الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان مثال القلب بالإضافة إلى العلوم خاصة .

اعلم أن محل العلم هو القلب أعني اللطيفة المدبرة لجميع الجوارح وهي المطاعة المخدومة من جميع الأعضاء وهي بالإضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات ، فكما أن للمتلون صورة ومثال تلك الصورة ينطبع في المرآة ويحصل بها كذلك ، لكل معلوم حقيقة ولتلك ، الحقيقة صورة تنطبع ، في مرآة القلب وتتضح فيها ، وكما أن المرآة غير ، وصور الأشخاص غير ، وحصول مثالها في المرآة غير ، فهي ثلاثة أمور .

فكذلك ههنا ثلاثة أمور القلب وحقائق الأشياء وحصول نفس الحقائق في القلب وحضورها فيه .

فالعالم عبارة عن القلب الذي فيه يحل مثال حقائق الأشياء ، والمعلوم عبارة عن حقائق الأشياء .

والعلم عبارة عن حصول المثال في المرآة وكما أن القبض مثلا يستدعي قابضا كاليد ومقبوضا كالسيف ووصولا بين السيف واليد بحصول السيف في اليد ، ويسمى قبضا ، فكذلك وصول مثال المعلوم إلى القلب يسمى علما ، وقد كانت الحقيقة موجودة ، والقلب موجودا ولم يكن العلم حاصلا ؛ لأن العلم عبارة عن وصول الحقيقة إلى القلب ، كما أن السيف موجود ، واليد موجودة ، ولم يكن اسم القبض والأخذ حاصلا لعدم وقوع السيف في اليد نعم القبض عبارة عن حصول السيف بعينه في اليد ، والمعلوم بعينه لا يحصل في القلب ، فمن علم النار لم تحصل عين النار في قلبه ، ولكن الحاصل حدها وحقيقتها المطابقة لصورتها فتمثيله بالمرآة أولى ؛ لأن عين الإنسان لا تحصل في المرآة ، وإنما يحصل مثال مطابق له .

وكذلك حصول مثال مطابق لحقيقة المعلوم في القلب يسمى علما .

وكما أن المرآة لا تنكشف فيها الصورة لخمسة أمور:

أحدها : نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل .

والثاني لخبثه وصدئه وكدورته وإن كان تام الشكل .

والثالث : لكونه معدولا به عن جهة الصورة إلى غيرها ، كما إذا كانت الصورة وراء المرآة .

والرابع لحجاب مرسل : بين المرآة والصورة .

والخامس : للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذي بها شطر الصورة وجهتها .

فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن ينجلي فيها حقيقة الحق في الأمور كلها ، وإنما خلت القلوب عن العلوم التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة .

أولها : نقصان في ذاته كقلب الصبي ؛ فإنه لا ينجلي له المعلومات لنقصانه .

والثاني : لكدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات ، فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمتنع ، ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه .

وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : من قارف ذنبا فارقه عقل لا يعود إليه أبدا أي: حصل في قلبه كدورة لا يزول أثرها، إذ غايته لن يتبعه بحسنة يمحوه بها ، فلو جاء بالحسنة ولم تتقدم السيئة لازداد لا محالة إشراق القلب ، فلما تقدمت السيئة سقطت فائدة الحسنة، لكن عاد القلب بها إلى ما كان قبل السيئة ، ولم يزدد بها نورا ، وهذا خسران ونقصان لا حيلة له فليست المرآة التي تتدنس ثم تمسح بالمصقلة لزيادة جلائها من غير دنس سابق ، فالإقبال على طاعة الله والإعراض عن مقتضى الشهوات هو الذي يجلو القلب ويصفيه ، ولذلك قال الله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، وقال صلى الله عليه وسلم : من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم .

الثالث : أن يكون معدولا به عن جهة الحقيقة المطلوبة ، فإن قلب المطيع الصالح وإن كان صافيا ، فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق ؛ لأنه ليس يطلب الحق وليس محاذيا بمرآته شطر المطلوب .

بل ربما يكون مستوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو بتهيئة أسباب المعيشة ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكرا فيها ، أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها .

وإذا كان تقييد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعا عن انكشاف جلية الحق ، فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها ، فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي .

الرابع : الحجاب فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوبا عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد ، وهذا أيضا حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السماوات والأرض ؛ لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجابا بينهم وبين درك الحقائق .

الخامس : الجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب ، فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبا مخصوصا يعرفه العلماء بطرق الاعتبار فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلي حقيقة المطلوب لقلبه ؛ فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة بل كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفان ويزدوجان على وجه مخصوص ، فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال ما يحصل النتاج من ازدواج الفحل والأنثى .

ثم كما أن من أراد أن يستنتج رمكة لم يمكنه ذلك من حمار وبعير وإنسان ، بل من أصل مخصوص من الخيل الذكر والأنثى ، وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص .

فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان وبينهما طريق في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم .

ومثاله : ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها ، بل مثاله أن يريد الإنسان أن يرى قفاه مثلا بالمرآة ، فإنه إذا رفع المرآة بإزاء وجهه لم يكن قد حاذى بها شطر القفا فلا يظهر فيها القفا وإن رفعها وراء القفا وحاذاه كان قد عدل بالمرآة عن عينه فلا يرى المرآة ولا صورة القفا فيها فيحتاج إلى مرآة أخرى ينصبها وراء القفا وهذه في مقابلتها بحيث يبصرها ويرعى مناسبة بين وضع المرآتين حتى تنطبع صورة القفا في المرآة المحاذية للقفا ، ثم تنطبع صورة هذه المرآة في المرآة الأخرى التي في مقابلة العين ، ثم تدرك العين صورة القفا ، فكذلك في اقتناص العلوم طرق عجيبة فيها ازورارات وتحريفات أعجب مما ذكرناه في المرآة يعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الحيلة في تلك الازورارات .

فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور .

وإلا فكل قلب فهو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق ؛ لأنه أمر رباني شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف .

وإليه الإشارة بقوله عز وجل : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السماوات والأرض والجبال بها صار مطيقا لحمل أمانة الله تعالى .

وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد وقلب كل آدمي مستعد لحمل الأمانة ومطيق لها في الأصل ولكن يثبطه عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها الأسباب التي ذكرناها ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة " وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه .

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء " .

إشارة إلى بعض هذه الأسباب التي هي الحجاب بين القلب وبين الملكوت، وإليه الإشارة بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله ، أين الله في الأرض أو في السماء ؟ قال: " في قلوب عباده المؤمنين .

وفي الخبر: قال الله تعالى: "لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن" اللين الوادع .

وفي الخبر أنه قيل يا رسول الله من خير الناس ? فقال : " كل مؤمن مخموم القلب " فقيل : وما مخموم القلب؟ فقال : " هو التقي النقي الذي لا غش فيه ، ولا بغي ولا غدر ولا غل ولا حسد .

" ولذلك قال عمر رضي الله عنه رأى قلبي ربي .

إذ كان قد رفع الحجاب بالتقوى ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه فيرى جنة عرض بعضها السماوات والأرض ، أما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض ؛ لأن السماوات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة ، وهو وإن كان واسع الأطراف متباعد الأكناف فهو متناه على الجملة ، وأما عالم الملكوت وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار المخصوصة بإدراك البصائر فلا نهاية له نعم الذي يلوح للقلب منه مقدار متناه ، ولكنه في نفسه وبالإضافة إلى علم الله لا نهاية له .

وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذت دفعة واحدة تسمى الحضرة الربوبية لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات ؛ إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله ومملكته وعبيده من أفعاله فما يتجلى من ذلك للقلب هي الجنة بعينها عند قوم وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق ويكون سعة ملكه في الجنة بحسب سعة معرفته وبمقدار ما تجلى له من الله وصفاته وأفعاله .

وإنما مراد الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب وتزكيته وجلاؤه قد أفلح من زكاها ومراد تزكيته حصول أنوار الإيمان فيه . أعني إشراق نور المعرفة وهو المراد بقوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه .

نعم هذا التجلي وهذا الإيمان له ثلاث مراتب .

المرتبة الأولى : إيمان العوام : وهو إيمان التقليد المحض والثانية : إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام .

والثالثة : إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين ونبين لك هذه المراتب بمثال وهو أن تصديقك بكون زيد مثلا في الدار له ثلاث درجات:

الأولى : أن يخبرك من جربته بالصدق ولم تعرفه بالكذب ولا اتهمته في القول ، فإن قلبك يسكن إليه ويطمئن بخبره بمجرد السماع ، وهذا الإيمان بمجرد التقليد وهو مثل إيمان العوام فإنهم لما بلغوا سن التمييز سمعوا من آبائهم وأمهاتهم وجود الله تعالى وعلمه وإرادته وقدرته وسائر صفاته وبعثة الرسل وصدقهم وما جاءوا به ، وكما سمعوا به قبلوه وثبتوا عليه واطمأنوا إليه ، ولم يخطر ببالهم خلاف ما قالوه لهم لحسن ظنهم بآبائهم وأمهاتهم ومعلميهم وهذا الإيمان سبب النجاة في الآخرة ، وأهله من أوائل رتب أصحاب اليمين وليسوا من المقربين ؛ لأنه ليس فيه كشف وبصيرة وانشراح صدر بنور اليقين ؛ إذ الخطأ ممكن فيما سمع من الآحاد ، بل من الأعداد فيما يتعلق بالاعتقادات فقلوب ، اليهود والنصارى أيضا مطمئنة بما يسمعونه من آبائهم وأمهاتهم إلا أنهم اعتقدوا ما اعتقدوا خطأ ؛ لأنهم ألقي إليهم الخطأ والمسلمون اعتقدوا الحق لا لاطلاعهم عليه ، ولكن ألقي إليهم كلمة الحق .

التالي السابق


(بيان أمثال القلب بالإضافة إلى العلوم خاصة) .

(اعلم أن محل العلم هو القلب أعني) به (اللطيفة) النورانية (المدبرة لجميع الجوارح المطاعة المخدومة من جميع الأعضاء) لا المضغة الصنوبرية (وهي بالإضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات ، فكما أن للمتلون صورة ومثال تلك الصورة ينطبع في المرآة ويحصل بها ، فكذلك لكل معلوم حقيقة ، وتلك الحقيقة صورته ، فتنطبع في مرآة القلب وتتضح فيها ، وكما أن المرآة غير، وصور الأشخاص) في نفسها (غير، وحصول مثالها في المرآة غير، فهي ثلاثة أمور فكذلك هنا ثلاثة أمور للقلب) بمنزلة المرآة

[ ص: 231 ] (وحقائق الأشياء) بمنزلة صور الأشخاص (وحصول نفس الحقائق في القلب وحضورها فيه) بمنزلة حصول مثال تلك الصور (فالعالم) بكسر اللام (عبارة عن القلب الذي يحل فيه مثال حقائق الأشياء، والمعلوم عبارة عن حقائق الأشياء، والعلم عبارة عن حصول المثال في المرآة) فهي ثلاثة: عالم ومعلوم وعلم ، ثم زاده وضوحا بمثال آخر فقال: (كما أن القبض يستدعي قابضا كاليد ومقبوضا كالسيف ووصولا بين السيف واليد بحصول السيف في اليد ، ويسمى قبضا ، فكذلك وصول مثال المعلوم إلى القلب يسمى علما ، وقد كانت الحقيقة موجودة ، والقلب موجودا ولم يكن العلم حاصلا ؛ لأن العلم عبارة عن وصول الحقيقة إلى القلب ، كما كان السيف موجودا، واليد موجودة، ولم يكن اسم القبض والأخذ حاصلا) بعد (لعدم وقوع السيف في اليد) ، ولقائل أن يقول: إن هذا تشبيه المعقول بالمحسوس، وليس بين المشبه والمشبه به مناسبة تامة فلم يتفقا ، فأشار إلى ذلك بقوله (نعم القبض عبارة عن حصول السيف بعينه في اليد ، والمعلوم بعينه لا يحصل في القلب، فمن علم النار لم يحصل عين النار في قلبه ، ولكن الحاصل حدها وحقيقتها المطابق لصورتها) بأنها جسم محرق (فتمثيله بالمرآة أولى؛ لأن عين الإنسان لا تحصل في المرآة، وإنما يحصل مثال مطابق له ، وكذلك حصول مطابق لحقيقة المعلوم في القلب يسمى علما ، وكما أن المرآة لا تنكشف فيها الصور) أي: صور الأشخاص (لخمسة أمور:

أحدها: نقصان صورتها لجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل) يعني به مرآة الهندوان .

(والثاني لخبثه وصدئه وكدورته) فإن من شأن الحديد ذلك (وإن كان تام الشكل) وهذان منتفيان في مرآة الزجاج إذا لصق بظهره الزئبق ، فإنه حينئذ لا يحتاج إلى تدويرها وصقلها ولا يركبها الصدأ أو الكدر .

(والثالث: لكونه معدولا به عن جهة الصورة إلى غيرها، كما إذا كانت الصورة وراء المرآة) .

(والرابع: الحجاب المرسل بين المرآة والصورة .

والخامس: للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذي بها) أي: يقابل (شطر الصورة وجهتها، فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن تتجلى فيها حقيقة الحق في الأمور كلها ، وإنما خلت القلوب عن العلوم التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة ، أولها: نقصان في ذاته كقلب الصبي؛ فإنه لا تتجلى له المعلومات لنقصانه. والثاني: لكدورة المعاصي والخبث الذي تراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات ، فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه ، فيمنع ظهور الحق فيه بقدر ظلمته وتراكمه) فإن الحق نور والشهوة ظلمة وهما ضدان ، (وإليه الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: من قارف ذنبا) أي: أصاب وارتكب (فارقه عقل لا يعود إليه أبدا) قال العراقي : لم أر له أصلا اهـ .

(أي حصل في قلبه كدورة لا يزول أثرها أبدا ، إذ غايته لن يتبعه بحسنة يمحوه بها ، فلو جاء بالحسنة ولم تتقدم السيئة لزاد لا محالة إشراق القلب ، فلما تقدمت السيئة سقطت فائدة الحسنة، لكن عاد القلب بها إلى ما كان قبل السيئة ، ولم يزد بها نورا ، وهذا خسران ونقصان لا حيلة له) أخرج الديلمي من طريق محمد بن سوقة عن الحارث عن علي مرفوعا: " من استوى يوماه فهو مغبون ، ومن كان آخر يوميه شرا فهو ملعون ، ومن لم يكن على الزيادة

[ ص: 232 ] فهو في النقصان ، فالموت خير له
" وإسناده ضعيف (فليس المرآة التي تدنس ثم تمسح بالمصقلة كالتي تمسح بالمصقلة لزيادة جلائها من غير دنس سابق ، والإقبال على طاعة الله والإعراض عن مقتضى الشهوات هو الذي يجلو القلب ويصفيه ، ولذلك قال تعالى: والذين جاهدوا فينا ) أي: نفوسهم وعدوهم الذي يأمرهم بالفحشاء والتفكر فصابروه وغلبوا نفوسهم بإماتتها ( لنهدينهم سبلنا ) أي: لنطرقنهم إلى مكاشفات العلوم ولنوصلنهم إلى أقرب الطريق إلينا بحسن مجاهدتهم فينا ، ثم ختم الأمر بقوله: وإن الله لمع المحسنين (وقال -صلى الله عليه وسلم- : من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم) رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس، وقد تقدم في كتاب العلم ، وأورده صاحب القوت ثم قال: أي معرفة الاختبار والاختيار والابتلاء والاجتباء والتعريف والتأديب والمثوبة والعقوبة والقبض والبسط والحل والعقد والجمع والتفرقة إلى غير ذلك من علوم المعارف ، بعد حسن التفقه عن معرفة المنقص والمزيد بصفاء القلب وصحة المواجيد ، وفسر بعض العلماء قوله تعالى: وإن الله لمع المحسنين فقال: هم الذين يعملون بما يعلمون قال: يوفقهم ويهديهم إلى ما لا يعلمون حتى يكونوا علماء حكماء ، ولأجل هذه المناسبة أورد المصنف هذا الحديث عقب الآية، وقال بعض السلف: هذه الآية نزلت في المتعبدين المنقطعين إلى الله عز وجل المستوحشين من الناس ، فيسوق الله إليهم من يعلمهم أو يلهمهم التوفيق والعصمة .

وقال بعض التابعين: من عمل بعشر ما يعلم علمه الله ما يجهل ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة ، ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار .

(الثالث: أن يكون معدولا به عن جهة الحقيقة المطلوبة ، فإن القلب المطيع الصالح وإن كان صائبا ، فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق؛ لأنه ليس يطلب الحق) أي: ليس بصدده (وليس يحاذى بمرآته شطر المطلوب، بل ربما يكون مستوعب الهم) مستغرق الفكر (بتفصيل الطاعات البدنية) إن كان فارغ البال (أو بتهيؤ أسباب المعيشة) له ولأهله (ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية) أسرارها (الإلهية فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وحقائق عيوب النفس إن كان متفكرا فيه ، أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها ، وإذا كان تقيد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات) التي تقرب إلى الله (مانعا عن انكشاف جلية الحق، فما ظنك في صرف الهم إلى شهوات الدنيا ولذاتها وعلائقها ، فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي) والحاصل أن تعلق القلب بغير الله، ولو كان في الطاعات الموصلة إليه مانع عن حصول انكشاف الحقائق كما هي لعدم التفاته إليه .

(الرابع: الحجاب فإن المطيع القاهر لشهواته) بمجاهدة نفسه (المتجرد للفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوبا عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد) والتلقي (والقبول بحسن الظن يحول ذلك بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقنه) أولا (من ظاهر التقليد ، وهذا أيضا حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب) المتبوعة حتى صارت قلوبهم بذلك التقليد مصمتة لا تسمع غير ما تقلده منذ صباوته (بل أكثر الصالحين) من عباده (المتفكرين في ملكوت السماوات والأرض؛ لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجابا بينهم وبين درك الحقائق) على ما هي عليها، وقد تقدم البحث عن ذلك في كتاب العلم .

(الخامس: الجهل بالجهة التي منه يقع العثور) أي: الاطلاع (على المطلوب ، فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم

[ ص: 233 ] التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبا مخصوصا يعرفه العلماء بطرق الاعتبار فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلي حقيقة المطلوب) وتنكشف (لقلبه؛ فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية) أي: مما يمكن حصوله من أصل الفطرة (لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة) عنده، (بل كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفان ويزدوجان على وجه مخصوص ، فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال ما يحصل من النتاج من ازدواج الفحل والأنثى، ثم) أي: هناك (كما أن من أراد أن يستنتج رمكة) محركة وهي الأنثى من البراذين (لم يمكنه ذلك من حمار وبقرة وإنسان ، بل من أصل مخصوص هو الفرس الذكر والأنثى ، وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص ، فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان وبينهما طريق) خاص (في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب والجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم) للأكثرين (ومثاله: ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها، بل مثاله أن يريد الإنسان مثلا أن يرى قفاه في المرآة، فإنه إن رفع المرآة بإزاء وجهه) أي: في مقابلته (لم يكن قد حاذى بها) أي: قابل (شطر القفا) أي: في جهته (فلا يظهر فيها القفا) لعدم المقابلة (وإن رفعها وراء القفا وبإزائه كان قد عدل بالمرآة عن عينه فلا يرى المرآة ولا صورة القفا فيها) فإن العين هي التي تبصر (فيحتاج إلى مرآة أخرى ينصبها وراء القفا وهذه) المرآة (في مقابلته بحيث يبصرها ويرعى مناسبة بين وضع المرآتين حتى تنطبع صورة القفا في المرآة المحاذية، ثم تنطبع صورة هذه في المرآة الأخرى التي في مقابلة العين ، ثم تدرك العين صورة القفا ، فكذلك في اقتناص العلوم طرق عجيبة فيها ازورارات وتحريفات أعجب مما ذكرناه في المرآة ويعز على بسيط الأرض) أي: يندر وجود (من يهتدي إلى كيفية الحيلة في تلك الازورارات) والتحريفات، (فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب عن معرفة حقائق الأمور وإلا فكل قلب هو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق؛ لأنه أمر رباني شريف) إذ هو عبارة عن تلك اللطيفة، وهو جوهر لطيف (فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف) وهي الصلوح لمعرفة الحقائق (وإليه الإشارة بقوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ) إنه كان ظلوما جهولا ففيه (إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السماوات والأرض والجبال بها صار مطيقا) أي: قادرا (لحمل أمانة الله تعالى، وتلك الأمانة) اختلف فيها على أقوال منها (هي المعرفة) للحقائق كما هي، (والتوحيد) لله تعالى الباري عن الحلول والاتحاد والإيجاد (وقلب كل آدمي مستعد لحمل الأمانة ومطيق لها في الأصل) أي: في أصل فطرته (ولكن يثبطه) أي: يؤخره (عن النهوض) أي: القيام (بأعبائها) أي: أثقالها (والوصول إلى تحقيقها الأسباب) المانعة التي ذكرناها (ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- : " كل مولود) من بني آدم (يولد على الفطرة") اللام للعهد، والمعهود فطرة الله التي فطر الناس عليها ، أي: الخلقة التي خلق الناس عليها من الاستعداد لقبول الدين والتهيؤ للتمييز بين الخطأ والصواب ، (وإنما أبواه) والداه

[ ص: 234 ] هما اللذان (يهودانه) أي: يصيرانه يهوديا بأن يدخلاه في دين اليهودية المحرف المبدل (وينصرانه) أي: يصيرانه نصرانيا (ويمجسانه) أي: يدخلانه في دين المجوسية كذلك بأن يصداه عما ولد عليه ، ويزينان له الملة المبدلة والنحل الزائغة ، ولا ينافيه لا تبديل لخلق الله ؛ لأن المراد به لا ينبغي أن تبدل تلك الفطرة التي من شأنها أن لا تبدل أو هو خبر بمعنى النهي. قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي هريرة اهـ .

قلت: رواه البخاري بلفظ المصنف إلا أنه قال: " فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " وزاد: " كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها من جدعاء؟" .

ولفظ مسلم: " كل إنسان تلده أمه على الفطرة فأبواه بعد يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، فإن كانا مسلمين فمسلم " الحديث. وقد رواه الترمذي وقال: حسن صحيح بلفظ: " كل مولود يولد على الملة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه ويشركانه. قيل: يا رسول الله ، فإن هلك قبل ذلك قال: الله أعلم بما كانوا عاملين " وفي الباب عن الأسود بن سريع ، وعن جابر ، وعن أنس ، فحديث أنس أخرجه أبو يعلى والبغوي والباوردي والطبراني في الكبير والبيهقي بلفظ: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ". وحديث جابر أخرجه أحمد والضياء في المختارة بلفظ أبي يعلى إلا أنه قال بعد قوله: " لسانه " : " فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا أو كفورا" . وأما حديث أنس فأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بلفظ: " كل مولود يولد من ولد كافر أو مسلم ، فإنما يولد على الفطرة على الإسلام كلهم ، ولكن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فهودتهم ونصرتهم ومجستهم وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا " .

(وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء") تقدم قريبا في كتاب الصوم (إشارة إلى بعض هذه الأسباب التي هي الحجاب بين القلب وبين الملكوت) ، وقد تقدم الكلام في ذلك في كتاب الصوم (وإليه الإشارة بما روي عن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال: قيل: يا رسول الله ، أين الله في الأرض؟ قال: " في قلوب عباده المؤمنين") هكذا هو في القوت ، وقال العراقي : لم أجده بهذا اللفظ ، وللطبراني من حديث أبي عتبة الخولاني مرفوعا: " إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين". الحديث، وقد تقدم قريبا (وفي الخبر: قال الله تعالى: " لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن") وفي لفظ زيادة (اللين الوادع) أي: الساكن المطمئن ، هكذا هو في القوت ، والرسالة للقشيري ، والمشهور: " ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن" وقال العراقي : لم أجد له أصلا. وفي حديث أبي عتبة قبله عند الطبراني بعد قوله: " وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين ، وأحبها إليه ألينها وأرقها" اهـ .

قلت: وسبقه ابن تيمية الحافظ فقال: هو مذكور في الإسرائيليات، وليس له إسناد معروف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعناه: وسع قلبه الإيمان بي ومحبتي ومعرفتي وإلا فمن قال: إن الله يحل في قلوب الناس فهو أكفر من النصارى الذين خصوا ذلك بالمسيح وحده اهـ .

وفي المقاصد للحافظ السخاوي ما نصه: ورأيت بخط الزركشي سمعت بعض أهل العلم يقول: هذا باطل، وهو من وضع بعض الملاحدة ، وأكثر ما يرويه المتكلم على رؤوس العوام علي بن وفا لمقاصد يقصدها، ويقول عند الوجد والرقص طوفوا ببيت ربكم اهـ .

قلت: وهذا من الزركشي تحامل على الصوفية الذين هم من خواص خلق الله تعالى ، ويعني بالمتكلم المذكور القطب أبا الحسن علي بن وفا الشاذلي قدس سره جد السادة الوفائية ، وناهيك به جلالة وقدرا، قد خصه الله بالفيوضات والكشوفات ما لو فتح للزركشي عين قلبه لرأى جلية الحق وتحققت له الحقائق ، ولكنه محجوب بما تلقفه من مشايخه مجبول على ربقة التقليد ، وإن كان هو علم من ربه وما كنت أرى له أن يتكلم بما قال، كيف وقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد بسنده عن وهب بن منبه قال: إن الله فتح السماوات لحزقيل حتى نظر إلى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما أعظمك يا رب! فقال الله: إن السماوات والأرض ضعفن عن أن يسعنني ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين. وإلى هذا أشار ابن تيمية بقوله. مذكور في الإسرائيليات ، ويشهد لصحة معناه حديث أبي عتبة الخولاني المار ذكره قريبا عن الطبراني ، وهذا القدر يكفي للصوفي ولا يعترض عليه إذا عزاه إلى

[ ص: 235 ] حضرة الرسالة والإنصاف من أوصاف المؤمنين، ولا اعتراض على قول القطب عند الوجد: طوفوا ببيت ربكم فإن القلب بيت الرب ، وليس يعني به هذه المضغة الصنوبرية، بل اللطيفة النورانية، تأمل .

(وفي الخبر أنه قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خير الناس؟ فقال: " كل مؤمن مخموم القلب" فقيل : وما مخموم القلب؟ فقال: "هو التقي النقي الذي لا غش فيه، ولا بغي ولا غل ولا حسد") هكذا أورده صاحب القوت، وقال العراقي : رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر بإسناد جيد اهـ .

قلت: لفظ ابن ماجه : " خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق" قيل: قد عرفنا اللسان الصادق، فما القلب المخموم؟ قال: " هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد " قيل: فمن على أثره؟ قال: " الذي يشنأ ويحب الآخرة" قيل: فمن على أثره؟ قال: " مؤمن في خلق حسن " وقد رواه كذلك الحكيم الترمذي في النودار والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب ، ورواه أحمد في الزهد عن أسد بن وداعة مرسلا .

(ولذلك قال عمر) بن الخطاب رضي الله عنه: (رأى قلبي ربي، إذ كان قد رفع الحجاب) بينه وبين قلبه (بالتقوى) ومزيد الإيمان وقوته بما أورثه سعة المشاهدة ، (ومن ارتفع الحجاب بينه وبين قلبه تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه) فالملك عالم الشهادة ، والملكوت عالم الباطن (فيرى) بعين بصيرته (جنة عرض بعضها السماوات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض؛ لأن السماوات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة ، وهو وإن كان واسع الأطراف متباعد الأكناف) أي: النواحي (فهو متناه على الجملة ، وأما عالم الملكوت وهو الأسرار الغائبة عن مشاهدة الإبصار المخصوص بإدراك البصائر) لاختصاصه بأرواح النفوس (فلا نهاية له) لسعته ، وعالم الشهادة بالنسبة إلى عالم الملكوت كالقشرة بالنسبة إلى اللب ، وكالصورة والقالب بالنسبة إلى الروح ، وكالظلمة بالنسبة إلى النور ، وكالسفل بالنسبة إلى العلو ، ولذلك يسمى عالم الملكوت العالم العلوي والعالم الروحاني والعالم النوراني ، وفي مقابلته العالم السفلي والجسماني والظلماني. (نعم الذي يلوح للقلب منه مقدار متناه، ولكنه في نفسه وبالإضافة إلى علم الله لا نهاية له) كما لا نهاية لمعلوماته ، (وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذت دفعة واحدة تسمى الحضرة الربوبية) وحضرة الإلهية غير حضرة الملك وغير حضرة الربوبية ، ولذلك أمر بالعياذ بجميع الحضرات فقال: قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس وتمييز حضرة الملك من حضرة الربوبية يستدعي شرحا طويلا ، ولكل من حضرات الإلهية الخمس عوالم ، فحضرة الشهادة عالمها عالم الملك ، وحضرة الغيب المضاف عالمها عالم الملكوت ، وعالم الملك مظهر عالم الملكوت ، ولا يكون العبد ملكوتيا إلا وتبدل في حقه الأرض غير الأرض والسماوات ، ويصير كل ما هو داخل تحت الحس والخيال أرضه ، ومن جملتها السماوات وكل ما ارتفع عن الحس سماؤه، وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره إلى قرب الحضرة الربوبية ؛ (لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات؛ إذ ليس في الوجود شيء سوى الله وأفعاله ومملكته وعبيده من أفعاله) . وفي بعض النسخ: ومملكته من عبيده وأفعاله. وقد اتفق العارفون على ذلك فهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق وأفعاله ، لكن منهم من كان له هذا الحال عرفانا علميا ، ومنهم من صار له ذلك ذوقا حاليا وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة ، واستوفيت فيها عقولهم ، فصاروا كالمبهوتين فيه ، ولم يبق منهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضا، فلم يكن عندهم إلا الله ، (فما يتجلى من ذلك للقلب هو الجنة بعينها عند قوم) من العارفين (وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق ويكون سعة ملكه في الجنة بسبب سعة معرفته) واتساع باعه في اليقين (وبمقدار ما تجلى له من الله وصفاته وأفعاله) وفي ذلك يتفاوتون على قدر مقاماتهم وسعة معرفتهم (وإنما مراد الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب وتزكيته وجلاؤه) قال الله تعالى: ( قد أفلح من زكاها ) أي: النفس وبتزكية النفس يحصل تزكية القلب ، وفي بعض النسخ ، وقد أفلح من زكاه أي القلب ، (ومراد تزكيته حصول أنوار الإيمان فيه. أعني إشراق نور المعرفة) بالله فيترقى من الحضيض إلى أوج الحقيقة ، فيرى بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله

[ ص: 236 ] وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، ونصيب كل عبد من ذلك بحسب قسمه من اليقين ، وقسمه من اليقين عن قربه من القريب جل وعلا ، وقربه على حسب قرب الله تعالى من قلبه بقدر علمه بالله ، واتساعه فيه على نحو مكانه من نور الإيمان ، ومزيد إيمانه على قدر إحسان الله إليه ، وإحسانه إليه على قدر عنايته به وإيثاره له، (وهو المراد بقوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) فالنور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر فظهرت له العلامات الدالة عليه من الإنابة والاستعداد للموت وغيرها كما سيأتي (وبقوله) تعالى: ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله (نعم هذا التجلي وهذا الإيمان ثلاث مراتب) .

اعلم أن التجلي يستدعي رفع الحجاب ، ومعرفة الحجاب وسببه وما يقابله ، فرفع الحجاب هو الانكشاف الحاصل للقلب بنور الإيمان ، وأما الحجاب فهو انتكاس القلب وانغلاقه وسببه الظلمة ، وأما ما يقابله فهو نور الإيمان ويندرج فيه نور العلم ونور الذوق ، والله سبحانه وتعالى يتجلى في ذاته بذاته لذاته ، ويكون الحجاب في الإضافة إلى محجوب لا محالة ، فالمحجوبون على أقسام ومراتب ، كما أن المؤمنين على أقسام ومراتب ، فمنهم من يحجب بمجرد الظلمة ، ومنهم من يحجب بالنور المحض ، ومنهم من يحجب بنور مقرون بظلمة ، ولكل هؤلاء أصناف لا يحصون كثرة. وأما الإيمان بالله فهو التصديق الجازم بوجوده أولا ، ثم بتقديسه عن سمات الحوادث ثانيا ، وبوحدانيته ثالثا ، وبصفاته رابعا ، وهذا التصديق له مراتب، ذكر المصنف منها ثلاثة. وهي في الحقيقة تسعة ، فإن كل مرتبة من المراتب الثلاثة منقسمة إلى ثلاثة ، واقتصر المصنف هنا على ثلاثة ؛ إذ هي الأصول ، وذكر في آخر كتابه " إلجام العوام " ستة وهي أقسام المرتبتين ، وأما المرتبة الثالثة فذكرها بأقسامها في كتابه " مشكاة الأنوار " وقد تبع هنا صاحب القوت حيث ذكر المراتب ثلاثة ، ونحن نذكر إن شاء الله تعالى خلاصة ذلك كله قال:

(المرتبة الأولى: إيمان العوام: وهو إيمان التقليد بالمحض) وفيها ثلاث مراتب:

الأولى: منها التصديق بوجود السماع ممن حسن فيه الاعتقاد بسبب كثرة ثناء الخلق ، فإن من حسن اعتقاده قد يخبر عن شيء فيسبق إليه اعتقاد جازم وتصديق بما أخبر عنه بحيث لا يبقى مجال لغيره في قلبه ، ومستنده حسن اعتقاده فيه ، وهذا كاعتقاد الصبيان في آبائهم ومعلميهم ، فإنهم يسمعون الاعتقادات ويصدقون ويستمرون عليه من غير حاجة إلى دليل ومحاجة .

المرتبة الثانية: من المرتبة الأولى التصديق الذي يسبق إليه العلم عند سماع الشيء مع قرائن الأحوال لا يفيد القطع منه المحقق ، ولكن يلقي في حق العوام اعتقادا جازما لا يخالجه ريب ولا يطالب دليلا .

المرتبة الثالثة: من المرتبة الأولى أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلاقه فيبادر إلى التصديق بمجرد موافقته لطبعه ، لا من حسن اعتقاد في قائله ، ولا من قرينة تشهد له ، لكن لمناسبة ما في طبعه. وهذه أضعف التصديقات وأدنى الدرجات ؛ لأن ما قبله استند إلى دليل ما ، وإن كان ضعيفا من قرينة أو حسن اعتقاد في المخبر فهي أمارات يظنها العامي أدلة فتعمل في حقه عمل الأدلة .

(والثانية: إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال) وفيها أيضا ثلاث مراتب:

الأولى: وهو أقصاها ما يحصل بالبرهان المستقصى المستوفي بشروطه المحرر بأصوله ومقدماته درجة درجة كلمة كلمة ، حتى لا يبقى مجال احتمال وممكن التباس ، وذلك هو الغاية القصوى .

الثانية: أن يحصل بالأدلة الرسمية الكلامية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها لاشتهارها بين أكابر العلماء وشناعة إنكارها ونفرة النفوس عن إبداء المزيد فيها ، وهذا الجنس أيضا يفيد في بعض الأمور في حق بعض الناس تصديقا جازما بحيث لا يتغير صاحبه بإمكان خلافه أصلا .

الثالثة: أن يحصل التصديق بالأدلة الخطابية التي جرت العادة باستعمالها في المحاورات والمخاطبات الجارية في العادات ، وذلك يفيد في حق الأكثرين تصديقا ببادئ الرأي وسابق الفهم إذا لم يكن الباطن مشحونا بتعصب ورسوخ اعتقاد على خلاف مقتضى الدليل .

(والثالثة: إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين) وفيها أيضا ثلاث مراتب:

الأولى: إيمانهم بأن كل ما سواه إذا اعتبرت ذاته فهو من حيث ذاته لا وجود له ، بل وجوده مستعار من غيره ولا قوام لوجوده

[ ص: 237 ] المستعار بنفسه بل بغيره ، ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض ، فإذا انكشف للعبد هذه الحقيقة بنور اليقين علم أنه ملك لمالكه على التفرد لا شريك له فيه أصلا .

الثانية: ترقوا من حضيض المجاز إلى أوج الحقيقة واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العينية أن ليس في الوجود إلا الله ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، لا أنه يصيرها لك في وقت من الأوقات ، بل هو هالك أزلا وأبدا ، لا يتصور إلا كذلك ، وأن كل شيء سواه إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض ، وإذا اعتبرت من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول رئي موجودا لا في ذاته ، لكن من الوجه الذي يلي موجده، فيكون الموجود وجه الله فقط ، ولكل شيء وجهان: وجه إلى نفسه ، ووجه إلى ربه ، فهو باعتبار وجه نفسه عدم ، وباعتبار وجه الله موجود ، فإذا لا موجود إلا الله ووجهه ، فإذا كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا ، ولم يفتقر هؤلاء لقيام القيامة ليسمعوا نداء الباري لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ، بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أبدا ، ولم يفهموا من معنى قوله: الله أكبر أنه أكبر من غيره ، حاشا لله إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه ، بل ليس لغيره رتبة المعية ، بل رتبة التبعية ، بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه ، فالوجود وجهه فقط ، فمحال أن يكون أكبر من وجهه ، بل معناه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة ، وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه نبيا كان أو ملكا ، بل لا يعرف كنه معرفته إلا الله تعالى .

الثالثة: بعدما عرجوا إلى سماء الحقيقة اتفقوا أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق ، لكن منهم من كان له هذا الحال عرفانا علميا ، ومنهم من صار له ذلك ذوقا حاليا ، وانتفت عنهم الكثرة بالكلية ، واستغرقوا بالفردانية المحضة ، واستوفيت فيها عقولهم ، فصاروا كالمبهوتين فيه ، ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضا ، فلم يكن عندهم إلا الله ، فسكروا سكرا وقع دون سلطان عقولهم ، فقال أحدهم: أنا الحق ، وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شأني ، وقال آخر: ما في الجبة إلا الله ، وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى ، فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في الأرض عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد، بل يشبه الاتحاد. وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة فناء بل فناء الفناء ، لأنه فني عن نفسه وفني عن فنائه ، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال، ولا بعدم شعوره بنفسه ، ولو شعر بعدم شعوره كأن قد يشعر بنفسه ، وتسمى هذه الحال بالنسبة إلى المستغرق به بلسان المجاز اتحادا ، وبلسان الحقيقة توحيدا .

وقال صاحب القوت: كل قلب اجتمع فيه ثلاث معان لم تفارقه خواطر اليقين ، ولكن يضعف الخاطر ويخفى لضعف المعاني ودقتها ، ويقوى اليقين ويظهر بقوتها ، لأن هذه الثلاث مكان اليقين. أحدها: الإيمان وموضعه من اليقين مكان حجر النار .

والثاني: العلم ومكانه موضع الزناد .

والثالث: العقل وهو مكان الحراق ، فإذا اجتمعت هذه الأسباب قدح خاطر اليقين في القلب .

ومثل القلب في قوته بقوة مدده ، وفي صفائه بجودة عدده مثل المصباح في القنديل، الماء مكان العقل منه ، والزيت موضع العلم به هو روح المصباح ، وبمدده يكون ظهور اليقين ، والفتيلة مكان الإيمان منه هو أصله وقوامه الذي يظهر بها ، فعلى قدر قوة الفتيلة وجودة جوهرها يقوى اليقين وهو مثل الإيمان في قوته بالورع وكماله بالخوف ، وعلى مقدار صفاء الزيت ورقته واتساعه تضيء النار التي من اليقين ، وهو مثل العلم في مدد الزهد ، وفقد الهواء فصار العلم مكانا للتوحيد ، فتمكن الموحد في التوحيد على قدر المكان ، فكلما اتسع القلب بالعلم بالله تعالى وزهد في الدنيا ازداد إيمانا وعلا ، لأنه يرى في علوه ما لا يراه غيره ، ويعلم في اتساعه ما لا يعلمه سواه ، فليكثر المؤمن به فيكون ذلك مزيد إيمانه وقوته ، ثم يشهد كل ما أمر به فيكون بذلك يقينه وسعة مشاهدته ، وكلما قصر علم القلب بالله سبحانه وتعالى بمعاني صفاته وأحكام ملكوته قلت المؤمنات فقل إيمان هذا العبد ، ثم أشهد ما آمن به من وراء حجاب لما غلب عليه من حب الأسباب وسمع الكلام من خلف يعجزه عن المسارعة إلى البر، فيضعف بذلك إيمانه ويختل مشاهدته، ولا يتحقق فليس من علم من قدر الله تعالى وصفاته وأحكامه وآياته مائة ألف معنى ، ثم شهدها كلها من قرب

[ ص: 238 ] عن كشف مثل من علم منها عشرة معان ، ثم شهدها من بعد عن حجاب، وهما مؤمنان معا، لكن بين إيمانهما في القرب والعلو والزيادة والنقصان، كما بين العشرة إلى مائة ألف ، فيكون إيمان قلب المسلم معشار عشر إيمان قلب الموقن ، والمعشار هو عشر العشر، جزء من مائة جزء ، ويكون إيمان قلب الموقن فيما بين ذلك من الزيادة على العشرة والنقصان عن مائة ألف على قدر قسمه .

(وتتبين لك هذه المراتب بمثال وهو أن تصديقك بكون زيد مثلا في الدار له ثلاث درجات:

الأولى: أن يخبرك به من جربته بالصدق ولم تعرفه بالكذب ولا تتهمه في القول ، فإن قلبك يسكن إليه ويطمئن به بمجرد السماع، وهذا هو الإيمان بمجرد التقليد) فإن من حسن اعتقاده في إنسان قد يخبر عن شيء كموت شخص وقدوم غائب وغيره ، فيسبق إليه اعتقاد جازم وتصديق بما أخبر عنه بحيث لا يبقى مجال لغيره في قلبه ، ومستنده حسن اعتقاده فيه ، فالمجرب بالصدق والورع والتقوى مثل الصديق رضي الله عنه إذا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكم من مصدق به جزما وقابل له قولا مطلقا .

(وهو مثل إيمان العوام فإنهم لما بلغوا سن التمييز سمعوا من آبائهم وأمهاتهم) ومشايخهم (وجود الله تعالى وعلمه وإرادته وقدرته وسائر صفاته وبعثة الرسول وصدقه و) صدق (ما جاء به ، وكما سمعوه) بادروا إلى التصديق (وقبلوه وثبتوا عليه واطمأنوا إليه، ولم يخطر ببالهم خلاف ما قالوه) ولم يخالجهم ريب وشك ولا مستند لقبولهم ذلك إلا (لحسن ظنهم) واعتقادهم (بآبائهم وأمهاتهم أو معلميهم) وقد يستمرون على ذلك من غير حاجة إلى دليل ومحاجة (وهذا الإيمان سبب النجاة) من عذاب الله (في الآخرة، وأهله من أوائل رتب أصحاب اليمين) المشار إليهم في قوله تعالى: وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين الآية ، (وليسوا من المقربين ؛ لأنه ليس فيه كشف بصيرة وانشراح صدر بنور اليقين ؛ إذ الخطأ ممكن فيما يسمع من الآحاد ، بل من الأعداد فيما يتعلق بالاعتقاد، وقلوب اليهود والنصارى أيضا مطمئنة بما سمعوه من آبائهم إلا أنهم اعتقدوا ما اعتقدوه خطأ ؛ لأنهم ألقي إليهم الخطأ والمسلمون اعتقدوا الحق لا لاطلاعهم عليه، ولكن ألقي إليهم كلمة الحق) وإنما قلنا: إن هذا الإيمان سبب النجاة في الآخرة ؛ لأن أكثر الناس آمنوا في الصبا ، وكان تصديقهم مجرد التقليد للآباء والمعلمين بحسن ظنهم بهم وكثرة ثنائهم على أنفسهم ، وثناء غيرهم عليهم ، وتشديدهم النكير بين أيديهم على مخالفيهم ، وحكايات أنواع النكال النازل لمن لا يعتقد اعتقادهم ، وقولهم : إن فلانا اليهودي مسخ في قبره كلبا وفلانا النصراني انقلب خنزيرا ، أو حكايات ومنامات وأحوال من هذا الجنس تنغرس به في نفوس الصبيان النفرة عنه ، والميل إلى ضده حتى ينزع الشك بالكلية من قلبه ، والتعلم في الصغر كالنقش على الحجر ما لم يقع تشويش عليه ، فلا يزال ذلك في نفسه ، فإذا بلغ استمر اعتقاده الجازم وتصديقه المحكم الذي لا يخالجه فيه ريب ، ولذلك ترى أولاد النصارى والروافض والمسلمين كلهم لا يبلغون إلا على عقائد آبائهم واعتقاداتهم في الحق والباطل جازمة، ولو قطعوا إربا إربا لما زاغوا أبدا عنها ، ولم يسمعوا عليها دليلا لا حقيقيا ولا رسميا ، وكذلك ترى العبيد والإماء يسبون من المعترك ولا يعرفون الإسلام ، فإذا وقعوا في أيدي المسلمين مدة ورأوا ميلهم إلى الإسلام مالوا معهم واعتقدوا اعتقادهم وتخلقوا بأخلاقهم ، كل ذلك مجرد التقليد والتشبيه بالغير ، فالطباع مجبولة على التشبيه ، لا سيما طباع الصبيان والشباب ، فبهذا يعرف أن التصديق الجازم غير موقوف على البحث وتحرير الأدلة .



(فصل)

ولعلك تقول لا أنكر وصول التصديق الجازم إلى قلوب العوام بهذه الأسباب ، ولكن ليس ذلك من المعرفة في شيء ، وقد كلف الناس المعرفة الحقيقية دون اعتقاد هو من جنس الجهل لا يتميز فيه الباطل عن الحق ، فالجواب: أن هذا غلط ممن ذهب إليه ، بل سعادة الخلق أن يعتقدوا الشيء بما هو عليه اعتقادا جازما لتنتقش قلوبهم بالصورة الموافقة لحقيقة الحق حتى إذا ماتوا انكشف لهم الغطاء فشاهدوا الأمور على ما اعتقدوها ولم يفتضحوا ولم يحترقوا بنار الخزي والخجلة أولا ، وبنار جهنم ثانيا ، وصورة الحق إذا انتقش به قلبه فلا نظر إلى السبب المفيد له أهو دليل حقيقي أم رسمي أم قناعي أو قبول عن الاعتقاد في قائله أو

[ ص: 239 ] قبول لمجرد التقليد من غير تسبيب؟ فليس المطلوب الدليل المفيد، بل الفائدة ، وهي حقيقة الحق على ما هو عليه فمن اعتقد حقيقة الحق في الله تعالى وفي صفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر على ما هو عليه ، فهو سعيد وإن لم يكن ذلك لدليل محرر كلامي ، فلم يكلف الله تعالى عباده إلا ذلك ، وذلك معلوم على الضرورة بجملة أخبار متواترة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في توارد الأعراب عليه وعرض الإيمان عليهم ، وقولهم ذلك وانصرافهم إلى رعاية الإبل والمواشي من غير تكليفه إياهم الفكر في المعجزة، ووجه دلالتها والفكر في حدوث العالم ، وإثبات الصانع في أدلة الوحدانية وسائر الصفات ، بل الأجلاف من العرب أكثرهم لو كلفوا لم يفهموه ولم يدركوه بعد طول المدة ، بل كان الواحد منهم يحلفه فيقول: آلله الله أرسلك رسولا؟ فيقول: والله الله أرسلني رسولا ، فكان يصدقه بيمينه وينصرف ، ويقول الآخر إذا قدم عليه ونظره: والله ما هذا وجه كذاب. وأمثال ذلك مما لا يحصى ، بل كان أسلم في غير غزوة واحدة في عصر أصحابه آلاف لا يفهم أكثرهم أدلة الكلام والتوحيد ، ومن كان يفهمه فإنه يحتاج إلى أنه يترك صنعته ويختلف إلى تعليمه مدة مديدة ، ولم ينقل قط شيء من ذلك ، فعلم علما ضروريا أن الله لم يكلف الخلق إلا الإيمان والتصديق الجازم بما قاله ، كيفما حصل التصديق ، نعم لا ينكر أن للعارف درجة على المقلد ، ولكن المقلد في الحق مؤمن كما أن العارف مؤمن ، فإن قيل: بما يميز المقلد بين نفسه وبين اليهودي المقلد؟ قلنا المقلد: لا يعرف التقليد ولا يعرف أنه مقلد، بل يعتقد في نفسه أنه محق عارف ، فلا يشك في معتقده ، ولا يحتاج مع نفسه إلى التمييز كقطعه بأن خصمه مبطل وهو محق ، ولعله أيضا مستظهر بقرائن وأدلة ظاهرة ، وإن كانت غير قوية، ويرى نفسه مخصوصا بها ومتميزا بسببها عن خصومه ، وإن كان اليهودي يعتقد في نفسه مثل ذلك فلا يشوش ذلك على المحق اعتقاده ، كما أن العارف الناظر يزعم أنه يميز نفسه عن اليهودي بالدليل، ودعواه ذلك لا يشكك الناظر العارف ، فكذلك لا يشكك المقلد القاطع ويكفيه الإيمان أن لا يشككه في اعتقاده معارضة المبطل كلامه بكلامه ، فهل رأيت عاميا قط اغتم وحزن من حيث يعسر عليه الفرق بين تقليده وتقليد اليهودي؟ بل لا يخطر ذلك ببال العوام ، وإن يخطر ببالهم أو شوفهوا به ضحكوا من قائله ، وقالوا: ما هذا الهذيان؟ وكأن بين الحق والباطل مساواة حتى لا يحتاج إلى فارق يفرق أنه على الباطل وأنا على الحق، وأنا متيقن لذلك غير شاك فيه ، وكيف أطلب الفرق حتى يكون الفرق معلوما قطعا من غير طلب ، فهذه حالة المقلدين من الفرقتين، وهذا إشكال لا يقع ليهودي مبطل لقطعه لمذهبه مع نفسه، فكيف يقع للمقلد المسلم الذي وافق اعتقاده ما هو الحق عند الله تعالى ، وظهر بهذا على القطع أن اعتقاداتهم جازمة، وأن الشرع لم يكلفهم إلا ذلك. والله أعلم .




الخدمات العلمية