الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر خطاب للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وتعجيب له عليه الصلاة والسلام، أي: ألم تنظر أو ألم ينته علمك إلى الذين يزعمون من الزعم وهو كما في القاموس مثلث القول: الحق والباطل والكذب ضد، وأكثر ما يقال فيما يشك فيه، ومن هنا قيل: إنه قول بلا دليل، وقد كثر استعماله بمعنى القول الحق، وفي الحديث عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «زعم جبريل» وفي حديث ضمام بن ثعلبة- رضي الله تعالى عنه -: «زعم رسولك» وقد أكثر سيبويه في الكتاب من قوله: زعم الخليل كذا في أشياء يرتضيها، وفي شرح مسلم للنووي: أن زعم في كل هذا بمعنى القول، والمراد به هنا مجرد الادعاء، أي يدعون أنهم آمنوا بما أنزل إليك أي: القرآن:

                                                                                                                                                                                                                                      وما أنزل إلى موسى عليه السلام من قبلك وهو التوراة، ووصفوا بهذا الادعاء لتأكيد التعجيب، وتشديد التوبيخ والاستقباح، وقرئ: (أنزل) و(أنزل) بالبناء للفاعل يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت بيان لمحل التعجيب على قياس نظائره.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الثعلبي، وابن أبي حاتم، من طرق، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - «أن رجلا من المنافقين - يقال له بشر - خاصم يهوديا، فدعاه اليهود إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكما إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - فقضى لليهودي، فلم يرض المنافق، وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فقال اليهودي لعمر - رضي الله تعالى عنه -: قضى لنا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فلم يرض بقضائه، فقال للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد، ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم –فنزلت».

                                                                                                                                                                                                                                      وفي بعض الروايات: وقال جبريل - عليه السلام -: إن عمر فرق بين الحق والباطل، وسماه النبي، صلى الله عليه وسلم الفاروق، رضي الله تعالى عنه.


                                                                                                                                                                                                                                      والطاغوت على هذا كعب [ ص: 68 ] بن الأشرف، وإطلاقه عليه حقيقة بناء على أنه بمعنى كثير الطغيان، أو أنه علم لقب له كالفاروق لعمر، رضي الله تعالى عنه، ولعله في مقابلة الطاغوت، وفي معناه كل من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله، ويحتمل أن يكون الطاغوت بمعنى الشيطان، وإطلاقه على الأخس بن الأشرف إما استعارة أو حقيقة، والتجوز في إسناد التحاكم إليه بالنسبة الإيقاعية بين الفعل ومفعوله بالواسطة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه، فنقله عن الشيطان إليه على سبيل المجاز المرسل.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني، بسند صحيح، عن ابن عباس أيضا قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله تعالى فيهم الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير، عن السدي: كان أناس من يهود قريظة والنضير قد أسلموا، ونافق بعضهم، وكانت بينهم خصومة في قتيل، فأبى المنافقون منهم إلا التحاكم إلى أبي برزة، فانطلقوا إليه، فسألوه فقال: أعظموا اللقمة، فقالوا: لك عشرة أوساق، فقال: لا، بل مائة وسق، فأبوا أن يعطوه فوق العشرة، فأنزل الله تعالى فيهم ما تسمعون.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا ففي الآية من الإشارة إلى تفظيع التحاكم نفسه ما لا يخفى، وهو أيضا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة، ويمكن حمل خبر الطبراني عليه بحمل المسلمين فيه على المنافقين ممن أسلم من قريظة والنضير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أمروا أن يكفروا به في موضع الحال من ضمير (يريدون) وفيه تأكيد للتعجيب كالوصف السابق، والضمير المجرور راجع إلى الطاغوت، وهو ظاهر على تقدير أن يراد منه الشيطان، وإلا فهو عائد إليه باعتبار الوصف لا الذات، أي: أمروا أن يكفروا بمن هو كثير الطغيان أو شبيه بالشيطان، وقيل: الضمير للتحاكم المفهوم من (يتحاكموا) وفيه بعد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عباس بن المفضل (بها)، وقرئ (بهن)، والضمير أيضا للطاغوت؛ لأنه يكون للواحد والجمع، وإذا أريد الثاني أنث باعتبار معنى الجماعة، وقد تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا عطف على الجملة الحالية، داخلة في حكم التعجيب، وفيها على بعض الاحتمالات وضع المظهر موضع المضمر على معنى (يريدون أن يتحاكموا إلى الشيطان) وهو بصدد إرادة إضلالهم، ولا يريدون أن يتحاكموا إليك وأنت بصدد إرادة هدايتهم و(ضلالا) إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد على حد ما قيل في أنبتكم من الأرض نباتا وإما مؤكد لفعله المدلول عليه بالمذكور، أي (فيضلون ضلالا) ووصفه بالبعد الذي هو نعت موصوفه للمبالغة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية