الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          باب القصر والاختصاص - فصل في " ما " و " إلا "

                          بيان وأمثلة فيما فيه " ما " و " إلا "

                          398- وإذ قد عرفت هذه الجملة، فإنا نذكر جملة من القول في " ما " و " إلا " وما يكون من حكمهما .

                          اعلم أنك إذا قلت : " ما جاءني إلا زيد " احتمل أمرين:

                          أحدهما : أن تريد اختصاص " زيد " بالمجيء وأن تنفيه عمن عداه . وأن يكون كلاما تقوله، لا لأن بالمخاطب حاجة إلى أن تعلم أن " زيدا " قد جاءك ولكن لأن به حاجة إلى أن يعلم أنه لم يجئ إليك غيره .

                          والثاني : أن تريد الذي ذكرناه في " إنما " ويكون كلاما تقوله ليعلم أن الجائي " زيد " لا غيره . فمن ذلك قولك للرجل يدعي أنك قلت قولا ثم قلت خلافه : " ما قلت اليوم إلا ما قلته أمس بعينه " ، ويقول : " لم تر زيدا وإنما رأيت فلانا " . فتقول : " بل لم أر إلا زيدا " . وعلى ذلك قوله تعالى : « ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم » [ سورة المائدة : 117 ] لأنه ليس المعنى أني لم أزد على ما أمرتني به شيئا، ولكن المعنى أني لم أدع ما أمرتني به أن أقوله لهم، وقلت خلافه .

                          ومثال ما جاء في الشعر من ذلك قوله :


                          قد علمت سلمى وجاراتها ما قطر الفارس إلا أنا



                          [ ص: 338 ]

                          المعنى : أنا الذي قطر الفارس وليس المعنى على أنه يريد أن يزعم أنه انفرد بأن قطره، وأنه لم يشركه فيه غيره .

                          بيان في قوله : « إنما يخشى الله من عباده العلماء » وتقديم اسمه سبحانه

                          399- وها هنا كلام ينبغي أن تعلمه، إلا أني أكتب لك من قبله مسألة، لأن فيها عونا عليه . قوله تعالى : « إنما يخشى الله من عباده العلماء » [ سورة فاطر : 28 ] في تقديم اسم الله عز وجل معنى خلاف ما يكون لو أخر . وإنما يبين لك ذلك إذا اعتبرت الحكم في " ما " و " إلا " وحصلت الفرق بين أن تقول : " ما ضرب زيدا إلا عمرو " وبين قولك : " ما ضرب عمرو إلا زيدا " .

                          والفرق بينهما أنك إذا قلت : " ما ضرب زيدا إلا عمرو " فقدمت المنصوب، كان الغرض بيان الضارب من هو، والإخبار بأنه عمرو خاصة دون غيره وإذا قلت: " ما ضرب عمرو إلا زيدا " فقدمت المرفوع كان الغرض بيان المضروب من هو، والإخبار بأنه " زيد " خاصة دون غيره .

                          400- وإذ قد عرفت ذلك فاعتبر به الآية ، وإذا اعتبرتها به علمت أن تقديم اسم الله تعالى إنما كان لأجل أن الغرض أن يبين الخاشون من هم، ويخبر بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم . ولو أخر ذكر اسم الله وقدم [ ص: 339 ] العلماء فقيل : " إنما يخشى العلماء الله " لصار المعنى على ضد ما هو عليه الآن، ولصار الغرض بيان المخشي من هو، والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره . ولم يجب حينئذ أن تكون الخشية من الله تعالى مقصورة على العلماء، وأن يكونوا مخصوصين بها كما هو الغرض في الآية ، بل كان يكون المعنى أن غير العلماء يخشون الله تعالى أيضا، إلا أنهم مع خشيتهم الله تعالى يخشون معه غيره، والعلماء لا يخشون غير الله تعالى .

                          وهذا المعنى وإن كان قد جاء في التنزيل في غير هذه الآية كقوله تعالى : « ولا يخشون أحدا إلا الله » [ سورة الأحزاب : 39 ] فليس هو الغرض في الآية ولا اللفظ بمحتمل له البتة . ومن أجاز حملها عليه، كان قد أبطل فائدة التقديم وسوى بين قوله تعالى : « إنما يخشى الله من عباده العلماء » وبين أن يقال : " إنما يخشى العلماء الله " . وإذا سوى بينهما لزمه أن يسوي بين قولنا : " ما ضرب زيدا إلا عمرو " وبين : " ما ضرب عمرو إلا زيدا " . وذلك ما لا شبهة في امتناعه .

                          " ما " و " إلا " وتقديم المفعول في الجملة وتأخيره، وأن الاختصاص مع " إلا " يقع في الذي تؤخره

                          401- فهذه هي المسألة ، وإذ قد عرفتها فالأمر فيها بين: أن الكلام بـ " ما " و " إلا " قد يكون في معنى الكلام بـ " إنما " . ألا ترى إلى وضوح الصورة في قولك : " ما ضرب زيدا إلا عمرو " و " ما ضرب عمرو إلا زيدا " أنه في الأول لبيان من الضارب . وفي الثاني لبيان من المضروب، وإن كان تكلفا أن تحمله على نفي الشركة فتريد " بما ضرب زيدا إلا عمرو " أنه لم يضربه اثنان، و " بما ضرب عمرو إلا زيدا " أنه لم يضرب اثنين .

                          402- ثم اعلم أن السبب في أن لم يكن تقديم المفعول في هذا [ ص: 340 ] كتأخيره ولم يكن " ما ضرب زيدا إلا عمرو " و " ما ضرب عمرو إلا زيدا " سواء في المعنى- أن الاختصاص يقع في واحد من الفاعل والمفعول، ولا يقع فيهما جميعا . ثم إنه يقع في الذي يكون بعد " إلا " منهما دون الذي قبلها لاستحالة أن يحدث معنى الحرف في الكلمة من قبل أن يجيء الحرف . وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن يفترق الحال بين أن تقدم المفعول على " إلا " فتقول : " ما ضرب زيدا إلا عمرو " وبين أن تقدم الفاعل فتقول : " ما ضرب عمرو إلا زيدا " ، لأنا إن زعمنا أن الحال لا يفترق جعلنا المتقدم كالمتأخر في جواز حدوثه فيه . وذلك يقتضي المحال الذي هو أن يحدث معنى " إلا " في الاسم من قبل أن تجيء بها، فاعرفه .

                          403- وإذ قد عرفت أن الاختصاص مع " إلا " يقع في الذي تؤخره من الفاعل والمفعول، فكذلك يقع مع " إنما " في المؤخر منهما دون المقدم . فإذا قلت : " إنما ضرب زيدا عمرو " كان الاختصاص في الضارب . وإذا قلت : " إنما ضرب عمرو زيدا " كان الاختصاص في المضروب . وكما لا يجوز أن يستوي الحال بين التقديم والتأخير مع " إلا " كذلك لا يجوز مع " إنما " .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية