الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا، ومن باب الإشارة يريد الله ليبين لكم بأن يكاشفكم بأسراره المودعة فيكم أثناء السير إليه، ويهديكم سنن الذين من قبلكم أي: مقاماتهم وحالاتهم ورياضاتهم، وأشار إلى الواصلين إليه قبل المخاطبين، ويجوز أن تكون الإشارة بالسنن إلى التفويض والتسليم والرضا بالمقدور، فإن ذلك شنشنة الصديقين ونشنشة الواصلين ويتوب عليكم من ذنب وجودكم حين يفنيكم فيه، ويحتمل أن يكون التبيين إشارة إلى الإيصال إلى توحيد الأفعال، والهداية إلى توحيد الصفات، والتوبة إلى توحيد الذات والله عليم بمراتب استعدادكم حكيم ومن حكمته أن يفيض عليكم حسب قابلياتكم والله والله يريد أن يتوب عليكم تكرار لما تقدم إيذانا بمزيد الاعتناء به؛ لأنه غاية المراتب ويريد الذين يتبعون الشهوات أي اللذائذ الفانية الحاجبة عن الوصول إلى الحضرة أن تميلوا إلى السوى ميلا عظيما لتكونوا مثلهم يريد الله أن يخفف عنكم أثقال العبودية في مقام المشاهدة، أو أثقال النفس بفتح باب الاستلذاذ بالعبادة بعد الصبر عليها وخلق الإنسان ضعيفا عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة، فلا يستطيع حمل ذلك إلا بتأييد إلهي، أو ضعيفا لا يطيق الحجاب عن محبوبه لحظة، ولا يصبر عن مطلوبه ساعة؛ لكمال شوقه ومزيد غرامه.


                                                                                                                                                                                                                                      والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الشبلي قدس سره يقول: إلهي لا معك قرار، ولا منك فرار، المستغاث بك إليك يا أيها الذين آمنوا الإيمان الحقيقي لا تأكلوا أي تذهبوا أموالكم وهو ما حصل لكم من عالم الغيب بالكسب الاستعدادي بينكم بالباطل بأن تنفقوا على غير وجهه وتودعوه غير أهله إلا أن تكون تجارة أي: إلا أن يكون التصرف تصرفا صادرا عن تراض منكم واستحسان، ألقي من عالم الإلهام إليكم؛ فإن ذلك مباح لكم ولا تقتلوا أنفسكم بالغفلة عنها، فإن من غفل عنها غفل عن ربه، ومن غفل عن ربه فقد هلك، أو لا تقتلوا أنفسكم، أي: أرواحكم القدسية بمباشرتكم ما لا يليق، فإن مباشرة ما لا يليق يمنع الروح من طيرانها في عالم المشاهدات، ويحجب عنها أنوار المكاشفات إن الله كان في أزل الآزال بكم رحيما فلذا أرشدكم إلى ما أرشدكم إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وهي عند العارفين رؤية [ ص: 36 ] العبودية في مشهد الربوبية، وطلب الأعواض في الخدمة، وميل النفس إلى السوى من العرش إلى الثرى، والسكون في مقام الكرامات، ودعوى المقامات السامية قبل الوصول إليها.

                                                                                                                                                                                                                                      وأكبر الكبائر إثبات وجود غير وجود الله تعالى نكفر عنكم سيئاتكم أي: نمح عنكم تلوناتكم بظهور نور التوحيد وندخلكم مدخلا كريما وهي حضرة عين الجمع ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض من الكمالات التابعة للاستعدادات؛ فإن حصول كمال شخص لآخر محال إذا لم يكن مستعدا له، ولهذا عبر بالتمني للرجال وهم الأفراد الواصلون نصيب مما اكتسبوا بنور استعدادهم وللنساء وهم الناقصون القاصرون نصيب مما اكتسبن حسب استعدادهم واسألوا الله من فضله بأن يفيض عليكم ما تقتضيه قابلياتكم إن الله كان بكل شيء عليما ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاستعداد فيعطيكم ما يليق بكم ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون أي: ولكل قوم جعلناهم (موالي) نصيب من الاستعداد، يرثون به مما تركه والداهم، وهما الروح والقلب، والأقربون وهم القوى الروحانية والذين عقدت أيمانكم وهم المريدون فآتوهم نصيبهم من الفيض على قدر نصيبهم من الاستعداد إن الله كان على كل شيء شهيدا إذ كل شيء مظهر لاسم من أسمائه.

                                                                                                                                                                                                                                      الرجال قوامون على النساء أي الكاملون شأنهم القيام بتدبير الناقصين، والإنفاق عليهم من فيوضاتهم بما فضل الله بعضهم على بعض بالاستعداد وبما أنفقوا في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه من أموالهم أي قواهم أو معارفهم فالصالحات للسلوك من النساء بالمعنى السابق قانتات مطيعات لله تعالى بالعبادات القالبية حافظات للغيب أي القلب عن دنس الأخلاق الذميمة، ولعله إشارة إلى العبادات القلبية بما حفظ الله لهم من الاستعداد واللاتي تخافون نشوزهن ترفعهن عن الانقياد إلى ما ينفعهن فعظوهن بذكر أحوال الصالحين ومقاماتهم؛ فإن النفس تميل إلى ما يمدح لها غالبا واهجروهن في المضاجع أي امنعوا دخول أنوار فيوضاتكم إلى حجرات قلوبهن ليستوحشن، فربما يرجعن عن ذلك الترفع واضربوهن بعصى القهر إن لم ينجع ما تقدم فيهن فإن أطعنكم بعد ذلك ورجعن عن الترفع والأنانية فلا تبغوا عليهن سبيلا بتكليفهن فوق طاقتهن، وخلاف مقتضى استعدادهن إن الله كان عليا كبيرا ومع هذا لم يكلف أحدا فوق طاقته، وخلاف مقتضى استعداده وإن خفتم أيها المرشدون الكمل شقاق بينهما أي بين الشيخ والمريد فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها فابعثوا متوسطين من المشايخ والسالكين إن يريدا إصلاحا يوفق الله تعالى بينهما وهمة الرجال تقلع الجبال.

                                                                                                                                                                                                                                      ويمكن أن يكون الرجال إشارة إلى العقول الكاملة، والنساء إشارة إلى النفوس الناقصة، ولا شك أن العقل هو القائم بتدبير النفس وإرشادها إلى ما يصلحها، ويراد من الحكمين حينئذ ما يتوسط بين العقل والنفس من القوى الروحانية واعبدوا الله بالتوجه إليه والفناء فيه ولا تشركوا به شيئا مما تحسبونه شيئا وليس بشيء، إذ لا وجود حقيقة لغيره سبحانه وبالوالدين الروح والنفس اللذين تولد بينهما القلب أحسنوا إحسانا فاستفيضوا من الأول وتوجهوا بالتسليم إليه، وزكوا الثاني، وطهروا برديه وبذي القربى وهم من يناسبكم بالاستعداد الأصلي والمشاكلة الروحانية واليتامى المستعدين المنقطعين عن نور الأب وهو الروح بالاحتجاب والمساكين العاملين الذين لا حظ لهم من المعارف، ولذا سكنوا عن السير، وهم الناسكون والجار ذي القربى القريب من مقامك في السلوك والجار الجنب البعيد عن مقامك والصاحب بالجنب [ ص: 37 ] الذي هو في عين مقامك وابن السبيل أي السالك المتغرب عن مأوى النفس الذي لم يصل إلى مقام بعد وما ملكت أيمانكم من المنتمين إليكم بالمحبة والإرادة، وقيل: (الوالدين) إشارة إلى المشايخ وإحسان المريد إليهم بالطاعة والانقياد إليهم، وامتثال أوامرهم، فإنهم أطباء القلوب، وهم أعرف بالداء والدواء، ولا يداوون إلا بما يرضي الله تعالى، وإن خفي على المريد وجهه.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا قال الجنيد قدس سره: أمرني ربي أمرا وأمرني السري أمرا فقدمت أمر السري على أمر ربي، وكل ما وجدت فهو من بركاته، وأول " الجار ذي القربى " بالروح الناطقة العارفة العاشقة الملكوتية التي خرجت من العدم بتجلي القدم، وانقدحت من نور الأزل، وهي أقرب كل شيء، وهي جار الله تعالى المصبوغة بنوره، والإحسان إليها أن تطلقها من فتنة الطبيعة، وتقدس مسكنها من حظوظ البشرية لتطير بجناح المعرفة والشوق إلى عالم المشاهدة والجار الجنب بالصورة الحاملة للروح، والإحسان إليها أن تفطم جوارحها من رضع ضرع الشهوات والصاحب بالجنب وهو القلب الذي يصحبك في سفر الغيب، والإحسان إليه أن تفرده من الحدثان، وتشوقه إلى جمال الرحمن، وقيل: هو النفس الأمارة، وفي الخبر: «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» والإحسان إليها أن تحبسها في سجن العبودية، وتحرقها بنيران المحبة، وأول " ابن السبيل " بالولي الكامل؛ فإنه لم يزل يتنقل من نور الأفعال إلى نور الصفات، ومن نور الصفات إلى نور الذات، والإحسان إليه كتم سره، وعدم الخروج عن دائرة أمره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العارفين: وإن شئت أولت (ذا القربى) بما يتصل بالشخص من المجردات (واليتامى) بالقوى الروحانية (والمساكين) بالقوى النفسانية من الحواس الظاهرة وغيرها (والجار ذي القربى) بالعقل (والجار الجنب) بالوهم (والصاحب بالجنب) بالشوق والإرادة (وابن السبيل) بالفكر والمماليك بالملكات المكتسبة، التي هي مصادر الأفعال الجميلة، وباب التأويل واسع جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله لا يحب من كان مختالا يسعى بالسلوك في نفسه فخورا بأحواله ومقاماته، محتجبا برؤيتها الذين يبخلون على أنفسهم وعلى المستحقين فلا يعملون بعلومهم ولا يعلمونها ويأمرون الناس بالبخل قالا أو حالا ويكتمون ما آتاهم الله من فضله فلا يشكرون نعمة الله، أو يكتمون ما أوتوا من المعارف في كتم الاستعداد وظلمة القوة حتى كأنها معدومة وأعتدنا للكافرين للحق، الساترين أنوار الوحدة بظلمة الكثرة عذابا مهينا يهينهم في ذل وجودهم وشين صفاتهم والذين ينفقون أموالهم أي يبرزون كمالاتهم رئاء الناس مرائين الناس بأنها لهم ولا يؤمنون بالله الإيمان الحقيقي؛ ليعلموا أن لا كمال إلا له ولا باليوم الآخر أي الفناء فيه سبحانه، ليبرزوا لله الواحد القهار ومن يكن الشيطان النفس وقواها له قرينا فساء قرينا لأنه يضله عن الحق كهؤلاء وماذا عليهم ما كان يضرهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر فصدقوا بالتوحيد والفناء فيه وأنفقوا مما رزقهم الله ولم يروا كمالا لأنفسهم وكان الله بهم عليما فيجازيهم بالبقاء بعد الفناء إن الله لا يظلم مثقال ذرة مقدار ما يظهر من الهباء وإن تك حسنة ولا تكون كذلك إلا إذا كانت له، فإن كانت له يضاعفها بالتأييد الحقاني ويؤت من لدنه أجرا عظيما وهو الشهود الذاتي أو العلم اللدني فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وهو ما يحضر كل أحد، ويظهر له بصورة معتقده فيكشف عن حاله وجئنا بك على هؤلاء وهم المحمديون شهيدا ومن لوازم الإتيان بالحقيقة المحمدية شهيدا للمحمديين معرفتهم لله تعالى عند التحول في جميع الصور، فليس شهيدهم في الحقيقة إلا الحق سبحانه يومئذ يود الذين كفروا بالاحتجاب وعصوا الرسول بعدم المتابعة لو تسوى بهم الأرض [ ص: 38 ] لتنطمس نفوسهم، أو تصير ساذجة لا نقش فيها من العقائد الفاسدة والرذائل الموبقة ولا يكتمون الله حديثا أي لا يقدرون على كتم حديث من تلك النقوش، وهيهات، أنى يخفون شيئا منها، وقد صارت الجبال كالعهن المنفوش!!


                                                                                                                                                                                                                                      سهم أصاب وراميه بذي سلم     من بالعراق لقد أبعدت مرماك

                                                                                                                                                                                                                                      والله تعالى يتولى الحق، وهو يهدي السبيل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية