الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
فصل ( ما ورد في المدح والإطراء والمداحين ) .

في كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من عجب ونحوه ، وجوازه لمن أمن من ذلك في حقه . وظاهر كلام ابن الجوزي تحريمه في غير هذه الحال . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال { : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل ويطريه في المدحة فقال : أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل } . رواه أحمد والبخاري ومسلم . الإطراء المبالغة في المدح وقال صلى الله عليه وسلم { : إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب } رواه أحمد ومسلم من حديث المقداد . وجاء في الإباحة أحاديث كثيرة صحيحة وما تقدم يصلح أن يكون جمعا بينها ، واستعمله المقداد على ظاهره فحثى التراب في الوجه ، وقاله بعضهم : كذا فعل ابن عمر برجل أثنى عليه رواه أحمد .

وقيل أراد به الرد والخيبة كما يقال للطالب المردود والخائب لم يحصل في كفه غير التراب .

وقال في النهاية : وأراد بالمداحين الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح ، فأما من مدح على الفعل الحسن والأمر المحمود ترغيبا في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه [ ص: 454 ] فليس بمداح ، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول كذا قال .

وقال أبو بكرة { أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ويلك قطعت عنق صاحبك ثلاثا ثم قال : من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانا ، والله حسيبه ولا يزكي على الله أحدا أحسب كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه } رواه أحمد والبخاري ومسلم .

قال عبد الله بن الإمام أحمد رضي الله عنه : جاء رجل إلى أبي فذكر أنه كان عند بشر فذكروه فأثنى عليه بشر ، وقال : لا ينسى الله لأحمد صنيعه ، ثبت وثبتنا ، ولولاه لهلكنا قال عبد الله : ووجه أبي يتهلل ، فقلت : يا أبت أليس تكره المدح في الوجه ؟ فقال : يا بني إنما ذكرت عند رجل من عباد الله الصالحين ، وما كان مني فحمد صنيعي ، وقد قال : صلى الله عليه وسلم { المؤمن مرآة المؤمن } .

وقال المروذي : قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : لا يزال الرجل يقال له في وجهه : أحييت السنة . قال : هذا فساد لقلب الرجل .

وقال خطاب بن بشر : قال أبو عثمان الشافعي لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : لا يزال الناس بخير ما من الله عليهم ببقائك وكلام من هذا النحو كثير ، فقال له : لا تقل هذا يا أبا عثمان . ومن أنا في الناس ؟

وقال المروذي قلت لأبي عبد الله : ما أكثر الداعين لك فتغرغرت عينه ، وقال : أخاف أن يكون هذا استدراجا .

وقال محمد بن واسع : لو أن للذنوب ريحا ما جلس إلي منكم أحد . قلت لأبي عبد الله : إن بعض المحدثين قال لي : أبو عبد الله لم يزهد في الدراهم وحدها . قد زهد في الناس ، فقال أبو عبد الله : ومن أنا حتى أزهد في الناس . الناس يريدون أن يزهدوني .

وقال لي أبو عبد الله : أسأل الله أن يجعلنا خيرا مما يظنون ، ويغفر لنا ما لا يعلمون .

وقال رجل لأبي عبد الله : الحمد لله الذي رأيتك . قال : اقعد أيش ذا ؟ [ ص: 455 ] من أنا ؟ وقال الخلال : أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال : دخلنا على أبي عبد الله فقال له شيخ من أهل خراسان : يا أبا عبد الله ، الله الله ، فإن الناس يحتاجون إليك ، وقد ذهب الناس ، فإن كان الحديث لا يمكن فمسائل فإن الناس مضطرون إليك . فقال أبو عبد الله : إلي أنا ؟ واغتم من قوله وتنفس الصعداء ، ورأيت في وجهه أثر الغم .

قيل لأبي عبد الله : جزاك الله عن الإسلام خيرا . فقال : قيل لعمر بن عبد العزيز : جزاك الله عن الإسلام خيرا ، فقال : لا بل جزى الله الإسلام عني خيرا . ثم قال أبو عبد الله للرجل أنا ؟ ومن أنا وما أنا ؟ وفي غير هذه الرواية قال للرجل أنت في غير حل من جلوسك .

وقد سبق هذا النص . وقالت هند أم ابن قتيبة للمروذي : أخبرت أن خراسانيا جاء إلى أبي عبد الله وعنده قوم جلوس فقال : يا أبا عبد الله أنت عندنا بخراسان مثل الشمس ، فتغير أبو عبد الله وكره ما قال وأظهر الكراهة ، وقام فدخل .

وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن معبد الجهني عن معاوية مرفوعا : { إياكم والتمادح فإنه الذبح } .

وقد قال أبو داود في باب ( كراهية التمادح ) : ثنا مسدد ثنا بشر يعني ابن المفضل ثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن مطرف قال : قال لي : إني { انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : أنت سيدنا . فقال : السيد الله تبارك وتعالى . قلنا : وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا ، فقال : قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يسخر بكم الشيطان } . إسناد جيد رواه أحمد ورواه النسائي في اليوم والليلة من طرق .

وروى أيضا في اليوم والليلة عن أبي بكر بن نافع عن بهز عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وعن إبراهيم بن يعقوب عن العلاء بن عبد الجبار عن حماد عن ثابت وحميد عن أنس { : أن ناسا قالوا : يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا ، فقال : يا أيها الناس قولوا : بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل } . رواه البيهقي من حديث حماد ، وهو حديث جيد الإسناد . [ ص: 456 ] وفي البخاري من حديث ابن عباس عن عمر مرفوعا { : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد الله ورسوله } وفي حديث آخر أنه { : جاءه رجل فقال : أنت سيد قريش . فقال : السيد الله } .

قال ابن الأثير في النهاية : أي هو الذي يحق له السيادة ، كأنه كره أن يحمد في وجهه وأحب التواضع ، ومنه الحديث لما قالوا : أنت سيدنا ، قال : قولوا بقولكم . أي : ادعوني نبيا ورسولا كما سماني الله ، ولا تسموني سيدا كما تسمون رؤساءكم ، فإني لست كأحدهم ممن يسودكم في أسباب الدنيا .

والسيد يطلق على : الرب المالك والشريف والفاضل والحكيم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم . وأصله من ساد يسود ، فقلبت الواو ياء ; لأجل الياء الساكنة قبلها ، ثم أدغمت . ووزن سيد فيعل . وهم سادة وزنه فعلة بالتحريك ، مثل : سري وسراة . ولا نظير لها يدل على ذلك أنه يجمع على سيائد بالهمز مثل تبيع وتبائع وأقيل وأقائل . وعند البصريين وزن سيد فعيل . وجمع على فعلة كأنهم جمعوا سائدا مثل قائد وقادة وذائد وذادة . وقالوا : إنما جمعت العرب السيد والجيد على سيائد وجيائد بالهمز على غير قياس ; لأن جمع فعيل فياعل بلا همز .

وروى أبو داود عن القواريري عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { لا تقولوا للمنافق : سيد فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل . } ورواه النسائي في اليوم والليلة عن أبي قدامة عن معاذ ورواه أحمد عن عفان بن معاذ ، ولفظه : { لا تقولوا للمنافق سيدنا إن يكن سيدكم } وذكره وقال عبد الرزاق عن معمر عن أيوب : إن رجلا قال لابن عمر : يا خير الناس وابن خيرهم ، فقال ابن عمر : ما أنا بخير الناس ولا ابن خيرهم ، ولكني عبد من عباد الله أرجو الله وأخافه ، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه .

وقال الثوري عن أبي الوازع قلت لابن عمر : لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم . [ ص: 457 ] قال فغضب ثم قال : إني لأحسبك عراقيا ما يغلق عليه ابن أمك بابه . وقد ورد في المدح والذم أشياء كالخبر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر } . رواه أحمد والترمذي وغيرهما .

وفي الصحيحين { : لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح } .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار { : إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع } . وقال { : خير دور الأنصار دار بني عبد الأشهل وفي كل دور الأنصار خير . } وذكر ابن عباس رضي الله عنه أبا بكر فقال : كان ثاني اثنين إذ هما في الغار ، وثاني اثنين في العريش ، وثاني اثنين في القبر . وقال : الشعبي لما مات علي بن أبي طالب رضي الله عنه قام ابنه الحسن بن علي على قبره فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم واستغفر لأبيه ثم قال : نعم أخو الإسلام كنت يا أبت جوادا بالحق بخيلا بالباطل عن جميع الخلق ، تغضب حين الغضب ، وترضى حين الرضى ، عفيف النظر ، غضيض الطرف ، لم تكن مداحا ولا شتاما ، تجود بنفسك في المواطن التي تبخل فيها الرجال ، صبورا على الضراء مشاركا في النعماء ; ولذلك ثقلت على أكتاف قريش . وذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند صعصعة بن صوحان فقال : هو بالله عليم والله في عينيه عظيم . وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن علي فقال : ما شئت من ضرس قاطع في العلم بكتاب في العلم بكتاب الله والفقه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت له مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم والتبطن في العشيرة ، والنجدة في الحرب ، والبذل للماعون . وقيل لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين من الذي إلى جانبك ؟ فقال هذا سيد المسلمين أبي بن كعب . وقال عمر أيضا : أبي أقرؤنا ، وعلي أقضانا . رواه البخاري .

وقال الشاعر [ ص: 458 ]

وإني من القوم الذين عرفتهم إذا مات منهم سيد قام صاحبه     نجوم سماء كلما غاب كوكب
بدا كوكب تأوي إليه كواكبه     أضاءت له أحسابهم ووجوههم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

وقال آخر :

نجوم ظلام كلما غاب كوكب     بدا ساطعا في حندس الليل كوكب



وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه لما جاء بنو تميم بخطيبهم عطارد بن حاجب فخطب { ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس فأجابهم وشاعرهم الزبرقان قال ابن بدر : فأنشد قصيدة . فقام حسان فأجابه بقصيدة يقول فيها :

إن الذوائب من فهر وإخوتهم     قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته     تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم     أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم     عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن سابقوا الناس يوما فاز سابقهم     أو وازنوا أهل مجد بالندى منعوا
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم     لا يطمعون ولا يردي بهم طمع
لا يبخلون على جار بفضلهم     ولا يمسهم من مطمع طبع
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم     وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم     إذا تفاوتت الأهواء والشيع

فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس : لخطيبهم أخطب من خطيبنا ، ولشاعرهم أشعر من شاعرنا ، ثم أسلموا وأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوائزهم ، وكان بعث إليهم في المحرم سنة تسع عيينة بن حصن الفزاري في خمسين فارسا ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري ليغزوهم ، فلما رأوا الجمع ولوا ; فأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبيا فجاءوا لذلك .
} [ ص: 459 ]

قال الجوهري : الخور بالتحريك الضعف . يقال : رجل خوار ، ورمح خوار ، وأرض خوارة ، والجمع : خور . وقال : الهلع أفحش الجزع . وقد هلع بالكسر فهو هلع وهلوع ، وحكى يعقوب : رجل هلعة كهمزة إذا كان يهلع ويحزن ويستجيع سريعا .

{ ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه كعب الشاعر يخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه ، وأن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربا ، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا مسلما ، وإن أنت لم تفعل فانح إلى نجاتك ، وكان كعب قد قال :

ألا أخبرا عني بجيرا رسالة     فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
فبين لنا إن كنت لست بفاعل     على أي شيء غير ذلك دلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا     عليه ولا تلفي عليه أخا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف     ولا قائل إما عثرت لعا لكا
سقاك بها المأمون كأسا روية     فانهلك المأمون منها وعلكا

فكره بجير أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سقاك بها المأمون ، صدق وإنه لكذوب ، وأنا المأمون
} ولما سمع : على خلق لم تلف أما لا عليه قال : { أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه ثم كتب بجير لكعب أربعة أبيات ، فلما بلغه الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه فقال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرجاف الوشاة به من عدوه ثم قدم المدينة فنزل على رجل يعرفه من جهينة ، فغدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح ، فصلى معه ثم قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 460 ] فوضع يده في يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال : يا رسول الله إن كعب بن زهير جاء ليستأمنك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به ؟ قال : نعم . قال : أنا يا رسول الله كعب بن زهير . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله دعني وعدو الله ; أضرب عنقه ، فقال : دعه عنك فقد جاء تائبا ; } فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لذلك ; فقال قصيدته اللامية يصف فيها محبوبته وناقته التي أولها :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول     متيم إثرها لم يفد مكبول

إلى أن قال :

يمشي الغواة بجنبيها وقولهم     إنك ابن أبي سلمى لمقتول
وقال كل صديق كنت آمله     لا ألهينك إني عنك مشغول

إلى أن قال :

نبئت أن رسول الله أوعدني     والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة     القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم     أذنب ولو كثرت في الأقاويل

إلى أن قال :

إن الرسول لنور يستضاء به     مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم     ببطن مكة لما أسلموا زولوا
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم     ضرب إذا عرد السود التنابيل
شم العرانين أبطال لبوسهم     من نسج داود في الهيجا سرابيل

إلى أن قال : [ ص: 461 ]

ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم     قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم     وما لهم عن حياض الموت تهليل



عرد الرجل تعريدا إذا فر ، وعرنين كل شيء أوله ، وعرانين القوم ساداتهم وعرنين الأنف مجتمع الحاجبين وهو أول الأنف حيث يكون فيه الشمم يقال : هم شم العرانين ، وإنما عنى كعب بقوله إذا عرد السود التنابيل الأنصار لما صنع الأنصاري ما صنع وخص المهاجرين بمدحته وغضب عليه الأنصار فقال : بعد أن أسلم يمدح الأنصار قصيدته التي قال فيها :

من سره كرم الحياة فلا يزل     في مقنب من صالح الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر     إن الخيار هم بنو الأخيار
والذائدين الناس عن أديانهم     بالمشرفي وبالقنا الخطار

المشرفية سيوف نسبت إلى مشارف قرى من أرض العرب يقال : سيف مشرفي ولا يقال : مشارفي لأن الجمع لا ينسب إليه إذا كان على هذا الوزن وخطر الرمح يخطر أي : اهتز ، ورمح خطار أي ذو اهتزاز ، ويقال خطران الرمح ارتفاعه وانخفاضه للطعن ورجل خطار بالرمح .


والبائعين نفوسهم لنبيهم     للموت يوم تعانق وكرار
وإذا حللت ليمنعوك إليهم     أصبحت عند معاقل الأعقار

المراد بالمعقل الملجأ والأعقار الأسد .

إلى أن قال :

قوم إذا خوت النجوم فإنهم     للطارقين النازلين مقاري

[ ص: 462 ] وكعب من فحول الشعراء هو وأبوه وابنه عقبة وابن ابنه العوام بن عقبة ومما يستحسن لكعب قوله :

لو كنت أعجب من شيء لأعجبني     سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها     كالنفس واحدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل     لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر

وقوله في النبي صلى الله عليه وسلم :

تحدي به الناقة الأدماء معتجرا     بالبرد جلي عليه ليلة الظلم
ففي عطافيه أو أثناء بردته     ما يعلم الله من دين ومن كرم

ذكر رجل لرجل فقال : ما بعثته في سواد إلا جلاه ومحاه ، ولا في بياض إلا أزكاه وأرضاه ومدح أعرابي رجلا فقال : كالمسك إن تركته عبق ، وإن خبأته عبق .

قال ابن شهاب : قال ابن مسعود : ما مات من ترك مثلك . وليس المراد بابن مسعود عبد الله بلا شك فإنه مات قبل أن يولد ابن شهاب الزهري وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لا تعجلن بمدح أحد ولا بذمه فإنه رب من يسرك اليوم يسوءك غدا .

وقال النجاشي للشاعر :

إني امرؤ قلما أثني على أحد     حتى أرى بعض ما يأتي وما يذر
لا تحمدن امرأ حتى تجربه     ولا تذمن من لم يبله الخبر

وقال علي بن الحسين : إذا قال رجل ما لا يعلم فيك من الخير أوشك أن يقول فيك ما لم يعلم من الشر . وسبق في غير موضع ذم النبي صلى الله عليه وسلم لرجال معينين قال الحسن : ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر ، كان يقال : من أظهر عيب نفسه فقد زكاها . ذم أعرابي رجلا فقال : أنت والله ممن إذا سأل ألحف ، وإذا سئل سوف ، وإذا حدث حلف ، وإذا وعد خلف ينظر نظر حسود ، ويعرض إعراض حقود .

قال الشاعر : [ ص: 463 ]

فإن تصبك من الأيام داهية     لم تبك منها على دنيا ولا دين

وقال آخر :

خنازير ناموا عن المكرمات     فنبههم قدر لم ينم
فيا قبحهم في الذي خولوا     ويا حسنهم في زوال النعم

وقال آخر :

كأن ريحهم في خبث فعلهم     ريح الكلاب إذا ما مسها المطر



وقال آخر :

لو كنت ماء كنت غير عذب     أو كنت سيفا كنت غير عضب

وقال آخر :

لو كنت بردا كنت زمهريرا     أو كنت ريحا كانت الدبورا
أو كنت غيما لم يكن مطورا     أو كنت ماء لم يكن طهورا



ومدح الوزير ابن هبيرة الخليفة المستنجد بالله وبالغ وفي آخره :

ومن عجب أنني جالب     من الشعر تمرا إلى أهله

وقال له يوما المستنجد بالله لم لا يكون ريح التفاح الأصفهاني بها كما نجده عندنا ؟ فأنشده :

يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى     إليكم يلقى طيبكم فيطيب

فأنشده المستنجد بالله يمدحه :

فلو رام يا يحيى مكانك جعفر     ويحيى لكفى عنه يحيى وجعفر
ولو قست يا يحيى بيحيى بن برمك     لكنت لدى الأقوام أعلى وأفخر

.

التالي السابق


الخدمات العلمية