الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1395 ] القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا [75]

                                                                                                                                                                                                                                      وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله خطاب للمأمورين بالقتال، على طريقة الالتفات؛ مبالغة في التحريض عليه، وتأكيدا لوجوبه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: والمستضعفين مجرور عطفا على اسم الله، أي: في سبيل المستضعفين الذين هم كأنفسكم، وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدو، أو على "السبيل" بحذف المضاف، أي: في خلاص المستضعفين، أو منصوب على الاختصاص، يعني: وأختص من سبيل الله خلاص المستضعفين؛ لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال في "الانتصاف": وفي النصب مبالغة في الحث على خلاصهم من جهتين:

                                                                                                                                                                                                                                      إحداهما: التخصيص بعد التعميم، فإنه يقتضي إضمار الناصب الذي هو أختص، ولولا النصب لكان التخصيص معلوما من إفراده بالذكر، ولكن أكد هذا المعلوم بطريق اللزوم بأن أخرجه إلى النطق.

                                                                                                                                                                                                                                      من الرجال والنساء والولدان بيان للمستضعفين، أو حال منهم، وهم المسلمون الذين صدهم المشركون عن الهجرة، فبقوا بمكة مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين كما في الصحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1396 ] وإنما ذكر (الولدان) معهم؛ تكميلا للاستعطاف واستجلاب المرحمة، وتنبيها على تناهي ظلم المشركين، بحيث بلغ أذاهم الصبيان، وإيذانا بإجابة الدعاء الآتي بسبب مشاركتهم في الدعاء.

                                                                                                                                                                                                                                      الذين يقولون من إيذاء أهل مكة وإذلالهم إياهم، متبرئين من المقام بها ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها أي: بالشرك الذي هو ظلم عظيم، وبأذية المسلمين، وهي مكة، و(الظالم) صفتها، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه، فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له كان كالفعل في التذكير والتأنيث، بحسب ما عمل فيه، قاله أبو السعود .

                                                                                                                                                                                                                                      واجعل لنا من لدنك وليا أي: سخر لنا من عندك حافظا يحفظ علينا ديننا واجعل لنا من لدنك نصيرا ناصرا يدفع عنا أذيات أعدائنا، أو المعنى: واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة، أي: لتكن أنت ولينا وناصرنا، وقد استجاب الله عز وجل دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة، وجعل لمن بقي منهم خير ولي وأعز ناصر، ففتح مكة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فتولاهم أي تول، ونصرهم أية نصرة، حتى صاروا أعز أهلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى البخاري بالسند إلى ابن عباس قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، وبه إليه قال: كانت أمي ممن عذر الله.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1397 ] قال الرازي : معنى الآية: لا عذر لكم في ترك المقاتلة، وقد بلغ حال المستضعفين من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف، فهذا حث شديد على القتال، وبيان العلة التي صار لها القتال واجبا، وهو ما في القتال من تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة؛ لأن هذا الجمع إلى الجهاد يجري مجرى فكاك الأسير. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية