الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم هم أناس كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا نبي الله تعالى - صلى الله عليه وسلم - ويأمنوا قومهم، فأبى الله تعالى ذلك عليهم، قاله ابن عباس ومجاهد، وقيل: الآية في حق المنافقين كل ما ردوا إلى الفتنة أي: دعوا إلى الشرك - كما روي عن السدي - وقيل: إلى قتال المسلمين أركسوا فيها أي: قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه.

                                                                                                                                                                                                                                      يروى عن ابن عباس أنه كان الرجل يقول له قومه: بماذا آمنت؟ بهذا القرد والعقرب والخنفساء فإن لم يعتزلوكم بالكف عن التعرض لكم بوجه ما ويلقوا إليكم السلم أي: ولم يلقوا إليكم الصلح والمهادنة ويكفوا أيديهم أي: ولم يكفوا أنفسهم عن قتالكم.

                                                                                                                                                                                                                                      فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم أي: وجدتموهم وأصبتموهم، أو حيث تمكنتم منهم، وعن بعض المحققين: إن هذه الآية مقابلة للآية الأولى، وبينهما تقابل إما بالإيجاب والسلب وإما بالعدم والملكة؛ لأن إحداهما عدمية والأخرى وجودية، وليس بينهما تقابل التضاد ولا تقابل التضايف؛ لأنهما على ما قرروا لا يوجدان إلا بين أمرين وجوديين، فقوله سبحانه: فإن لم يعتزلوكم مقابل لقوله تعالى: فإن اعتزلوكم وقوله جل وعلا: ويلقوا مقابل لقوله عز شأنه: وألقوا وقوله جل جلاله: ويكفوا مقابل لقوله عز من قائل: فلم يقاتلوكم والواو لا تقتضي الترتيب، فالمقدم مركب من ثلاثة أجزاء في الآيتين، وهي في الآية الأولى الاعتزال وعدم القتال وإلقاء السلم، فبهذه الأجزاء تم الشرط، وجزاؤه عدم التعرض لهم بالأخذ والقتل كما يشير إليه قوله تعالى: فما جعل الله لكم عليهم سبيلا وفي الآية الثانية عدم الاعتزال وعدم إلقاء السلم وعدم الكف عن القتال، فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط، وجزاؤه الأخذ والقتل المصرح به بقوله سبحانه: فخذوهم واقتلوهم).

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا يعلم أن (ويكفوا) بمعنى (لم يكفوا) عطف على المنفي لا على النفي بقرينة سقوط النون الذي هو علامة الجزم، وعطفه على النفي والجزم بـ(أن) الشرطية لا يصح؛ لأنه يستلزم التناقض؛ لأن معنى فإن لم يعتزلوكم إن لم [ ص: 112 ] يكفوا، وإذا عطف و(يكفوا) على النفي يلزم اجتماع عدم الكف والكف، وكلام الله تعالى منزه عنه، وكذا لا يصح كون قوله سبحانه: و(يكفوا) جملة حالية، أو استئنافية بيانية، أو نحوية، لاستلزام كل منهما التناقض، مع أنه يقتضي ثبوت النون في (يكفوا) على ما هو المعهود في مثله، وأبو حيان جعل الجزاء في الأول مرتبا على شيئين، وفي الثانية على ثلاثة، والسر في ذلك الإشارة إلى مزيد خباثة هؤلاء الآخرين، وكلام العلامة البيضاوي - بيض الله تعالى غرة أحواله - في هذا المقام لا يخلو عن تعقيد، وربما لا يوجد له محمل صحيح إلا بعد عناية وتكلف، فتأمل جدا وأولئكم الموصوفون بما ذكر من الصفات الشنيعة.

                                                                                                                                                                                                                                      جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا أي: حجة واضحة فيما أمرناكم به في حقهم لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وخباثتهم، أو تسلطا لا خفاء فيه حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية