إلى معاوية . فكتب إليه :

إنه زعم أنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص معه ، فاطعنه كما طعن عثمان :

فأخرج وطعن ، فمات في الأولى منهن أو الثانية .

وجد زياد في طلب أصحاب حجر فهربوا ، وأخذ من قدر عليه منهم . فأتي بقبيصة بن ضبيعة العبسي بأمان فحبسه ، وجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد فقال له : إن امرأ منا يقال له صيفي من رءوس أصحاب حجر . فبعث زياد فأتي به ، فقال : يا عدو الله ما تقول في أبي تراب ؟ قال : ما أعرف أبا تراب :

فقال : ما أعرفك به ! أتعرف علي بن أبي طالب ؟ قال : نعم . قال : فذاك أبو تراب :

قال : كلا ، ذاك أبو الحسن والحسين :

فقال له صاحب الشرطة : يقول الأمير هو أبو تراب وتقول لا ! قال : فإن كذب الأمير أكذب أنا ، وأشهد على باطل كما شهد ؟ فقال له زياد : وهذا أيضا ، علي بالعصا ، فأتي بها ، فقال : ما تقول في علي ؟ قال : أحسن قول :

قال : اضربوه ، حتى لصق بالأرض ، ثم قال : أقلعوا عنه ، ما قولك في علي ؟ قال : والله لو شرحتني بالمواسي ما قلت فيه إلا ما سمعت مني :

قال : لتلعننه أو لأضربن عنقك ! قال : لا أفعل . فأوثقوه حديدا وحبسوه .

قيل : وعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث في مواطنه . ثم دخل الكوفة فجلس في بيته ، فقال حوشب للحجاج : إن هنا امرأ صاحب فتن لم تكن فتنة بالعراق إلا وثب فيها ، وهو ترابي يلعن عثمان ، وقد خرج مع ابن الأشعث حتى هلك ، وقد جاء فجلس في بيته . فبعث إليه الحجاج فقتله ، فقال بنو أبيه لآل حوشب : سعيتم بصاحبنا ! فقالوا : وأنتم أيضا سعيتم بصاحبنا ، يعني صيفيا الشيباني .

وأرسل زياد إلى عبد الله بن خليفة الطائي ، فتوارى ، فبعث إليه الشرط فأخذوه ، [ ص: 74 ] فخرجت أخته النوار فحرضت طيئا ، فثاروا بالشرط وخلصوه :

فرجعوا إلى زياد فأخبروه ، فأخذ عدي بن حاتم وهو في المسجد فقال : ائتني بعبد الله ! قال : وما حاله ؟ فأخبره ، فقال : لا علم لي بهذا ! قال : لتأتيني به :

قال : لا آتيك به أبدا ، آتيك بابن عمي تقتله ! والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه ! فأمر به إلى السجن ، فلم يبق بالكوفة يمني ولا ربعي إلا كلم زيادا وقالوا : تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : فإني أخرجه على شرط أن يخرج ابن عمه عني فلا يدخل الكوفة ما دام لي سلطان :

فأجابوه إلى ذلك ، وأرسل عدي إلى عبد الله يعرفه ما كان وأمره أن يلحق بجبلي طيئ ، فخرج إليهما ، وكان يكتب إلى عدي ليشفع فيه ليعود إلى الكوفة ، وعدي يمنيه ، فمما كتب إليه يعاتبه ويرثي حجرا وأصحابه قوله :


تذكرت ليلى والشبيبة أعصرا     وذكر الصبا برح على من تذكرا
وولى الشباب فافتقدت غصونه     فيا لك من وجد به حين أدبرا
فدع عنك تذكار الشباب وفقده     وأسبابه إذ بان عنك فأجمرا
وبك على الخلان لما تخرموا     ولم يجدوا عن منهل الموت مصدرا
دعتهم مناياهم ومن حان يومه     من الناس فاعلم أنه لن يؤخرا
أولئك كانوا شيعة لي وموئلا     إذا اليوم ألفي ذا احتدام مذكرا
وما كنت أهوى بعدهم متعللا     بشيء من الدنيا ولا أن أعمرا
أقول ولا والله أنسى ادكارهم     سجيس الليالي أو أموت فأقبرا
على أهل عذراء السلام مضاعفا     من الله وليسق الغمام الكنهورا
ولاقى بها حجر من الله رحمة     فقد كان أرضى الله حجر وأعذرا
ولا زال تهطال ملث وديمة     على قبر حجر أو ينادى فيحشرا
فيا حجر من للخيل تدمى نحورها     وللملك المغزي إذا ما تغشمرا


[ ص: 75 ] ومن صادع بالحق بعدك ناطق     بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا
فنعم أخو الإسلام كنت وإنني     لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا
وقد كنت تعطي السيف في الحرب حقه     وتعرف معروفا وتنكر منكرا
فيا أخوينا من هميم عصمتما     ويسرتما للصالحات فأبشرا
ويا أخوي الخندفيين أبشرا     بما معنا حييتما أن تتبرا
ويا إخوتا من حضرموت وغالب     وشيبان لقيتم حسابا ميسرا
سعدتم فلم أسمع بأصوب منكم     حجاجا لدى الموت الجليل وأصبرا
سأبكيكم ما لاح نجم وغرد ال     حمام ببطن الواديين وقرقرا
فقلت ولم أظلم : أغوث بن طيئ     متى كنت أخشى بينكم أن أسيرا
هبلتم ألا قاتلتم عن أخيكم     وقد دث حتى مال ثم تجورا
تفرجتم عني فغودرت مسلما     كأني غريب من إياد وأعصرا
فمن لكم مثلي لدى كل غارة     ومن لكم مثلي إذا البأس أصحرا
ومن لكم مثلي إذا الحرب قلصت     وأوضع فيها المستميت وشمرا
فها أنا ذا آوي بأجبال طيئ     طريدا فلو شاء الإله لغيرا


[ ص: 76 ] نفاني عدوي ظالما عن مهاجري     رضيت بما شاء الإله وقدرا
وأسلمني قومي بغير جناية     كأن لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا
فإن ألف في دار بأجبال طيئ     وكان معانا من عصير ومحضرا
فما كنت أخشى أن أرى متغربا     لحى الله من لاحى عليه وكثرا
لحى الله قيل الحضرميين وائلا     ولاقى القناني بالسنان المؤمرا
ولاقى الردى القوم الذين تحزبوا     علينا وقالوا قول زور ومنكرا
فلا يدعني قوم لغوث بن طيئ     لئن دهرهم أشفى بهم وتغيرا
فلم أغزهم في المعلمين ولم أثر     عليهم عجاجا بالكويفة أكدرا
فبلغ خليلي إن رحلت مشرقا     جديلة والحيين معنا وبحترا
ونبهان والأفناء من جذم طيئ     ألم أك فيكم ذا الغناء العشنزرا
ألم تذكروا يوم العذيب أليتي     أمامكم أن لا أرى الدهر مدبرا
وكري على مهران والجمع حابس     وقتلي الهمام المستميت المسورا
ويوم جلولاء الوقيعة لم ألم     ويوم نهاوند الفتوح وتسترا
وتنسونني يوم الشريعة والقنا     بصفين في أكتافهم قد تكسرا


[ ص: 77 ] جزى ربه عني عدي بن حاتم     برفضي وخذلاني جزاء موفرا
أتنسى بلائي سادرا يا ابن حاتم     عشية ما أغنت عديك حزمرا
فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا     وكنت أنا الخصم الألد العذورا
تولوا وما قاموا مقامي كأنما     رأوني ليثا بالأباءة مخدرا
نصرتك إذ خان القريب وأبعط ال     بعيد وقد أفردت نصرا مؤزرا
فكان جزائي أن أجرر بينكم     سحيبا وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدة لي منك أنك راجعي     فلم تغن بالميعاد عني حبترا
فأصبحت أرعى النيب طورا وتارة     أهرهر إن راعي الشويهات هرهرا
كأني لم أركب جوادا لغارة     ولم أترك القرن الكمي مقطرا
ولم أعترض بالسيف منكم مغيرة     إذ النكس مشى القهقرى ثم جرجرا
ولم أستحث الركض في إثر عصبة     ميممة عليا سجاس وأبهرا
ولم أذعر الأبلام مني بغارة     كورد القطا ثم انحدرت مظفرا
ولم أر في خيل تطاعن مثلها     بقزوين أو شروين أو أغر كيدرا
فذلك دهر زال عني حميده     وأصبح لي معروفه قد تنكرا


[ ص: 78 ] فلا يبعدن قومي وإن كنت عاتبا     وكنت المضاع فيهم والمكفرا
ولا خير في الدنيا ولا العيش بعدهم     وإن كنت عنهم نائي الدار محصرا


وقد تقدم ما فعله عبد الله مع عدي في وقعة صفين ، فلهذا لم نذكره هاهنا .

فمات عبد الله بالجبلين قبل موت زياد ، ثم أتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي من أصحاب حجر بن عدي ، فقال : ما اسمك ؟ قال : كريم بن عفيف :

قال : ما أحسن اسمك واسم أبيك وأسوأ عملك ورأيك ! فقال له : أما والله إن عهدك برأيي منذ قريب .

قال : وجمع زياد من أصحاب عدي اثني عشر رجلا في السجن ثم دعا رؤساء الأرباع يومئذ ، وهم : عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة ، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان ، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة ، وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد ، فشهد هؤلاء أن حجرا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة ودعا إلى حرب أمير المؤمنين ، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب ، ووثب بالمصر ، وأخرج عامل أمير المؤمنين ، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه وأهل حربه ، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رءوس أصحابه على مثل رأيه وأمره .

ونظر زياد في شهادة الشهود وقال : إني لأحب أن يكونوا أكثر من أربعة ، فدعا الناس ليشهدوا عليه ، فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة بن عبيد الله ، والمنذر بن الزبير ، وعمارة بن عقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن سعد بن أبي وقاص ، وغيرهم ، وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هانئ ، فأما شريح بن هانئ فكان يقول : ما شهدت وقد لمته .

ثم دفع زياد حجر بن عدي وأصحابه إلى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب ، وأمرهما أن يسيرا بهم إلى الشام ، فخرجوا عشية ، فلما بلغوا الغريين لحقهم [ ص: 79 ] شريح بن هانئ وأعطى وائلا كتابا وقال : أبلغه أمير المؤمنين ، فأخذه ، وساروا حتى انتهوا بهم إلى مرج عذراء عند دمشق ، وكانوا : حجر بن عدي الكندي ، والأرقم بن عبد الله الكندي ، وشريك بن شداد الحضرمي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة بن ضبيعة العبسي ، وكريم بن عفيف الخثعمي ، وعاصم بن عوف البجلي ، وورقاء بن سمعي البجلي ، وكدام بن حيان ، وعبد الرحمن بن حسان العنزيين ، ومحرز بن شهاب التميمي ، وعبد الله بن حوية السعدي التميمي ، فهؤلاء اثنا عشر رجلا ، وأتبعهم زياد برجلين ، هما : عتبة بن الأخنس من سعد بن بكر ، وسعد بن نمران الهمداني ، فتموا أربعة عشر رجلا .

فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير بن شهاب ، فأدخلهما وأخذ كتابهما فقرأه ، ودفع إليه وائل كتاب شريح بن هانئ ، فإذا فيه :

بلغني أن زيادا كتب شهادتي ، وإن شهادتي على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، حرام الدم والمال ، فإن شئت فاقتله وإن شئت فدعه :

فقال معاوية : ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم وحبس القوم بمرج عذراء . فوصل إليهم الرجلان اللذان ألحقهما زياد بحجر وأصحابه ، فلما وصلا سار عامر بن الأسود العجلي إلى معاوية ليعلمه بهما ، فقام إليه حجر بن عدي في قيوده فقال له : أبلغ معاوية أن دماءنا عليه حرام ، وأخبره أنا قد أومنا وصالحناه وصالحنا ، وأنا لم نقتل أحدا من أهل القبلة فيحل له دماؤنا .

فدخل عامر على معاوية فأخبره بالرجلين ، فقام يزيد بن أسد البجلي فاستوهبه ابني عمه ، وهما : عاصم وورقاء ، وكان جرير بن عبد الله البجلي قد كتب فيهما يزكيهما ويشهد لهما بالبراءة مما شهد عليهما ، فأطلقهما معاوية ، وشفع وائل بن حجر في الأرقم [ ص: 80 ] فتركه له وشفع أبو الأعور السلمي في عتبة بن الأخنس فتركه ، وشفع حمرة بن مالك الهمداني في سعد بن نمران فوهبه له ، ( وشفع حبيب بن مسلمة في ابن حوية فتركه له ) ، وقام مالك بن هبيرة السكوني فقال : دع لي ابن عمي حجرا . فقال له : هو رأس القوم وأخاف إن خليت سبيله أن يفسد علي مصره فنحتاج أن نشخصك إليه بالعراق :

فقال : والله ما أنصفتني يا معاوية ! قاتلت معك ابن عمك يوم صفين حتى ظفرت ، وعلا كعبك ولم تخف الدوائر ، ثم سألتك ابن عمي فمنعتني ! ثم انصرف فجلس في بيته .

فبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي ، والحصين بن عبد الله الكلابي ، وأبا شريف البدي إلى حجر وأصحابه ليقتلوا من أمروا بقتله منهم ، فأتوهم عند المساء :

فلما رأى الخثعمي أحدهم أعور قال : يقتل نصفنا ويترك نصفنا ، فتركوا ستة وقتلوا ثمانية ، وقالوا لهم قبل القتل : إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له ، فإن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم :

فقالوا : لسنا فاعلي ذلك . فأمر فحفرت القبور وأحضرت الأكفان وقام حجر وأصحابه يصلون عامة الليل :

فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم فقال لهم حجر بن عدي : اتركوني أتوضأ وأصلي فإني ما توضأت إلا صليت ، فتركوه ، فصلى ثم انصرف منها وقال : والله ما صليت صلاة قط أخف منها ، ولولا أن تظنوا في جزعا من الموت لاستكثرت منها :

ثم قال : اللهم إنا نستعديك على أمتنا ! فإن أهل الكوفة شهدوا علينا ، وإن أهل الشام يقتلوننا ، أما والله لئن قتلتموني بها فإني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها ، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها ! ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف فارتعد ، فقالوا له : زعمت أنك لا تجزع من الموت ، فابرأ من صاحبك وندعك :

فقال : وما لي لا أجزع وأرى قبرا محفورا ، وكفنا منشورا ، وسيفا مشهورا ! وإني والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب . فقتلوه وقتلوا ستة .

فقال عبد الرحمن بن حسان العنزي وكريم الخثعمي : ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته :

فاستأذنوا معاوية فيهما ، فأذن [ ص: 81 ] بإحضارهما :

فلما دخلا عليه قال الخثعمي : الله الله يا معاوية ! فإنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة ، ثم مسئول عما أردت بسفك دمائنا ! فقال له : ما تقول في علي ؟ قال : أقول فيه قولك : قال : أتبرأ من دين علي الذي يدين الله به ؟ فسكت ، وقام شمر بن عبد الله من بني قحافة ( بن خثعم ) فاستوهبه ، فوهبه له على أن لا يدخل الكوفة ، فاختار الموصل ، فكان يقول : لو مات معاوية قدمت الكوفة ، فمات قبل معاوية بشهر :

ثم قال لعبد الرحمن بن حسان : يا أخا ربيعة ما تقول في علي ؟ قال دعني ولا تسألني فهو خير لك :

قال : والله لا أدعك :

قال : أشهد أنه كان من الذاكرين الله تعالى كثيرا ، من الآمرين بالحق والقائمين بالقسط والعافين عن الناس :

قال : فما قولك في عثمان ؟ قال : هو أول من فتح أبواب الظلم ، وأغلق أبواب الحق :

قال : قتلت نفسك ! قال : بل إياك قتلت ، ولا ربيعة بالوادي ، يعني ليشفعوا فيه ، فرده معاوية إلى زياد وأمره أن يقتله شر قتلة ، فدفنه حيا .

فكان الذين قتلوا : حجر بن عدي ، وشريك بن شداد الحضرمي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة بن ضبيعة العبسي ، ومحرز بن شهاب السعدي التميمي ، وكدام بن حيان العنزي ، وعبد الرحمن بن حسان العنزي الذي دفنه زياد حيا ، فهؤلاء السبعة قتلوا ودفنوا وصلي عليهم .

قيل : ولما بلغ الحسن البصري قتل حجر وأصحابه قال : صلوا عليهم وكفنوهم ودفنوهم واستقبلوا بهم القبلة ؟ قالوا نعم .

قال حجوهم ورب الكعبة !

وأما مالك بن هبيرة السكوني فحين لم يشفعه معاوية في حجر جمع قومه وسار بهم إلى عذراء ليخلص حجرا وأصحابه ، فلقيته قتلتهم ، فلما رأوه علموا أنه جاء ليخلص حجرا ، فقال لهم : ما وراءكم ؟

قالوا : قد تاب القوم وجئنا لنخبر أمير المؤمنين :

فسكت وسار إلى عذراء ، فلقيه بعض من جاء منها فأخبره بقتل القوم ، فأرسل الخيل في إثر قتلتهم فلم يدركوهم ، ودخلوا على معاوية فأخبروه ، فقال لهم : إنما هي حرارة يجدها في نفسه وكأنها طفئت ، وعاد مالك إلى بيته ولم يأت معاوية ، فلما كان الليل أرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم وقال : ما منعني أن أشفعك إلا خوفا أن يعيدوا لنا حربا ، فيكون [ ص: 82 ] في ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر . فأخذها وطابت نفسه .

ولما بلغ خبر حجر عائشة أرسلت عبد الرحمن بن الحارث إلى معاوية فيه وفي أصحابه ، فقدم عليه وقد قتلهم ، فقال له عبد الرحمن : أين غاب عنك حلم أبي سفيان ؟ قال : حين غاب عني مثلك من حلماء قومي وحملني ابن سمية فاحتملت .

وقالت عائشة : لولا أنا لم نغير شيئا إلا صارت بنا الأمور إلى ما هو أشد منه لغيرنا قتل حجر ، أما والله إن كان ما علمت لمسلما حجاجا معتمرا .

وقال الحسن البصري : أربع خصال كن في معاوية ، لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلافه بعده ابنه سكيرا خميرا ، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وادعاؤه زيادا ، وقد قال رسول الله ، - صلى الله عليه وسلم - : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وقتله حجرا وأصحاب حجر ، فيا ويلا له من حجر ! ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر !

قيل : وكان الناس يقولون : أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن علي ، وقتل حجر ، ودعوة زياد ، وقالت هند بنت زيد الأنصارية ترثي حجرا ، وكانت تتشيع :


ترفع أيها القمر المنير     تبصر هل ترى حجرا يسير
يسير إلى معاوية بن حرب     ليقتله كما زعم الأمير
تجبرت الجبابر بعد حجر     وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد له محولا     كأن لم يحيها مزن مطير
ألا يا حجر حجر بني عدي     تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردى عديا     وشيخا في دمشق له زئير
فإن تهلك فكل زعيم قوم     من الدنيا إلى هلك يصير



[ ص: 83 ] وقد قيل في قتله غير ما تقدم : وهو أن زيادا خطب يوم جمعة فأطال الخطبة وأخر الصلاة ، فقال له حجر بن عدي : الصلاة . فمضى في خطبته .

فقال له : الصلاة :

فمضى في خطبته . فلما خشي حجر بن عدي فوت الصلاة ضرب بيده إلى كف من حصى وقام إلى الصلاة وقام الناس معه :

فلما رأى زياد ذلك نزل فصلى بالناس وكتب إلى معاوية وكثر عليه ، فكتب إليه معاوية ليشده في الحديد ويرسله إليه . فلما أراد أخذه قام قومه ليمنعوه ، فقال حجر : لا ولكن سمعا وطاعة :

فشد في الحديد وحمل إلى معاوية :

فلما دخل عليه قال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ! فقال معاوية : أأمير المؤمنين أنا ؟ والله لا أقيلك ولا أستقيلك ! أخرجوه فاضربوا عنقه ! فقال حجر للذين يلون أمره : دعوني حتى أصلي ركعتين :

فقالوا : صل ، فصلى ركعتين خفف فيهما ، ثم قال : لولا أن تظنوا بي غير الذي أردت لأطلتها ، وقال لمن حضره من قومه : لا تطلقوا عني حديدا ولا تغسلوا عني دما ، فإني لاق معاوية غدا على الجادة ، وضربت عنقه :

قال : فلقيت عائشة معاوية فقالت له : أين كان حلمك عن حجر ؟ فقال : لم يحضرني رشيد :

قال ابن سيرين : بلغنا أن معاوية لما حضرته الوفاة جعل يقول : يومي منك يا حجر طويل !

( عباد بضم العين ، وفتح الباء الموحدة وتخفيفها ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية