الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق السابع والمائة بين قاعدة العمال في القراض فإن الزكاة متى سقطت عن رب المال سقطت عن العامل وقاعدة الشركاء لا يلزم أنه متى سقطت عن أحد الشريكين سقطت عن الآخر ) بل قد تجب الزكاة على أحد الشريكين لاجتماع شرائط الزكاة في حقه دون الآخر لاختلال بعض الشروط في حقه .

وعمال القراض ليسوا كذلك على الخلاف فيهم بين العلماء وفي المذهب أيضا الخلاف والفرق بين القاعدتين ينبني على قاعدة وهي أنه متى كان الفرع مختصا بأصل واحد أجري [ ص: 197 ] عن ذلك الأصل من غير خلاف ومتى دار بين أصلين ، أو أصول يقع الخلاف فيه لتغليب بعض العلماء بعض تلك الأصول وتغليب البعض الآخر أصلا آخر فيقع الخلاف لذلك ولذلك اختلف في أم الولد إذا قتلت هل تجب فيها قيمة أم لا لترددها بين الأرقاء من جهة أنها توطأ بملك اليمين وبين الأحرار لتحريم بيعها ، وإحرازها لنفسها ومالها ، وتردد إثبات هلال رمضان بين الشهادة والرواية وكذلك الترجمان عند الحاكم والنائب والمقوم وغيرهم جرى الخلاف فيهم هل يشترط فيهم العدد تغليبا للشهادة ، أو لا يشترط تغليبا للرواية وكتردد العقود الفاسدة من الأبواب المستثنيات كالقراض والمساقاة هل ترد إلى أصلها فيجب قراض المثل ، أو إلى أصل أصلها فيجب أجرة المثل ، وذلك المساقاة لتردد هذه الفاسدة بين أصلها وأصل أصلها فإن أصل أصلها أصلها أيضا فلذلك كل ما توسط غرره أو الجهالة فيه من العقود تختلف العلماء فيه لتوسطه بين الغرر الأعلى فيبطل ، أو الغرر الأدنى المجمع على جوازه واغتفاره في العقود فيجوز والمتوسط أخذ شبها من الطرفين فمن قربه من هذا منع .

أو من الآخر أجاز وكذلك المشاق المتوسطة في العبادات دائر بين أدنى المشاق فلا توجب ترخصا وبين أعلاها فتوجب الترخص فتختلف العلماء في تأثيرها في الإسقاط لأجل ذلك وكذلك التهم في رد الشهادات إذا توسطت بين قاعدة ما أجمع عليه أنه موجب الرد كشهادة الإنسان لنفسه وبين قاعدة ما أجمع عليه أنه غير قادح في الشهادة كشهادة الرجل الآخر من قبيلته فيختلف العلماء ؛ أي التغليبين يعتبر وذلك كشهادة الأخ لأخيه ونحوه فإنه اختلف فيه هل تقبل ، أو ترد وكذلك الثلث يتردد في مسائل بين القلة والكثرة فيختلف العلماء في إلحاقه بأيهما شاء ، ونظائره كثيرة في الشريعة من المترددات بين أصلين فأكثر والعمال في القراض [ ص: 198 ] دائرون بين أن يكونوا شركاء بأعمالهم ، ويكون أرباب الأموال شركاء بأموالهم ، ويعضد ذلك تساوي الفريقين في زيادة الربح ونقصانه وهذا هو حال الشركاء ويعضده أيضا أن الذي يستحقه العامل ليس في ذمة رب المال وهذا هو شأن الشريك وبين أن يكونوا أجراء ، ويعضده اختصاص رب المال بضياع المال وغرامته فلا يكون على العامل منه شيء ولأن ما يأخذه معاوضة على عمله وهذا هو شأن الأجراء ومقتضى الشركة أن تملك بالظهور ومقتضى الإجارة أن لا تملك إلا بالقسمة والقبض فاجتماع هذه الشوائب سبب الخلاف فمن غلب الشركة كمل الشروط في حق كل واحد منهما ومن غلب الإجارة جعل المال وربحه لربه فلا يعتبر العامل أصلا وابن القاسم رحمه الله صعب عليه إطراح أحدهما بالكلية فرأى أن العمل بكل واحد منهما من وجه أولى .

وهي القاعدة المقررة في أصول الفقه فاعتبر وجها من الإجارة ووجها من الشركة فوقع التفريع هكذا متى كان العامل ورب المال كل واحد فيهما مخاطب بوجوب الزكاة منفردا فيما ينوبه وجبت عليهما ، وإن لم يكن فيهما مخاطب بوجوب الزكاة لكونهما عبدين أو ذميين ، أو لقصور المال وربحه عن النصاب وليس لربه غيره سقطت عنهما ، وإن كان أحدهما مخاطبا بوجوب الزكاة وحده .

وقال ابن القاسم : متى سقطت عن أحدهما إما العامل ، أو رب المال سقطت عن العامل في الربح أما إن سقطت عنه فتغليبا لحال نفسه عليه وتغليبا لحال الشركة وشائبتها .

وأما إن سقطت عن رب المال فتسقط أيضا عن العامل في حصته من الربح تغليبا لشائبة الإجارة وهو كونه استأجر أجيرا فقبض أجرته استأنف بها الحول فكذلك هذا العامل ورأى أشهب رحمه الله اعتبار رب المال فتجب في حصة الربح تبعا لوجوبها في الأصل ؛ لأنه يزكي ملكه ، وأن ربح المال مضموم إلى أصله على أصل مالك رحمه الله فيمن اتجر بدينار فصار في آخر الحول نصابا فإنه يزكي ويقدر الربح كامنا من أول الحول إلى آخره [ ص: 199 ] وكذلك أولاد المواشي إذا كمل بها نصابها فمتى خوطب رب المال وجبت على العامل ، وإن لم يكن أصلا تغليبا لهذا الأصل وهو ضم الربح إلى الأصل في الزكاة ووقع في الموازية : يعتبر حال العامل في نفسه فإن كان أهلا بالنصاب وغيره زكى ، وإلا فلا تغليبا لشائبة الشركة فالفرق يتخرج بين هاتين القاعدتين .

[ ص: 197 - 199 ]

التالي السابق


[ ص: 197 - 199 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السابع والمائة بين قاعدة العمال في القراض فإن الزكاة متى سقطت عن رب المال سقطت عن العامل وقاعدة الشركاء لا يلزم أنه متى سقطت عن أحد الشريكين سقطت عن الآخر )

ينبني الفرق بينهما على قاعدة أنه متى كان الفرع مختصا بأصل واحد أجري على ذلك الأصل من غير خلاف ومتى دار بين أصلين ، أو أصول وقع الخلاف بين العلماء في تغليب أحد الأصلين ، أو الأصول على الآخر فقاعدة العمال في القراض لما كانت دائرة بين أن يكونوا شركاء لرب المال بأعمالهم ، وأرباب الأموال شركاء بأموالهم ويعضده أمور منها تساوي الفريقين في زيادة الربح ونقصانه كما هو حال الشركاء ومنها أن الذي يستحقه العامل ليس في ذمة رب المال كما هو شأن الشريك وبين أن يكونوا أجراء ويعضده أمور منها اختصاص رب المال بضياع المال وغرامته فلا يكون على العامل منه شيء ومنها أن ما يأخذه معاوضة على عمله كما هو شأن الأجراء وكان من مقتضى الشركة أن تملك بالظهور ومن مقتضى الإجارة أن لا تملك إلا بالقسمة والقبض اختلف العلماء في المذهب ، وخارجه في تغليب الشركة فتكمل الشروط للزكاة في حق كل واحد منهما ، أو تغليب الإجارة فيجعل المال وربحه لربه .

فلا يعتبر العامل أصلا وابن القاسم رحمه الله تعالى صعب عليه إطراح أحدهما بالكلية فرأى أن العمل بكل واحد منهما من وجه أولى وهي القاعدة المقررة في أصول الفقه فاعتبر وجها من الإجارة ووجها من الشركة فوقع التفريع هكذا متى كان العامل ورب المال كل واحد فيهما مخاطب بوجوب الزكاة منفردا فيما ينوبه وجبت عليهما ومتى لم يكن كل واحد فيهما مخاطبا بوجوب الزكاة لكونهما عبدين ، أو ذميين أو لقصور المال وربحه عن النصاب وليس لربه غيره سقطت عنهما ومتى كان أحدهما مخاطبا بوجوب الزكاة وحده دون الآخر فقال ابن القاسم متى سقطت عن أحدهما إما العامل ، أو رب المال سقطت عن العامل في الربح أما إن سقطت عنه فتغليبا لحال نفسه وتغليبا لحال الشركة وشائبتها .

وأما إن سقطت عن رب المال فتسقط أيضا عن العامل في حصته من الربح تغليبا لشائبة الإجارة وهو كونه إذا استأجر أجيرا فقبض أجرته استأنف بها الحول فكذلك هذا العامل ، ورأى أشهب رحمه الله اعتبار رب المال فتجب في حصة الربح تبعا لوجوبها في الأصل لأنه يزكي ملكه ، وأن ربح المال مضموم إلى أصله على أصل مالك رحمه الله فيمن اتجر بدينار فصار في آخر الحول نصابا فإنه يزكي ، ويقدر الربح كامنا من أول الحول إلى آخره وفيما إذا كمل بأولاد المواشي نصابها فمتى خوطب رب المال وجبت على [ ص: 197 ] العامل ، وإن لم يكن أصلا تغليبا لهذا الأصل وهو ضم الربح إلى الأصل في الزكاة ووقع في الموازية يعتبر حال العامل في نفسه فإن كان أهلا بالنصاب وغيره زكى ، وإلا فلا تغليبا لشائبة الشركة وقول ابن القاسم هو المشهور ومذهب المدونة ومحصله أربعة أمور :

الأول : أن العامل يزكي حصته من الربح ، وإن قصرت عن النصاب بناء على أنه أجير خلافا لما في الموازية من أنه لا زكاة فيما قل وقصر عن النصاب وخلافا لقول أشهب إن زكاته على رب المال لا على العامل قال الحطاب : العامل يزكي ربحه ولو كان دون النصاب هذا مذهب المدونة والقول بأن زكاته على رب المال ليس بالمشهور ا هـ .

الأمر الثاني : أن شروط زكاة العامل حصته من الربح سنة ففي المواق ابن يونس : إنما تجب الزكاة على العامل عند ابن القاسم باجتماع خمسة أوجه وهي أن يكونا حرين مسلمين بلا دين عليهما وأن يكون رأس المال وحصة ربه من الربح ما فيه الزكاة وأن يعمل العامل بالمال حولا فمتى سقط شرط من ذلك لم يزك العامل ا هـ .

قال عبق : وبقي لزكاة العامل ربحه شرط سادس وهو أن ينض ويقبضه قال : واشتراط الثلاثة الأول في رب المال بناء على أن العامل أجير ، وفي العامل بناء على أنه شريك كاشتراط الخامس .

وأما اشتراط الرابع فبناء على أنه أجير وذلك لأنه لو نقص مناب رب المال عن النصاب لم يزك العامل ، وإن نابه نصاب فأكثر بل يستقبل حولا كالفائدة وأجرة الأجير فإذا كان رأس المال عشرة دنانير ودفعه للعامل على أن يكون لربه جزء من مائة جزء من الربح وربح المال مائة فإن ربه لا يزكي وكذا العامل ابن القاسم ولا يضم العامل ما ربح إلى مال له آخر فيزكي بخلاف رب المال ا هـ أي فيضم فإذا كانت حصة ربه بربحه دون نصاب وعنده ما لو ضمه له لصار نصابا وقد حال حوله فإنه يزكي ويزكي العامل ربحه ، وإن قل في هذه أيضا ففي مفهوم الشرط الرابع تفصيل ا هـ .

الأمر الثالث قال عبق : ومفاد نص المواق أن العامل يزكي ربحه مطلقا لعام واحد عند المفاصلة ولو مديرا أقام بيده أعواما وهو مدير ، وفي ابن عرفة أنه يلزم العامل زكاة حصته كل عام إذا كان هو ورب المال مديرين لكن إنما يزكيها لكل عام عند المفاصلة ا هـ قال البناني وما لابن عرفة هو المعتمد لأنه الذي في المدونة وابن رشد ا هـ وسلمه الرهوني وكنون .

الأمر الرابع : قال المواق ابن يونس : وقول ابن القاسم هذا استحسان رآه - أي العامل - مرة أن له حكم الشريك في وجوه يضمن حصته من الربح ، وإن اشترى من يعتق عليه عتق ورآه مرة أنه ليس كالشريك إذ ليس في أصل المال شرك ، وإن ربح المال منه وحوله حول أصله فلما ترجح ذلك عنده توسط أمره ا هـ .

فمن هنا بحث الناصر في قوله في التوضيح والمشهور مبني على أنه أجير ومقابله على أنه شريك ا هـ بأن كونه أجيرا يقتضي استقباله لا زكاته ، وكونه شريكا يقتضي سقوط الزكاة أصلا عنه وعن رب المال في حصة العامل إذ لا زكاة على شريك حتى تبلغ حصته نصابا ا هـ .

نعم قال البناني : الذي عناه في التوضيح والله أعلم أن أصل الزكاة في ربح العامل مع قطع النظر عن قلته مبني على أنه شريك ، ووجوبها في القابل - أي بعد استقبال عام - مع قطع النظر عن كونها على العامل مبني على [ ص: 198 ] أنه أجير فلا بحث ويدل على ذلك أن الزكاة كما علم مبنية على أنه شريك ، وبعض شروطها مبني على أنه أجير وما ذاك إلا لقطع النظر عن كونها على العامل تأمل ا هـ .

وقاعدة الشريك لما اختصت بأصل واحد وهو كونه شريكا ليس إلا ، اتفق العلماء على إجرائه على ذلك الأصل وأن الزكاة تجب على أحد الشريكين لاجتماع شرائط الزكاة في حقه دون الآخر لاختلال بعض الشروط في حقه ، هذا ولقاعدة العامل في التردد بين أصلين ، أو أكثر نظائر كثيرة في الشريعة منها أم الولد إذا قتلت اختلف في أنها هل تجب فيها قيمة أم لا لترددها بين الأرقاء من جهة أنها توطأ بملك اليمين وبين الأحرار لتحريم بيعها ، وإحرازها لنفسها ومالها ، ومنها المخبر عن رؤية هلال نحو رمضان ، والترجمان عند الحاكم والنائب والمقوم وغيرهم لما ترددوا بين الشهادة والرواية اختلف فيهم هل يشترط فيهم العدد تغليبا للشهادة ، أو لا يشترط تغليبا للرواية ومنها العقود الفاسدة من الأبواب المستثنيات كالقراض والمساقاة لما ترددت بين أصلها وأصل أصلها فإن أصل أصلها أصلها أيضا اختلف العلماء في أنها هل ترد إلى أصلها فيجب قراض المثل ، أو إلى أصل أصلها فيجب أجرة المثل ؟

ومنها كل ما توسط غرره أو الجهالة فيه من العقود لما تردد بين الغرر الأعلى المجمع على بطلانه والأدنى المجمع على جوازه واغتفاره في العقود لأنه بتوسطه أخذ شبها من الطرفين اختلف فيه فمن قربه من الأعلى منع ومن قربه من الأدنى أجاز ومنها المشاق المتوسطة في العبادات لما دارت بين أدنى المشاق فلا توجب ترخصا وبين أعلاها فتوجب الترخص اختلف العلماء في تأثيرها في الإسقاط لأجل ذلك ومنها نحو شهادة الأخ لأخيه من التهم المتوسطة في رد الشهادة بين قاعدة ما أجمع على أنه موجب للرد كشهادة الإنسان لنفسه وبين قاعدة ما أجمع على أنه غير قادح في الشهادة كشهادة الرجل لآخر من قبيلته لما أخذ شبها منهما اختلف العلماء أي التغليبين يعتبر فتقبل أو ترد ومنها الثلث لما تردد بين القلة والكثرة في مسائل اختلف العلماء في إلحاقه بأيهما شاء وبالجملة فالفرق بين هاتين القاعدتين يتخرج على هذه القاعدة والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية