الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 51 ] فصل

في نفي الشعر من القرآن

قد علمنا أن الله تعالى نفى الشعر عن القرآن وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين . وقال في ذم الشعراء : والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون إلى آخر ما وصفهم به في هذه الآيات . وقال : وما هو بقول شاعر .

وهذا يدل على أن ما حكاه عن الكفار - من قولهم : إنه شاعر ، وإن هذا شعر - لا بد من أن يكون محمولا على أنهم نسبوه إلى أنه يشعر بما لا يشعر به غيره من الصنعة اللطيفة في نظم الكلام ، لا أنهم نسبوه في القرآن إلى أن الذي أتاهم به هو من قبيل الشعر الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة .

أو يكون محمولا على ما كان يطلق الفلاسفة على حكمائهم وأهل الفطنة منهم في وصفهم إياهم بالشعر ؛ لدقة نظرهم في وجوه الكلام وطرق لهم في المنطق . وإن كان ذلك الباب خارجا عما هو عند العرب شعر على الحقيقة .

أو يكون محمولا على أنه أطلقه بعض الضعفاء منهم في معرفة أوزان الشعر . وهذا أبعد الاحتمالات .

فإن حمل على الوجهين الأولين كان ما أطلقوه صحيحا ؛ وذلك أن الشاعر يفطن لما لا يفطن له غيره ، وإذا قدر على صنعة الشعر كان على ما دونه - في رأيهم وعندهم - أقدر ، فنسبوه إلى ذلك لهذا السبب .

فإن زعم زاعم أنه قد وجد في القرآن شعرا كثيرا ، فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام أو أبيات تامة ، ومنه ما يزعمون أنه مصراع ، كقول القائل :


قد قلت لما حاولوا سلوتي هيهات هيهات لما توعدون



ومما يزعمون أنه بيت ، قوله : وجفان كالجواب وقدور راسيات قالوا : هو من الرمل ، من البحر الذي قيل فيه :

[ ص: 52 ]

ساكن الريح نطوف الـ     ـمزن منحل العزالى



وقوله : ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه . كقول الشاعر من بحر الخفيف :


كل يوم بشمسه     وغد مثل أمسه



وكقوله - عز وجل - : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب قالوا : هو من المتقارب .

وكقوله : ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا . ويشبعون حركة الميم ، فيزعمون أنه من الرجز .

وذكر عن أبي نواس أنه ضمن ذلك شعرا ، وهو قوله :


وفتية في مجلس وجوههم     ريحانهم قد عدموا التثقيلا

ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا

وقوله - عز وجل - : ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين . زعموا أنه من الوافر ، كقول الشاعر :


لنا غنم نسوقها غزار     كأن قرون جلتها عصي



وكقوله - عز وجل - : أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ضمنه أبو نواس في شعره ففصل ، وقال : " فذاك الذي " ، وشعره :

وقرا معلنا ليصدع قلبي     والهوى يصدع الفؤاد السقيما
أرأيت الذي يكذب بالديـ     ـن فذاك الذي يدع اليتيما



[ ص: 53 ] وهذا من الخفيف . كقول الشاعر :


وفؤادي كعهده بسليمى     بهوى لم يحل ولم يتغير



وكما ضمنه في شعره من قوله :


سبحان من سخر هذا لنا     حقا وما كنا له مقرنين



فزاد فيه حتى انتظم له الشعر .

وكما يقولونه في قوله - عز وجل - : والعاديات ضبحا فالموريات قدحا ، ونحو ذلك في القرآن كثير ، كقوله : والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا . وهو عندهم شعر من بحر البسيط .

والجواب عن هذه الدعوى التي ادعوها ، من وجوه :

أولها : أن الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن ، لو كانوا يعتقدونه شعرا ، ولم يروه خارجا عن أساليب كلامهم - لبادروا إلى معارضته ، لأن الشعر مسخر لهم مسهل عليهم ، ولهم فيه ما علمت من التصرف العجيب ، والاقتدار اللطيف . فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك ، ولا عولوا عليه - : علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في الصنعة ، والمرمدون في هذا الشأن . وإن استدراك من يجيء الآن على فصحاء قريش وشعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان وبلغائهم وخطبائهم ، وزعمه أنه قد ظفر بشعر في القرآن وقد ذهب أولئك النفر عنه وخفي عليهم مع شدة حاجتهم عندهم إلى الطعن في القرآن والغض منه والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه - فلن يجوز أن يخفى على أولئك ، وأن يجهلوه ، ويعرفه من جاء الآن ، وهو بالجهل حقيق !

إذا كان كذلك ، علم أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال سديد ، وهو أنهم قالوا : إن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرا ، وأقل الشعر [ ص: 54 ] بيتان فصاعدا . وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام .

وقالوا أيضا : إن ما كان على وزن بيتين ، إلا أنه يختلف وزنهما أو قافيتهما - فليس بشعر .

ثم منهم من قال : إن الرجز ليس بشعر أصلا ، لا سيما إذا كان مشطورا أو منهوكا . وكذلك ما كان يقاربه في قلة الأجزاء . وعلى هذا يسقط السؤال .

ثم يقولون : إن الشعر إنما يطلق ، متى قصد القاصد إليه - على الطريق الذي يتعمد ويسلك ، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء ، دون ما يستوي فيه العامي والجاهل ، والعالم بالشعر واللسان وتصرفه وما يتفق من كل واحد ، فليس يكتسب اسم الشعر ولا صاحبه اسم شاعر ؛ لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر ، أو تنتظم انتظام بعض الأعاريض ، كان الناس كلهم شعراء ؛ لأن كل متكلم لا ينفك من أن يعرض في جملة كلام كثير يقوله ، ما قد يتزن بوزن الشعر وينتظم انتظامه .

ألا ترى أن العامي قد يقول لصاحبه : " أغلق الباب وائتني بالطعام " . ويقول الرجل لأصحابه : " أكرموا من لقيتم من تميم " ؟ ومتى تتبع الإنسان هذا النحو عرف أنه يكثر في تضاعيف الكلام مثله وأكثر منه .

وهذا القدر الذي يصح فيه التوارد ، ليس يعده أهل الصناعة سرقة ، إذا لم تعلم فيه حقيقة الأخذ . كقول امرئ القيس :


وقوفا بها صحبي علي مطيهم     يقولون لا تهلك أسى وتجمل



[ ص: 55 ] وكقول طرفة :


وقوفا بها صحبي علي مطيهم     يقولون لا تهلك أسى وتجلد



ومثل هذا كثير .

فإذا صح مثل ذلك في بعض البيت ولم يمتنع التوارد فيه ، فكذلك لا يمتنع وقوعه في الكلام المنثور اتفاقا غير مقصود إليه ، فإذا اتفق لم يكن ذلك شعرا .

وكذلك يمتنع التوارد على بيتين ، وكذلك يمتنع في الكلام المنثور وقوع البيتين ونحوهما .

فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعد شعرا ، وإنما يعد شعرا ما إذا قصده صاحبه : تأتى له ، ولم يمتنع عليه .

فإذا كان هو مع قصده لا يتأتى له ، وإنما يعرض في كلامه عن غير قصد إليه - لم يصح أن يقال : إنه شعر ، ولا إن صاحبه شاعر ، ولا يصح أن يقال : إن هذا يوجب أن مثل هذا لو اتفق من شاعر فيجب أن يكون شعرا ؛ لأنه لو قصده لكان يتأتى له .

وإنما لم يصح ذلك ، لأن ما ليس بشعر فلا يجوز أن يكون شعرا من أحد ، وما كان شعرا من أحد من الناس كان شعرا من كل أحد . ألا ترى أن السوقي قد يقول : " اسقني الماء يا غلام سريعا " ، وقد يتفق ذلك من الساهي ومن لا يقصد النظم .

فأما الشعر إذا بلغ الحد الذي بينا ، فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه .

وأما الرجز فإنه يعرض في كلام العوام كثيرا ، فإذا كان بيتا واحدا فليس ذلك بشعر .

وقد قيل : إن أقل ما يكون منه شعرا أربعة أبيات ، بعد أن تتفق قوافيها ، ولم يتفق ذلك في القرآن بحال . فأما دون أربعة أبيات منه أو ما يجري مجراه في قلة الكلمات ، فليس بشعر .

[ ص: 56 ] وما اتفق في ذلك من القرآن مختلف الروي ، ويقولون : إنه متى اختلف الروي خرج عن أن يكون شعرا .

وهذه الطرق التي سلكوها في الجواب ، معتمدة أو أكثرها .

ولو كان ذلك شعرا لكانت النفوس تتشوف إلى معارضته ؛ لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد ، وأهله يتقاربون فيه ، أو يضربون فيه بسهم .

* * *

فإن قيل : في القرآن كلام موزون كوزن الشعر ، وإن كان غير مقفى ، بل هو مزاوج متساوي الضروب ، وذلك أحد أقسام كلام العرب .

قيل : من سبيل الموزون من الكلام أن تتساوى أجزاؤه في الطول والقصر ، والسواكن والحركات . فإن خرج عن ذلك لم يكن موزونا ، كقوله :


رب أخ كنت به مغتبطا     أشد كفي بعرا صحبته
تمسكا مني بالود ولا     أحسبه يزهد في ذي أمل
تمسكا مني بالود ولا     أحسبه يغير العهد ولا
يحول عنه أبدا     فخاب فيه أملي



وقد علمنا أن القرآن ليس من هذا القبيل ، بل هذا قبيل غير ممدوح ، ولا مقصود من جملة الفصيح ، وربما كان عندهم مستنكرا ، بل أكثره على ذلك .

وكذلك ليس في القرآن من الموزون الذي وصفناه أولا وهو الذي شرطنا فيه التعادل والتساوي في الأجزاء ، غير الاختلاف الواقع في التقفية . ويبين ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بينا ، وتتم فائدته بالخروج منه . وأما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية