الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل الصحو

قال صاحب المنازل : ( باب الصحو ) قال الله تعالى : حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير .

وجه استدلاله بإشارة الآية : أن الله سبحانه إذا تكلم بالوحي صعقت الملائكة ، وأخذهم شبه الغشي من تكلم الرب جل جلاله ، فإذا كشف الفزع عن قلوبهم ، وخلى عنها ، وأفاقوا من ذلك الغشي ، قال بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ فيستخبر كل أهل سماء من يليهم ، حتى ينتهي الأمر إلى أهل السماء السابعة ، فيسألون جبريل : يا جبريل ، ماذا قال ربنا ؟ فيقول : قال الحق . وهو العلي الكبير .

قال : الصحو : فوق السكر ، وهو يناسب مقام البسط ، والصحو : مقام صاعد عن الانتظار ، مغن عن الطلب ، طاهر من الحرج ، فإن السكر إنما هو في الحق ، والصحو إنما هو بالحق ، كل ما كان في عين الحق لم يخل من حيرة ، لا حيرة الشبهة ، بل حيرة مشاهدة نور العزة ، وما كان بالحق لم يخل من صحة . ولم تحف عليه نقيصة ، ولم تتعاوره علة .

والصحو : من منازل الحياة ، وأودية الجمع ، ولوائح الوجود .

قوله : " الصحو فوق السكر " يعني : أن السكر يكون في الانفصال . والصحو في [ ص: 296 ] الاتصال ، وأيضا فالسكر فناء ، والصحو بقاء .

وأيضا فالسكر غيبة والصحو حضور ، وأيضا فالسكر غلبة والصحو تمكن ، وأيضا فالسكر كالنوم والصحو كاليقظة .

وبعضهم يفضل مقام السكر على مقام الصحو ويقول : لولا البقية التي بقيت فيه لما صحا ، وينشد متمثلا :


ومهما بقى للصحو فيك بقية يجد نحوك اللاحي سبيلا إلى العذل

وهذا غلط محض ، لما ذكرنا . نعم السكر فوق الصحو الفارغ ، والسكران بالمحبة خير من الصاحي منها ، والصاحي بها خير من السكران فيها .

قوله : " وهو يناسب مقام البسط " وجه المناسبة بينهما ؛ أن الانبساط لا يكون إلا مع الصحو ، وإلا فالسكر لا يحتمل الانبساط .

قوله : " والصحو مقام صاعد عن الانتظار " يعني : انتظار الحضور فإن الصاحي متمكن في الحضور ؛ ولذلك أشبه مقامه مقام البسط ، فالصحو أعلى من أن يصحبه الانتظار ؛ لأن صاحبه قد اتصل ، فهو لا ينتظر الاتصال ، ولذلك قال : مغن عن الطلب ، فإن الطالب إنما يطلب الوصول إلى مطلوبه ، وهذا قد اتصل ، فصحوه مغن له عن طلبه .

وهذا الكلام ليس على إطلاقه ، فإن الطلب لا يفارق العبد ما دامت الحياة تصحبه ، نعم ؛ صحوه مغن عن طلب حظ من حظوظه ، وأما طلب محاب محبوبه ومراضيه فهو أكمل ما يكون لها طلبا .

فإن قيل : إن مراد الشيخ : أنه مغن عن التوجه والسلوك ، فإنه واصل ، والسالك لا يزال في الطريق .

قلت : العبد لا يزال في الطريق حتى يلحق الله تعالى . قال الله تعالى : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهو الموت بإجماع أهل العلم كلهم . قال الحسن : لم يجعل الله لعباده المؤمنين أجلا دون الموت .

وتقسيم أبناء الآخرة إلى طالب وسالك وواصل صحيح باعتبار ، فاسد [ ص: 297 ] باعتبار ، فكأنهم جعلوا السير إلى الله تعالى بمنزلة السير إلى بيته ، فالناس ثلاثة : طالب للسفر ، ومسافر في الطريق ، وواصل إلى البيت .

وهذا موضع زلت فيه أقدام ، وضلت فيه أفهام ، ولا بد من تحقيقه .

فنقول وبالله التوفيق ، ومنه الاستمداد وهو المستعان :

هذا المثال غير مطابق ، فإن الوصول إلى البيت هو غاية الطريق ، فإذا وصل فقد انقطعت طريقه ، وانتهى سفره ، وليس كذلك الوصول إلى الله ، فإن العبد إذا وصل إلى الله جذبه سيره ، وقوي سفره ، فعلامة الوصول إلى الله : الجد في السير ، والاجتهاد في السفر ، وهذا الموضع هو مفرق الطريقين بين الموحدين والملحدين ، فالملحد يقول : السفر وسيلة ، والاشتغال بالوسيلة بعد الوصول إلى الغاية بطالة ، ومتى وصل العبد سقطت عنه أحكام السفر ، وصار كما قيل :


فألقت عصاها واستقر بها النوى     كما قر عينا بالإياب المسافر

ودعي بعض هؤلاء إلى الصلاة ، وقد أقيمت ، فقال :


يطالب بالأوراد من كان غافلا     فكيف بقلب كل أوقاته ورد

وقيل لملحد آخر منهم : ألا تصلي ؟ فقال : أنتم مع أورادكم ، ونحن مع وارداتنا ، وهؤلاء هم الذين صاح بهم أئمة الطريق ، وأخرجوهم من دائرة الإسلام ، وقال بعضهم : نعم وصلوا ولكن إلى الشيطان لا إلى الرحمن ، وقال آخر : وصلوا ولكن إلى سقر .

فكل واصل إلى الله : فهو طالب له ، وسالك في طريق مرضاته .

نعم ؛ بداية الأمر الطلب ، وتوسطه السلوك ، ونهايته الوصول ، وسيأتي بيان حقيقة الوصول الذي يشير إليه القوم في الباب الذي يلي هذا ، إن شاء الله تعالى .

والمقصود : أن قوله : " مغن عن الطلب " كلام يحتاج إلى تأويل ، وحمل على معنى يصح ، فإما أن يحمل على أنه مغن عن تكلف الطلب ، فلا يريد هذا على هذا المعنى .

وإما أن يحمل على أنه مغن عن رؤيته ، وهذا أقرب ، ولكن لا يريده .

وإما أن يحمل على أنه قد وصل إلى مشاهدة الأولية ، حيث تنطوي الأكوان والأسباب ، ولا يبقى للطلب تأثير ألبتة ، فإنه من عين الجود ، وحصول المطلوب لم يكن موقوفا عليه ولا به ، وإنما هو ممن وجود كل شيء به وحده ، فهو الموجد والمعد [ ص: 298 ] والممد ، وبيده الأسباب وسببيتها وقواها وموانعها ومعارضها ، فالأمر كله له وبه ، ومصيره إليه ، فهذا معنى صحيح في نفسه ، ولكن صاحب هذا المقام لا يستغني عن الطلب .

قوله : " طاهر من الحرج " أي : خال منه ، لا حرج عليه ؛ لأنه قائم بوظائف العبودية في سكره وصحوه .

قوله : " فإن السكر إنما هو في الحق ، والصحو إنما هو بالحق " .

يريد : أن السكر إنما هو في محبته والشوق إليه ، فقلبه مستغرق في الحب ، والصحو إنما هو بالحق ؛ أي : بوجوده ، وهذا كلام يحتاج إلى شرح وبيان وعبارة وافية ، فنقول والله المستعان :

المحب له حالتان : حالة استغراق في محبة محبوبه ، كاستغراق صاحب السكر في سكره ، وذلك عند استغراقه في شهود جماله وكماله ، فلا يبقى فيه متسع لسواه ، ولا فضل لغيره ، فإذا رآه من لم يعرف حاله : ظنه سكرا ، فهذا استغراق في محبوبه وصفاته ونعوته .

الحالة الثانية : حالة صحو ، يفيق فيها على عبوديته والقيام بمرضاته ، كالمسارعة إلى محابه ، فهو في هذا الحال به ؛ أي : متصرف في أوامره ومحابه به ، ليس غائبا عنه بأوامره ، ولا غائبا به عن أوامره ، فلا يشغله واجب أو أمر وحقوقه عن واجب محبته ، والإنابة إليه ، والرضا به ، ولا يشغله واجب حبه عن أوامره ، بل هو مقتد بإمام الحنفاء إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه كان في أعلى مقامات المحبة وهي الخلة ولم يشغله ذلك عن القيام بخصال الفطرة من الختان ، وقص الشارب ، وتقليم الأظافر ، فضلا عما هو فوق ذلك ، فوفى المقامين حقهما ، ولهذا أثنى الله عليه بذلك ، فقال : وإبراهيم الذي وفى .

قوله : وكلما كان في عين الحق لم يخل من حيرة .

يريد بذلك : تفضيل مقام الصحو على مقام السكر ، ورفعه عليه ، وأن السكر لما كان في عين الحق كان مستلزما لنوع من الحيرة ، ثم استدرك فقال : " لا حيرة الشبهة " فإنها تنافي أصل عقد الإيمان ، " ولكن حيرة مشاهدة أنوار العزة " وهي دهشة تعتري الشاهد لأمر عظيم جدا ، لا عهد له بمثله ، بخلاف مقام " الصحو " فإنه لقوته [ ص: 299 ] وثباته وتمكنه لا يعرض له ذلك .

وحاصل كلامه : أن من كان ناظرا في عين الحقيقة لزمته الحيرة ، وهي حيرة مشاهدة أنوار العزة ، لا حيرة من ضل عن طريق مقصوده ، فإن الشبهة هي اشتباه الطريق على السالك ، بحيث لا يدري أعلى حق هو أم على باطل ؟ وقد تقدم بيان أن مشاهدة نور الذات المقدسة في هذه الدار محال ، فلا نعيده .

قوله : وما كان بالحق لم يخل من صحة ، ولم تحف عليه نقيصة ، ولم تتعاوره علة ، هذا تقرير منه لرفع مقام الصحو على مقام السكر فإنه لما كان بالله كان محفوظا محروسا من النفس والشيطان اللذين هما مصدر كل باطل ، وهذا الحفظ هو معنى قوله " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها " فأين الباطل هاهنا ؟ ثم قال : " فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي " تحقيقا لحفظ سمعه وبصره وبطشه ومشيه .

قوله : " ولم تتعاوره علة " التعاور : الاختلاف ؛ أي : لم تتخالف عليه العلل ، والعلل ملاحظة الأغيار ، وطاعة القلب للسوى ، وإجابته لداعيه .

قوله : " والصحو من منازل الحياة ، وأودية الجمع ، ولوائح الوجود " هذا تقرير أيضا لرفع مقامه على مقام السكر ، وقد تقدم ذكر الحياة ومراتبها وأقسامها .

والمناسبة بين الصحو والحياة : أن الحياة هي المصححة لجميع المقامات والأحوال ، فهي التي ترمي على جميعها كما ترمي الأودية أمواهها على البحار .

قوله : " وأودية الجمع " الجمع يراد به جمع الوجود ، وجمع الشهود ، وجمع الإرادة ، فالأول : جمع أهل الإلحاد الاتحادية . والثاني : جمع أهل الفناء . والثالث : جمع الرسل وورثتهم ، كما سيأتي تفصيل ذلك في باب الجمع إن شاء الله تعالى ، فالصحو من أودية الجمع العالي لا النازل ولا المتوسط .

قوله : " ولوائح الوجود " اللوائح جمع لائحة ، وهي ما يلوح لك كالبرق وغيره ، وسيأتي الكلام على الوجود الذي الصحو من لوائحه في بابه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية