الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان صورته وخلقته صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


* (بيان صورته صلى الله عليه وسلم وخلقته ) *

الظاهرة ، وإنما قدم الكلام على خلقه صلى الله عليه وسلم ، إذ هو أولى بالتقديم من حيث إن الكلام فيه أظهر وأتم إذ هو الطبع ، والسجية ، وحقيقة الصورة الباطنة من النفس ، وأوصافها ومعانيها المختصة بها ، ثم عقبه بذكر ما يتعلق بخلقه ، الظاهر لكونه تابعا للباطن ، وعنوانا عليه ، واعلم أن من تمام الإيمان به صلى الله عليه وسلم ، اعتقاد أنه لم يجتمع في بدن آدمي من المحاسن الظاهرة ، ما اجتمع في بدنه صلى الله عليه وسلم وسر ذلك أن المحاسن الظاهرة آيات على المحاسن الباطنة ، والأخلاق الزكية ، ولا أكمل منه صلى الله عليه وسلم ، ولا مساو له في هذا المدلول ، فكذلك الدال .

ومن ثم نقل القرطبي عن بعضهم : أنه لم يظهر تمام حسنه صلى الله عليه وسلم وإلا لما طاقت أعين الصحابة النظر إليه ، ثم اعلم أن الكلام على خلقه صلى الله عليه وسلم يستدعي الكلام على ابتداء وجوده ، فاحتيج إلى ذكره ، وإن أغفله المصنف رحمه الله تعالى - وملخصه أنه صح في مسلم أنه قال : "إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " ، ومن جملة ما كتب في الذكر ، وهو أم الكتاب ، "أن محمدا خاتم النبيين " ، وصح أيضا "إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته " أي لطريح ملقى قبل نفخ الروح فيه ، وصح أيضا : "يا رسول الله ، متى كنت نبيا ؟ فقال : وآدم بين الروح والجسد " ، وروي "كتبت من الكتابة " روى الترمذي ، وحسنه " يا رسول الله ، متى وجبت لك النبوة ؟ فقال : وآدم بين الروح والجسد " ، ومعنى وجوب النبوة ، وكتابتها ثبوتها وظهورها في الخارج ، أي للملائكة وروحه صلى الله عليه وسلم في عالم الأرواح إعلاما بعظيم شرفه ، وتميزه عن بقية الأنبياء عليهم السلام - وخص الإظهار بحالة كونآدم بين الروح والجسد ؛ لأنه أوان دخول الأرواح إلى عالم الأجساد ، والتمايز حينئذ أتم وأظهر ، فاختص صلى الله عليه وسلم بزيادة إظهار شرفه ، حينئذ ليتميز على غيره تميزا أظهر وأتم .

وأجاب المصنف في بعض كتبه عن وصف نفسه بالنبوة قبل وجود ذاته ، وخبر " أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا " بأن المراد بالخلق هنا التقدير لا الإيجاد ، فإنه قبل أن تحمل به أمه لم يكن مخلوقا موجودا ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود ، فقوله : "كنت نبيا " أي في التقدير قبل تمام خلقة آدم إذ لم ينشأ إلا لينتزع من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم - وتحقيقه : أن للدار في ذهن المهندسين وجودا ذهنيا سببا للوجود الخارجي ، وسابقا عليه ، فالله تعالى يقدر ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا اهـ .

وذهب السبكي إلى ما هو أحسن وأبين ، وهو أنه جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجساد ، والإشارة فكنت نبيا إلى روحه الشريفة ، أو حقيقة من حقائقه ، ولا يعلمها إلا الله ، ومن حباه بالاطلاع عليها ، ثم إن الله تعالى يؤتي كل حقيقة منها ما شاء في أي وقت شاء فحقيقته صلى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم ، آتاها الله ذلك الوصف ، بأن خلقها متهيئة له ، وأفاضه عليه من ذلك الوقت ، فصار نبيا ، وكتب اسمه على العرش ؛ ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده ، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت ، وإن تأخر جسده الشريف المتصف بها ، فحينئذ فإيتاؤه النبوة والحكمة ، وسائر أوصاف حقيقته ، وكمالاته معجل لا تأخير فيه ، وإنما المتأخر تكونه وتنقله في الأصلاب والأرحام ، الطاهرة ، إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم ، ومن فسر بعلم الله أنه سيصير نبيا لم يصل لهذا المعنى ؛ لأن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء ، فالوصف بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يفهم منه أنه أمر ثابت له ، وإلا لم يختص بأنه نبي حينئذ إذ الأنبياء كلهم كذلك بالنسبة لعلمه تعالى ، وقال العماد ابن كثير في تفسير قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم - إن [ ص: 145 ] بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، ويأخذ العهد بذلك ، وأخذ السبكي من الآية أنه على تقدير مجيئه في زمانهم مرسل إليهم ، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من آدم إلى يوم القيامة ، وتكون الأنبياء والأمم كلهم من أمته ، فقوله : وبعثت إلى الناس كافة يتناول من قبل زمانه أيضا ، وبه يتبين معنى قوله : كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد ، وكذا حكمة كون الأنبياء تحت لوائه في الآخرة ، وصلاته بهم ليلة الإسراء فأول الأشياء على الإطلاق النور المحمدي ، ثم الماء ، ثم العرش ، ثم القلم ، ولما خلق الله آدم جعل ذلك النور في ظهره ، فكان يلمع في جبينه ، ولما توفي كان ولده شيث وصيه ، فوصى ولده بما وصاه به أبوه ؛ أن لا يوضع هذا النور إلا في المطهرات من النساء ، ولم يزل العلم بهذه الوصية إلى أن وصل ذلك النور إلى عبد الله مطهرا من سفاح الجاهلية ، كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في عدة أحاديث ، ثم زوج عبد المطلب ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب ، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا ، وموضعا ، فدخل بها ، وحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم - فظهر في حمله ومولده عجائب تدل لما يؤول إليه أمر ظهوره ، ورسالته ، وقد صح أن أمه صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاء لها قصور الشام ، وولد مختونا في قول عام الفيل ، وحكي الاتفاق عليه والمشهور أنه بعده بخمسين يوما ، وقيل : بأربعين ، وقيل : بعشر سنين ، وقيل غير ذلك .

ثم الجمهور على أنه ولد في شهر ربيع الأول فقيل : ثانيه ، وقيل : ثامنه ، وانتصر له كثيرون من المحدثين ، وقيل : عاشره ، وقيل : ثاني عشره وهو المشهور ، وقيل غير ذلك ، وذلك في يوم الاثنين كما صح في مسلم ، عقب الفجر كما في رواية ضعيفة ، ومدة حمله تسعة أشهر ، أو عشرة أو ثمانية ، أو سبعة ، أو ستة أقوال بمكة بمولده ، المشهور الآن وهو الأصح ، وقيل : بالشعب ، وقيل : بالروم ، ثم أرضعته حليمة السعدية ، والمشهور موت أبيه ، بعد حمله بشهرين ، وقيل : وهو في المهد ، وماتت أمه ، ودفنت بالأنواء ، وقيل : بالحجون بعد أربع سنين ، أو خمس أو ست ، أو سبع ، أو تسع ، أو اثنتي عشرة وشهرا ، أو وعشرة أيام ، أقوال ، ومات جده كافله عبد المطلب ، وله ثمان سنين أو تسع أو عشر ، أو ست ، أقوال ، ثم كفله عمه شقيق أبيه أبو طالب ، وتزوج خديجة ، وهي بنت أربعين ، وهدمت قريش الكعبة ، وعمره خمس وثلاثون سنة ، ثم لما بلغ أربعين سنة أو وأربعين يوما ، أو وشهرين ، بعثه الله رحمة للعالمين ، يوم الاثنين لخبر مسلم في رمضان ، وقيل : ربيع ، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة عشر سنين ، فهذا ما يتعلق بمولده صلى الله عليه وسلم على وجه الاختصار .




الخدمات العلمية