الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 281 ] جماع أبواب بعض فضائل المدينة الشريفة

                                                                                                                                                                                                                              الباب الأول في بدء شأنها

                                                                                                                                                                                                                              عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مكة بلد عظمه الله ، وعظم حرمته ، خلق مكة وحفها بالملائكة قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألف عام ، ووصلها بالمدينة ، ووصل المدينة ببيت المقدس ، ثم خلق الأرض كلها بعد ألف عام خلقا واحدا" .

                                                                                                                                                                                                                              وعن علي رضي الله عنه : قال : "كانت الأرض ماء فبعث الله ريحا فمسحت الأرض مسحا فظهرت على الأرض زبدة فقسمها أربع قطع ، خلق من قطعة مكة والثانية المدينة والثالثة بيت المقدس والرابعة الكوفة" .

                                                                                                                                                                                                                              رواهما الحافظ أبو بكر بن أحمد بن محمد الواسطي الخطيب في كتابه "فضائل بيت المقدس" بسند لا بأس به خلافا لقول السيد إنهما واهيان ، فإني لم أجد في سندهما من تكلم فيه سوى ابن لهيعة وهو صدوق اختلط بأخرة ، والترمذي يحسن له .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني عن ذي مخبر ، وهو بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الموحدة ، وقيل بدلها ميم ، وهو ابن أخي النجاشي رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل اطلع إلى أهل المدينة وهي بطحاء قبل أن تعمر ، ليس فيها مدرة ولا وبرة ، فقال :

                                                                                                                                                                                                                              "يا أهل يثرب إني مشترط عليكم ثلاثا ، وسائق إليكم من كل الثمرات : لا تعصي ولا تعلي ولا تكبري ، فإن فعلت شيئا من ذلك تركتك كالجزور لا يمنع من أكله"
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : أول من عمر بها الدور والآطام ، وزرع وغرس ، العماليق بنو عملاق بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وأخذوا ما بين البحرين وعمان والحجاز إلى الشام ومصر ، ومنهم الجبابرة والفراعنة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو المنذر الشرقي بن القطامي : سمعت حديث تأسيس المدينة من سليمان بن عبد الله بن حنظلة الغسيل ، وسمعت أيضا بعض ذلك من رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن عمار بن ياسر ، فجمعت حديثهما لكثرة اتفاقه وقلة اختلافه ، قالا : "بلغنا أنه لما حج موسى صلوات الله عليه حج معه أناس من بني إسرائيل ، فلما كان في انصرافهم أتوا على [ ص: 282 ] المدينة ، فرأوا موضعها صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيين ، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به ، فنزلوا في موضع سوق بني قينقاع ، ثم تألفت إليهم أناس من العرب فرجعوا إلى دينهم ، فكانوا أول من سكن موضع المدينة . ويذكر أن قوما من العمالقة سكنوه قبلهم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بختنصر عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا ، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم منعوتا في كتابهم ، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل ، ولما خرجوا من أرض الشام كانوا يعبرون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن يجدون نعتها نعت يثرب ، فينزل بها طائفة منهم يرجون أن يلقوا محمدا فيتبعونه حتى نزل طائفة من بني هارون ممن حمل التوراة إلى يثرب ، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويحثون أبناءهم على اتباعه ، فأدركه من أدركه من أبنائهم ، فكفروا به وهم يعرفونه؛ لحسدهم الأنصار حيث سبقوهم إليه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الزبير بن بكار عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي وغيره من أهل المدينة قالوا :

                                                                                                                                                                                                                              "كان بالمدينة في سالف الزمان قوم يقال لهم : صعل وفالج ، فغزاهم داود النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ منهم مائة ألف عذراء ، قالوا : وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا . ولم تزل اليهود ظاهرين على المدينة حتى كان سيل العرم . قال المفسرون : كانت أرض سبأ المعنية بقوله تعالى : بلدة طيبة ورب غفور [سبأ 15] أخصب بلاد الله ، لم تكن سبخة وقيل : لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب . ولا حية ، ويمر الغريب بواديهم وفي ثيابه القمل فيموت ، وتخرج المرأة وعلى رأسها مكتلها فتعمل بمغزلها وتسير بين ذلك الشجر فيمتلئ مما يتساقط من الثمر ، وكان طول بلدهم أكثر من شهرين للراكب المجد وكذلك عرضها ، وأهلها في غاية الكثرة مع اجتماع الكلمة والقوة . وكانوا كما قص الله تعالى من خبرهم بقوله : وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة [سبأ 18] أي يرى بعضها من بعض لتقاربها ، فكانوا آمنين في بلادهم ، تخرج المرأة لا تتزود شيئا تبيت في قرية وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام . فبطروا النعمة فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا [سبأ : 19] ، أي بمفاوز بينهم وبين الشام يركبون فيها الرواحل ، فعجل الله لهم الإجابة كما قال تعالى : فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق [سبأ 19] .

                                                                                                                                                                                                                              "وكانوا يقتتلون على ماء واديهم ، فأمرت بلقيس بواديهم فسد بالعرم ، وهو المسناة بلغة حمير ، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار ، وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض ، وبنت من [ ص: 283 ]

                                                                                                                                                                                                                              دونه بركة ضخمة ، وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهار يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء ، وإذا استغنوا سدوها ، فإذا جاء ماء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد ، فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة ، فكانوا يستقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث فلا ينفد الماء حتى يرجع الماء من السنة المقبلة ، فكان السيل يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يستقر في واديهم فيجتمع الماء من تلك السيول والجبال في ذلك الوادي . وكان السد فرسخا في فرسخ ، بناه لقمان الأكبر العادي ، وقيل سبأ بن يشجب ، ومات قبل إكماله فأكمله ملوك حمير .

                                                                                                                                                                                                                              "وكان أولاد حمير بن سبأ وأولاد كهلان بن سبأ سادة اليمن في ذلك الزمان ، وكان كبيرهم عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء ، وكانت زوجة عمرو يقال لها طريفة ، من حمير وكانت كاهنة ، فولدت له ثلاثة عشر ولدا : ثعلبة أبو الأوس والخزرج ، وحارثة والد خزاعة ، وجفنة والدغسان- وقيل فيهم غير ذلك- وولدت له وداعة وأبا حارثة والحارث وعوفا وكعبا ومالكا وعمرانا . هؤلاء أعقبوا كلهم ، والثلاثة الباقون لم يعقبوا . وكان لعمرو مزيقياء من القصور والأموال ما لم يكن لأحد ، فرأى أخوه عمران - وكان كاهنا - أن قومه سيمزقون وتخرب بلادهم ، فذكره لعمرو . ثم أن طريفة الكاهنة سجعت له بما يدل على ذلك فقال : وما علامته؟ قالت :

                                                                                                                                                                                                                              إذا رأيت جرذا يكثر في السد الحفر ، ويقلب منه بيديه الصخر [فاعلم أن قد وقع الأمر] .

                                                                                                                                                                                                                              "فلما غضب الله تعالى عليهم وأذن في هلاكهم ، دخل عمرو بن عامر فرأى جرذا تنقل أولادها من بطن الوادي إلى أعلى الجبل فقال : ما نقلت هذه أولادها من ههنا إلا وقد حضر أهل هذه البلاد عذاب ، فخرقت ذلك العرم فنقبت نقبا ، فسال الماء من ذلك النقب إلى جنبه ، فأمر بذلك النقب فسد ، فأصبح وقد انفجر بأعظم مما كان ، فأمر به أيضا فسد ، ثم انفجر بأعظم مما كان ، فلم يترك فرجة بين حجرين إلا أمر بربط هرة عندها ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وكان الجرذ يقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلبها خمسون رجلا . فلما رأى ذلك دعا ابن أخيه فقال : إذا جلست العشية في نادي قومي فائتني فقل : علام تجلس على مالي؟ فإني سأقول لك : ليس لك عندي مال ولا ترك أبوك شيئا وإنك كاذب . فإن كذبتك فكذبني واردد علي مثل ما قلت لك ، فإذا فعلت ذلك فإني سأشتمك إذا أنت شتمتني ، وإن أنا لطمتك فالطمني . قال : ما كنت لأستقبلك بذلك يا عم . قال : بلى فافعل فإني أريد بذلك صلاحك وصلاح أهل بيتك . فقال الفتى : نعم ، حيث عرف رأي عمرو . فجاء ، فقال ما أمره به حتى لطمه ، فتناول الفتى عمه فلطمه . فقال الشيخ : "يا معشر بني فلان أألطم فيكم؟ لا سكنت في بلد لطمني فيه فلان أبدا ، من يبتاع مني؟" فلما عرف القوم منه الجد أعطوه ، فنظر إلى أفضلهم عطية فأوجب له البيع . [ ص: 284 ]

                                                                                                                                                                                                                              فدعا بالمال ، فنقده ، . وتحمل هو وبنوه من ليلته ، وفي رواية : إن الثمن لما صار في يده قال :

                                                                                                                                                                                                                              أي قوم ، إن العذاب قد أظلكم ، وزوال أمركم قد دنا ، فمن أراد منكم منزلا جديدا وجملا شديدا وسفرا بعيدا فليلحق بعمان ، ومن أراد منكم الخمر والخمير والديباج والحرير ، والأمر والتأمير فليلحق ببصرى وسدير ، ومن أراد منكم الراسخات في الوحل المطعمات في المحل ، المقيمات في الضحل فليلحق بيثرب ذات النخل ، فخرج أهل عمان إلى عمان ، وخرجت غسان إلى بصرى ، وخرجت الأوس والخزرج وبنو كعب بن عمرو إلى يثرب ، فلما كانوا ببطن مر قال بنو كعب : هذا مكان صالح لا نبغي به بدلا ، فلذلك سموا خزاعة؛ لأنهم انخزعوا عن أصحابهم ، وأقبلت الأوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب" .

                                                                                                                                                                                                                              "ولما أراد الله ما أراد من تفريق من بقي وخراب بلادهم ، أقبلت فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة ، فدخلت الفأرة في الفرجة التي كانت عندها ، فتغلغلت بالسد ، فحفرت فيه حتى وهنته للسيل وهم لا يدرون ، فلما جاء السيل وجد خلاء فدخل فيه حتى قلع السد وفاض من الماء على الأموال فاحتملها ، فلم يبق منها إلا ما ذكر الله تعالى" .

                                                                                                                                                                                                                              "ولما قدمت الأوس والخزرج المدينة تفرقوا في عاليتها وسافلتها ، ومنهم من نزل مع بني إسرائيل في قراهم ، ومنهم من نزل وحده لا مع بني إسرائيل ولا مع العرب الذين تألفوا إلى بني إسرائيل ، وكانت الثروة في بني إسرائيل ، ولهم قرى عمروا بها الآطام . فمكثت الأوس والخزرج ما شاء الله ، ثم سألوا اليهود في أن يعقدوا بينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض ، ويمتنعون به ممن سواهم ، فتحالفوا وتعاقدوا واشتركوا وتعاملوا ، فلم يزالوا على ذلك زمانا طويلا ، وأمرت الأوس والخزرج ، وصار لهم مال وعدد ، فخافت قريظة والنضير أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم ، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم ، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن يجليهم يهود ، حتى نجم منهم مالك بن العجلان ، أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج ، وسوده الحيان : الأوس والخزرج" .

                                                                                                                                                                                                                              "وكان ملك اليهود الفطيون شرط ألا تهدى عروس إلى زوجها حتى تدخل عليه ، فلما سكن الأوس والخزرج المدينة ، أراد أن يسير فيهم بتلك السيرة . فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلا من بني سالم ، فأرسل الفطيون رسولا في ذلك ، وكان مالك غائبا ، فخرجت أخته في طلبه ، فمرت به في قوم ، فنادته ، فقال : لقد جئت بسبة ، تناديني ولا تستحي؟ فقالت :

                                                                                                                                                                                                                              إن الذي يراد بي أكبر ، فأخبرته . فقال لها : أكفيك ذلك . فقالت : وكيف؟ فقال : أتزيى بزي النساء وأدخل معك عليه بالسيف ، فأقتله . ففعل . ثم خرج حتى قدم الشام على أبي جبيلة . [ ص: 285 ]

                                                                                                                                                                                                                              وكان نزلها حين نزلوا هم بالمدينة ، فجيش جيشا عظيما وأقبل كأنه يريد اليمن ، واختفى معهم مالك بن العجلان ، فجاء فنزل بذي حرض ، وأرسل إلى أهل المدينة من الأوس والخزرج فأتوا إليه ، فوصلهم ثم أرسل إلى بني إسرائيل وقال : من أراد الحباء من الملك فليخرج إليه ، مخافة أن يتحصنوا في الحصون فلا يقدر عليهم ، فخرج إليه أشرافهم ، فأمر لهم بطعام حتى اجتمعوا فقتلهم ، فصار الأوس والخزرج أعز أهل المدينة" .

                                                                                                                                                                                                                              تنبيه : في بيان غريب ما سبق

                                                                                                                                                                                                                              "حفها" : أحدق بها .

                                                                                                                                                                                                                              "الزبدة" : بفتحتين : الرغوة .

                                                                                                                                                                                                                              "البطحاء" : الأرض المتسعة .

                                                                                                                                                                                                                              "مدرة" : جمعها مدر ، مثل قصبة وقصب ، قال الأزهري : المدر قطع الطين .

                                                                                                                                                                                                                              "المكتل" : بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثناة الفوقية : الزنبيل .

                                                                                                                                                                                                                              "صعل" : بصاد فعين مهملتين فلام .

                                                                                                                                                                                                                              "فالج" : بالجيم .

                                                                                                                                                                                                                              "المسناة" : حائط يبنى في وجه الماء ويسمى السد .

                                                                                                                                                                                                                              "العرم" : جمع عرمة .

                                                                                                                                                                                                                              "السكر" : بفتح السين المهملة وسكون الكاف : أي السد الذي يحبس الماء ، قال ابن الأعرابي : السيل الذي لا يطاق ، وقيل العرم : الوادي ، وأصله من العرامة : وهي الشدة والقوة .

                                                                                                                                                                                                                              "الضحل" : بالضاد المعجمة والحاء المهملة الساكنة : القليل من الماء ، وقيل : الماء القريب :

                                                                                                                                                                                                                              "الفطيون" : [بكسر الفاء وإسكان الطاء المهملة ثم مثناة تحتية مفتوحة وواو ساكنة فنون .

                                                                                                                                                                                                                              والفطيون هو الذي تملك بيثرب] . [ ص: 286 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية