الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان معنى النفس والروح والقلب ، والعقل ، وما هو المراد بهذه الأسامي .

اعلم أن هذه الأسماء الأربعة تستعمل في هذه الأبواب ويقل في فحول العلماء من يحيط بهذه الأسامي واختلاف معانيها وحدودها ومسمياتها وأكثر الأغاليط منشؤها الجهل بمعنى هذه الأسامي واشتراكها بين مسميات مختلفة ، ونحن نشرح في معنى هذه الأسامي ما يتعلق بغرضنا اللفظ الأول لفظ القلب : وهو يطلق لمعنيين .

أحدهما : اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر ، وهو لحم مخصوص ، وفي باطنه تجويف ، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه ولسنا نقصد الآن شرح شكله وكيفيته إذ يتعلق به غرض الأطباء ولا يتعلق ، به الأغراض الدينية ، وهذا القلب موجود للبهائم ، بل هو موجود للميت ، ونحن إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب لم نعن به ذلك فإنه قطعة لحم لا قدر له ، وهو من عالم الملك والشهادة إذ تدركه البهائم بحاسة البصر ، فضلا عن الآدميين .

والمعنى الثاني هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف من الإنسان ، وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب ولها علاقة مع القلب الجسماني ، وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته فإن تعلقه ، به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات ، أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة أو تعلق المتمكن بالمكان وشرح ذلك مما نتوقاه لمعنيين: أحدهما : أنه متعلق بعلوم المكاشفة وليس غرضنا من هذا الكتاب إلا علوم المعاملة .

والثاني : أن تحقيقه يستدعي إفشاء سر الروح وذلك مما لم ، يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس لغيره أن يتكلم فيه والمقصود أنا إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب أردنا به هذه اللطيفة وغرضنا ذكر أوصافها وأحوالها ، لا ذكر حقيقتها في ذاتها ، وعلم المعاملة يفتقر إلى معرفة صفاتها وأحوالها ولا يفتقر إلى ذكر حقيقتها .

اللفظ الثاني : الروح وهو أيضا يطلق فيما يتعلق بجنس غرضنا لمعنيين: أحدهما : جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجمساني فينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن وجريانه في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به والحياة ، مثالها النور الحاصل في الحيطان . والروح مثالها السراج ، وسريان الروح وحركته في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه ، والأطباء إذا أطلقوا لفظ الروح أرادوا به هذا المعنى وهو بخار لطيف أنضجته حرارة القلب وليس شرحه من غرضنا إذ المتعلق به غرض الأطباء الذين يعالجون الأبدان فأما غرض أطباء الدين المعالجين للقلب حتى ينساق إلى جوار رب العالمين فليس يتعلق بشرح هذه الروح أصلا .

المعنى الثاني هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان وهو الذي شرحناه في أحد معاني القلب وهو الذي أراده الله تعالى بقوله : قل الروح من أمر ربي وهو أمر عجيب رباني تعجز أكثر العقول والأفهام عن درك حقيقته .

التالي السابق


(بيان معنى النفس والروح والقلب ، والعقل ، وما هو المراد بهذه الأسامي) :

إذا ذكرت (اعلم أن هذه أربعة أسام تستعمل في هذه الأبواب ويقل في فحول العلماء) أي: أكابرها (من يحيط بمعرفة هذه الأسامي واختلاف معانيها وحدود مسمياتها) فكل واحد منهم سلك فيها مسالك [ ص: 202 ] مختلفة (وأكثر الأغاليط) جمع أغلوطة أو جمع غلط على غير قياس (منشؤها الجهل بمعرفة هذه الأسامي وباشتراكها بين مسميات مختلفة ، ونحن نشرح من معاني هذه الأسامي ما يتعلق بفرضنا) في هذا الكتاب .

(فمن ذلك لفظ القلب: وهو يطلق لمعنيين) أي: بإزاء معنيين:

(أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر ، وهو لحم مخصوص ، وفي باطنه تجويف ، وفي ذلك التجويف دم أسود وهو منبع الروح ومعدنه) وتحقيقه في كتب التشريح للأطباء. قالوا: هو جسم مخروطي كهيئة الصنوبرة المعكوسة ، قاعدته في وسط الصدر ، وبها تتصل الرباطات الحافظة للقلب على وضعه، ورأسه المخروط أسفل إلى اليسار، وهو أحمر رماني مركب من اللحم والعصب والغضروف والشرايين النابتة منه ، والأجوف الواصل إليه من الكبد والروح الحيواني والدم الغذائي والشرياني والغشاء الصلبي الذي هو غلافه ، وإنما خلق في وسط الصدر لأنه مبدأ الحياة لشرفه يجب أن يكون في أحرز المواضع وأكرمها، وأحرزها تنور الصدر؛ إذ العظام المحيطة به سور حصين ، والأغشية والعضلات وقاء قوي ، والرئة المكتنفة بالقلب فراش وطيء، وهي تمنع من أن تلقاه عظام الصدر من قدام ، وله بطنان: أحدهما الأيمن وهو مملوء بالروح الكثير والدم القليل وهو منبت الشرايين من طرف القاعدة كأنه قاعدة لجميع القلب ، وكذا غشاؤه أصلب من سائر الأغشية لأنه عضو شريف ومعدن الروح الحيواني ومنبع الحرارة الغريزية التي هي الحرارة المجحفة وهو أول عضو يتحرك من الحيوان. وآخر عضو يسكن منه وغشاؤه محيط إلا أنه لم يلتزق به بالكلية، بل فيه سعة، وفائدة ذلك أن لا ينعصر القلب إذا تحرك حركة الانبساط ، وتجاويفه ثلاثة في الحقيقة، اثنان كبيران ، والثالث صغير كائن بين الاثنين، وهو كمنفذ بينهما ، وقاعدة التجويف الأيمن أنزل قليلا ليكون طريق الغذاء قصيرا، وهو أكبر ليسع ما يدخر فيه من الغذاء أكثر ، ولحم جانب اليسار أصلب؛ لأن الروح فيه أكثر من الدم، ودمه رقيق، لصلابة لحمه يمنع من ترشح الدم وتحلل الروح .

وقد نبت في طرف القاعدة قطعتان من اللحم الغليظ على شكل أذنين: إحداهما يمنة والأخرى يسرة، مما ينفذ النسيم تتواتران إذا انبسط، وتسترخيان إذا انقبض ، هذا ما ذكره الأطباء فيما يتعلق بتشريح القلب .

(ولسنا نقصد الآن شرح شكله وكيفيته، فلا تتعلق به الأغراض الدينية، وإنما يتعلق بذلك غرض الأطباء) لإعوزاهم إلى معرفة ذلك لأجل معالجة ما يعرض عليه (وهذا القلب موجود للبهائم، بل هو موجود للميت ، ونحن إذا أطلقنا القلب في هذا الكتاب لم نعن به ذلك) ، ولم نقصده (فإنه قطعة لحم لا قدر لها، وهو من عالم الملك) بالضم (والشهادة) من المحسوسات الطبيعية (إذ تدركه البهائم بحاسة البصر، فضلا عن الآدميين) .

( والمعنى الثاني) للقلب: (هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني) الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر (تعلق) معنوي (وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان) الكمالية ويسميها الحكيم النفس الناطقة، والروح باطنه والنفس الحيوانية مركبة (وهي المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمطالب والمعاتب) فالمضغة اللحمية من عالم الخلق، وهذه اللطيفة من عالم الأمر، (ولهذه اللطيفة علاقة مع القلب الجسداني، وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته ، وتعلقها به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام و) تعلق (الأوصاف بالموصوفات، أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة أو تعلق المتمكن بالمكان) ، وقد اختلفوا في ذلك وطولوا البحث فيه (وشرح ذلك) يكشف الغطاء عنه (مما نتوقاه) ونتحرج عنه (لمعنيين: أحدهما: أنه متعلق بعلوم المكاشفة وليس غرضنا في هذا الكتاب إلا علوم المعاملة) فلو استطردنا فيه القول خرجنا عن المقصود المهم .

(والثاني: أن تحقيقه يستدعي إفشاء سر الروح، ولم يتكلم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) قال العراقي: متفق عليه من حديث ابن مسعود في سؤال اليهود عن الروح ، وفيه: فأمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يرد عليهم ، فعلمت أنه يوحى إليه. الحديث، وقد تقدم (فليس لغيره أن يتكلم فيه) تأدبا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [ ص: 203 ] (والمقصود أنا إذا أطلقنا القلب في هذا الكتاب أردنا به هذه اللطيفة) الربانية (وغرضنا ذكر أوصافها وأحوالها، لا ذكر حقيقتها في ذاته ، وعلم المعاملة يفتقر إلى معرفة صفاتها وأحوالها ولا يفتقر إلى ذكر حقيقتها) فلذا أضربنا عنه .

(اللفظ الثاني: الروح وهو أيضا يطلق فيما يتعلق بجنس غرضنا لمعنيين: أحدهما: جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني) قابل لقوة الحس والحركة التي تنبعث من القلب ، (وينتشر بواسطة العروق الضوارب) بسريانه في تجاويفها (إلى سائر أجزاء البدن) ، وأراد بالعروق الضوارب الشرايين، ومنبتها هو التجويف الأيسر من القلب، ويخرج عن هذا التجويف شريانان أحدهما صغير غير متضاعف، ويسمى الوريدي ، والثاني كبير جدا ويسمى الأبهر، والوريدي يدخل في الرئة وينقسم فيها ؛ فلذلك خلق رقيقا غير مضاعف ، وسائر الشرايين خلقت صلبة مضاعفة ؛ لأنها تحوي جسما لطيفا وهو الروح الحيواني ودما حارا ، وهي دائمة الحركة بسطا وقبضا ، فلم يؤمن أن تنشق أو يترشح منها الروح إن جعلت طبقة واحدة ، والأبهر حين طلوعه تتشعب منه شعبتان: إحداهما وهي أصغرهما تصير إلى التجويف الأيمن من تجويفي القلب ، والثانية: تستدير حول القلب ، ثم تدخل إليه وتتفرق فيه ، (وجريانه في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والسمع والبصر والشم منه على أعضائه يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت) أي: أطرافه (فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به ، فالحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان. والروح مثاله السراج ، وسريان الروح وحركته في الباطن مثله حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه ، والأطباء إذا أطلقوا الروح أرادوا به هذا المعنى وهو بخار لطيف أنضجته حرارة القلب) واستطرد الشهاب السهروردي في العوارف هذا البحث مختصرا ، وقال: وهذه الروح لسائر الحيوانات ، ومنه تفيض قوى الحواس وهو الذي قوامه بإجراء سنة الله تعالى بالغذاء غالبا ، ويتعرف بعلم الطب فيه باعتدال مزاج الأخلاط اهـ .

وذكر الحكماء أن الروح جسم لطيف بخاري يتولد من الدم الوارد على القلب في البطن الأيسر منه، قالوا: وفائدة وجوده في البدن أن يكون حاملا للقوى حتى تنتقل وتجول في البدن بتوسطه؛ لأن القوى لكونها من الأعراض لا تنتقل بدون المحال ، ولذلك صار أصنافها كأصنافها ، فإن الروح إذا تولد في القلب يسمى روحا حيوانيا لكونه حاملا للقوة الحيوانية فتنتقل في الشرايين إلى الأعضاء ، فيفيدها الحياة، وجزء صالح في هذا الروح يصعد إلى الدماغ فيغيره إلى مزاج آخر يصير به روحا نفسانيا أي روحا صالحا لأن يكون مركبا للقوى النفسانية ، فيصدر أفعالها عنه ، وجزء ليس بكثير في المقدار من هذا الروح أي الحيواني يصير إلى جانب الكبد فيغيره تغييرا يصير به روحا طبيعيا أي روحا يستعد لقبول القوى الطبيعية فيصدر أفعالها عنه، (وليس من غرضنا شرحه إذ المتعلق به غرض الأطباء الذين يعالجون الأبدان) عن أمراضها الظاهرة، (فأما غرض أطباء الدين الذين يعالجون القلوب) عن أمراضها الباطنة (حتى تنساق) بحسن سيرها (إلى جوار رب العالمين) جل جلاله (فليس يتعلق بشرح هذه الروح أصلا. المعنى الثاني هو اللطيفة) الربانية (العالمة المدركة من الإنسان وهو الذي شرحناه في أحد معنى القلب) اعلم أنه قد يجعل اسما للنفس لكون النفس بعض الروح، فهو كتسمية النوع باسم الجنس نحو تسمية الإنسان بالحيوان ، وقد يجعل اسما لهذه اللطيفة، وهي الجزء الذي تحصل به الحياة والتحرك واستجلاب المنافع واستدفاع المضار ، (وهو الذي أراده الله تعالى بقوله: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) وهذه اللطيفة هي الراكبة على الروح الحيواني نازل من عالم الأمر (وهو أمر عجيب رباني يعجز أكثر العقول والأفهام عن درك كنه حقيقته) قد تكون مجردة، وقد تكون منطبعة في البدن، وقال صاحب العوارف: وحيث أمسك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإخبار عن الروح وماهيته بإذن الله تعالى ووحيه وهو -صلى الله عليه وسلم- معدن العلم وينبوع الحكمة كيف يسوغ لغيره الخوض فيه والإشارة إليه، لا جرم لما تقاضت النفس الإنسانية المطلعة إلى الفضول المتشوقة إلى العقول المتحركة بوضعها إلى كل ما أمرت فيه بالسكوت فيه، والمتشوقة [ ص: 204 ] بحرصها إلى كل تحقيق، وكل تمويه، وأطلقت عنان النظر في مسارح الفكر، وخاضت غمرات ماهية الروح، تاهت في التيه، وتنوعت آراؤها فيه ، ولم يوجد الاختلاف من أرباب النقل والعقل في شيء كالاختلاف في ماهية الروح ، ولو لزمت النفوس حدها معترفة بعجزها كان ذلك أجدر بها وأولى ، فأما أقاويل من ليس مستمسكا بالشرائع فننزه الكتاب عن ذكرها ؛ لأنها أقوال أبرزتها العقول التي ضلت عن الرشاد وطبعت على الفساد ، ولم يصبها نور الاهتداء ببركة متابعة الأنبياء ، فهم كما قال الله تعالى فيهم: في غطاء ، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فلما حجبوا عن الأنبياء لم يسمعوا ، وحيث لم يسمعوا لم يهتدوا ، فأصروا على الجهالات ، وحجبوا بالعقول عن المأمول ، والعقل حجة الله تعالى ، يهدي به قوما ويضل به آخرين ، فلم ننقل أقوالهم في الروح واختلافهم فيه ، وإنما المتمسكون بالشرائع تكلموا في الروح ، فقوم منهم بطريق الاستدلال والنظر ، وقوم منهم بلسان الذوق والوجد ، لا باستعمال الفكر ، حتى تكلم في ذلك مشايخ الصوفية أيضا ، وكان الأولى الإمساك عن ذلك والتأدب بأدب النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد قال الجنيد: الروح شيء استأثر الله بعلمه ولا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود ، ولكن نجعل للصادقين لأقوالهم محملا ، ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمثابة التأويل لكلام الله تعالى والآيات المنزلة ، حيث حرم تفسيره وجوز تأويله ؛ إذ لا يسع القول في التفسير إلا نقلا ، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل ، وهو ذكر ما تحتمل الآية من المعنى من غير القطع بذلك ، وإذا كان الأمر كذلك فللقول فيه وجه ومحمل. قال أبو عبد الله الباجي: الروح جسم يلطف عن الحس ويكبر عن اللمس ، ولا يعبر عنه بأكثر من موجود ، وهو وإن منع عن العبارة ، فقد حكم بأنه جسم. وقال ابن عطاء: خلق الله الأرواح قبل الأجساد؛ لقوله تعالى: ولقد خلقناكم يعني الأرواح ثم صورناكم يعني الأجساد ، وقال بعضهم: الروح لطيف قائم في كثيف كالبصر جوهر لطيف قائم في كثيف ، وفي هذا القول نظر. وقال بعضهم: الروح عبارة والقائم بالأشياء هو الحق، وهذا فيه نظر أيضا إلا أن يحمل على معنى الإحياء ، فقد قال بعضهم: الإحياء صفة المحيي كالتخليق صفة الخالق، وقال: قل الروح من أمر ربي وأمره كلامه وكلامه ليس بمخلوق أي صار الحي حيا بقوله: كن حيا ، وعلى هذا لا يكون الروح معنى في الجسد ، فمن الأقوال ما يدل على أن قائله يعتقد قدم الروح ، ومن الأقوال ما يدل على أن قائله يعتقد حدوثه ، ثم إن الناس مختلفون في الروح الذي سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه فقال قوم: هو جبريل ، ونقل عن علي رضي الله عنه أنه قال: هو ملاك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، ولكل وجه منه سبعون ألف لسان ، ولكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله بتلك اللغات كلها، ويخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة .

وروي عن ابن عباس أن الروح خلق من خلق الله تعالى صورهم الله على صورة بني آدم ، وما نزل من السماء ملك إلا ومعه أحد من الروح. وقال أبو صالح: الروح كهيئة الإنسان وليسوا بناس. وقال مجاهد: الروح على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون الطعام وليسوا بملائكة ، وقال سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش ، ولو شاء أن يبتلع السماوات والأرضين السبع في لقمة لفعل صورة خلقه على صورة الملائكة وصورة وجهه على صورة الآدميين ، يقوم يوم القيامة عن يمين العرش والملائكة معه في صف واحد ، وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ، ولولا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور احترق أهل السماوات من نوره .

فهذه الأقاويل لا تكون إلا نقلا وسماعا بلغهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك ، وإذا كان الروح المسؤول عنه شيئا من ذلك فهو غير الروح الذي في الجسد ، فعلى هذا يسوغ القول في هذا الروح ، ولا يكون الكلام فيه ممنوعا. وقال بعضهم: الروح لطيفة من الله تسري إلى أماكن معروفة لا يعبر عنه بأكثر من موجود بإيجاد غيره، وقال بعضهم: الروح لم يخرج من " كن " لأنه لو خرج من " كن " كان عليه الذل، قيل: فمن أي شيء خرج ؟ قال: من بين جلاله وجماله، سبحانه وتعالى بملاحظة الإشارة، خصها بسلامه، وحياها بكلامه ، فهي معتقة من ذل " كن " وسئل أبو سعيد الخراز عن

[ ص: 205 ] الروح: أمخلوقة هي: قال: نعم ، ولولا ذلك ما أقرت بالربوبية حيث قالت: بلى ، والروح هي التي قام بها البدن واستحق اسم الحياة ، وبالروح ثبت العقل ، وبالروح الحجة ، ولو لم تكن الروح كان العقل معطلا لا حجة عليه ولا له ، وقيل: إنها جوهر مخلوق ، ولكنها ألطف المخلوقات وأصفى الجواهر وأبهرها ، وبها ترى المغيبات ، وبها يكون الكشف لأصل الحقائق ، وإذا حجبت الروح عن مراعاة السر أساءت الجوارح الأدب ، ولذلك صارت الروح بين تجل واستتار وقابض ونازع ، وقيل: الدنيا والآخرة عند الأرواح سواء. وقيل: الروح تجول في البرزخ وتبصر أحوال الدنيا، والملائكة تتحدث في السماء من أحوال الآدميين وأرواح تحت العرش وأرواح طيارة إلى الجنان ، وإلى حيث شاءت على أقدارهم من السعي إلى الله أيام الحياة .

وروى سعيد بن المسيب عن سلمان قال: أرواح المؤمنين تذهب في برزخ من الأرض حيث شاءت بين السماء والأرض حتى يردها الله إلى أجسادها،وقيل: إذا ورد على الأرواح ميت من الأحياء التقوا وتحدثوا وتساءلوا ، وكل الله بها ملائكة تعرض عليها أعمال الأحياء، حتى إذا عرض على الأموات ما يعاقب به الأحياء في الدنيا من الذنوب كان عذر الله ظاهرا عند الأموات، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى ، وقد ورد مرفوعا تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله عز وجل ، وتعرض على الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة ، فيفرحون بحسناتهم وتزداد وجوهم بياضا وإشراقا ، فاتقوا الله ولا تؤذوا موتاكم . وفي خبر آخر: إن أعمالكم تعرض على عشائركم وأقاربكم من الموتى فإن كان حسنا استبشروا، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا ، وهذه الأخبار والأقوال تدل على أنها أعيان في الجسد، وليست بمعان وأعراض .

وقال بعضهم: الروح خلق من نور العزة، وإبليس خلق من نار العزة ؛ ولهذا قال خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يدر أن النور خير من النار .

وقال بعضهم: قرن الله العلم بالروح فهي للطافتها تنمو بالعلم كما ينمو البدن بالغذاء ، وهذا في علم الله لا علم الخلق قليل لا يبلغ ذلك ، والمختار عند أكثر متكلمي الإسلام أن الإنسانية والحيوانية عرضان خلقا في الإنسان ، والموت يهدمهما ، وأن الروح هي الحياة بعينها صار البدن بوجودها حيا ، وبالإعادة إليه في القيامة يصير حيا وذهب بعضهم إلى أنه جسم لطيف اشتبك بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود الأخضر ، وهو اختيار أبي المعالي الجويني ، وكثير منهم مال إلى أنه عرض إلا أنه ردهم عن ذلك الأخبار الدالة على أنه جسم لما ورد فيه من العروج والهبوط والتردد في البرزخ ، فحيث وصف بأوصاف دل على أنه جسم؛ لأن العرض لا يوصف بأوصاف ، إذ الوصف معنى ، والمعنى لا يقوم بالمعنى ، وأصر بعضهم على أنه عرض .

سئل ابن عباس وقيل له: أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان؟ فقال: أين يذهب ضوء المصباح عند فناء الأدهان ؟ قيل له: فأين تذهب الأجسام إذا بليت ؟ قال: أين يذهب لحمها إذا مرضت ؟ وقال بعض من يتهم بالعلوم المردودة المفهومة المذمومة وينسب إلى الإسلام: الروح تنفصل عن البدن في جسم لطيف، وقال بعضهم: إنها إذا فارقت البدن تحل محلها القوة الوهمية بتوسط النطقية فتكون حينئذ مطالعة للمعاني المحسوسات؛ لأن تجرده من هيئات البدن عند المفارقة غير ممكن ، وهي عند الموت شاعرة بالموت وبعد الموت متخيلة نفسها مقبورة ، وتتصور جميع ما كانت تعتقده حال الحياة ، وتحس بالثواب والعقاب في القبر .

وقال بعضهم: أسلم المقالات أن يقال: الروح شيء مخلوق أجرى الله تعالى العادة أن يحيي البدن ما دام متصلا بها، وأنه أشرف من الجسد، يذوق الموت بمفارقة الجسد ، كما أن الجسد بمفارقته يذوق الموت، فإن الكيفية والماهية يتعاشى العقل فيهما كما يتعاشى البصر في شعاع الشمس ، ولما رأى المتكلمون أنه يقال لهم: الموجودات محصورة: قديم وجسم وجوهر وعرض ، فالروح أيهم من هؤلاء ؟ فاختار قوم منهم أنه عرض ، وقوم منهم أنه جسم لطيف كما ذكرنا ، واختار قوم أنه قديم ؛ لأنه أمر والأمر كلام الله ، والكلام قديم ، فما أحسن الإمساك عن القول فيما هذا سبيله ، وكلام الشيخ أبي طالب المكي في كتابه يدل على أنه يميل إلى أن الأرواح أعيان في الجسد وهكذا في النفوس، والله أعلم .




الخدمات العلمية