الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الآفة التاسعة الغناء والشعر .

وقد ذكرنا في كتاب السماع ما يحرم من الغناء وما يحل فلا نعيده وأما الشعر فكلام ، حسنه حسن ، وقبيحه قبيح إلا أن التجرد له مذموم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا وعن مسروق أنه سئل عن بيت من الشعر ، فكرهه فقيل له في ذلك ، فقال : أنا أكره أن يوجد في صحيفتي شعر وسئل بعضهم عن شيء من الشعر فقال أجعل : مكان هذا ذكرا ، فإن ذكر الله خير من الشعر وعلى الجملة ، فإنشاد الشعر ونظمه ليس بحرام إذا لم يكن فيه كلام مستكره قال صلى الله عليه وسلم : إن من الشعر لحكمة نعم مقصود الشعر المدح والذم والتشبيب وقد يدخله الكذب وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت الأنصاري بهجاء الكفار والتوسع في المدح فإنه وإن كان كذبا ، فإنه لا يلتحق في التحريم بالكذب ، كقول الشاعر .


ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله

فإن هذا عبارة عن الوصف بنهاية السخاء ، فإن لم يكن صاحبه سخيا ، كان كاذبا وإن كان سخيا فالمبالغة من ، صنعة الشعر فلا ، يقصد منه أن يعتقد صورته وقد أنشدت أبيات بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تتبعت لوجد فيها مثل ذلك فلم يمنع منه قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ، وكنت جالسة أغزل ، فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نورا قالت ، فبهت ، فنظر إلي فقال: ما لك؟ : بهت ؟ فقلت : يا رسول الله ، نظرت إليك فجعل جبينك يعرق ، وجعل عرقك يتولد نورا ، ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره ، قال وما يقول يا عائشة أبو كبير الهذلي ؟ قلت : يقول هذين البيتين .

ومبرأ :

من كل غبر حيضة     وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه     برقت كبرق العارض المتهلل

قال : فوضع صلى الله عليه وسلم ما كان بيده وقام إلي وقبل ما بين عيني وقال : جزاك الله خيرا يا عائشة ، ما سررت مني كسروري منك .

ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين أمر للعباس بن مرداس بأربع قلائص فاندفع يشكو في شعر له وفي آخره .


وما كان بدر ولا حابس     يسودان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما     ومن تضع اليوم لا يرفع

فقال صلى الله عليه وسلم : اقطعوا عني لسانه . فذهب به أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى اختار مائة من الإبل ثم رجع وهو من أرضى الناس ، فقال له صلى الله عليه وسلم : أتقول في الشعر ؟ فجعل يعتذر إليه ويقول : بأبي أنت وأمي ؛ إني لأجد للشعر دبيبا على لساني كدبيب النمل ، ثم يقرصني كما يقرص النمل ، فلا أجد بدا من قول الشعر . فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال : لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين .

التالي السابق


( الآفة التاسعة الغناء )

هو رفع الصوت بالتطريب والإيقاع، (والشعر، وقد ذكرنا في كتاب السماع ما يحرم من الغناء وما يحل) مفصلا، (فلا نعيده) ثانيا، (وأما الشعر فكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح ) ، رواه البخاري في الأدب المفرد، والطبراني في الأوسط، من حديث عبد الله بن عمرو ، ورواه أبو يعلى من حديث عائشة بلفظ: "الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام" ، وقد تقدم القول في ذلك مفصلا .

(إلا أن التجرد له) بحيث يهتم له، ويعنى به حتى ينسب إليه (مذموم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأن يمتلئ بطن) وفي لفظ: جوف (أحدكم) يحتمل أن المراد الجوف كله، وما فيه من القلب وغيره، وأن يراد القلب خاصة، وهو الظاهر؛ لقول الأطباء: إذا وصل القلب شيء من قيح حصل الموت، (قيحا) أي: مدة لا يخالطها دم، (حتى يريه) بفتح المثناة التحتية من الوري، مثل الرمي، غير مهموز، أي: حتى يغلبه، حتى يشغله عن ذكر الله، أو حتى يفسده، قال الزمخشري : وري الداء جوفه يريه: أفسده، ولفظ البخاري بإسقاط "حتى"، وعليه ضبط "يريه" بإسكان ثالثه، قال ابن الجوزي : وكان جماعة من المبتدئين ينصبون "يريه" هنا جريا على العادة في قراءة الحديث الذي فيه "حتى"، وليس هنا ما ينصب، وتعقبه الزركشي بأن الأصيلي رواه بالنصب على بدل الفعل من الفعل، (خير) له (من أن يمتلئ شعرا) ، أنشأه أو أنشده؛ لما يؤول إليه أمره من تشاغله عن عبادة ربه، والمراد بالشعر ما يتضمن تشبيبا أو هجاء أو مفاخرة، كما هو الغالب في أشعار الجاهليين، وقال بعضهم: قوله "شعرا" ظاهره العموم في كل شعر، لكنه مخصوص بما لم يشتمل على الذكر والزهد والمواعظ والرقائق مما لا إفراط فيه. وقال النووي : هذا الحديث محمول على التجرد للشعر ، بحيث يغلب عليه، فيشغله عن القرآن والذكر، وقال القرطبي: من غلب عليه الشعر لزمه بحكم العادة الأدبية الأوصاف المذمومة، وعليه يحمل الحديث، وقول بعضهم: عنى به الشعر الذي هجي به هو أو غيره؛ رد بأن هجوه كفر، كثر أو قل، وهجو غيره حرام وإن قل؛ فلا يكون لتخصيص الذم بالكثير معنى. قال العراقي : رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، واتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة نحوه، والبخاري من حديث ابن عمر ، ومسلم من حديث أبي سعيد . اهـ .

قلت: وعند مسلم زيادة قبل الحديث، قال أبو سعيد : "بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال: "خذوا الشيطان، أو: أمسكوا الشيطان" ، ثم ذكره. ورواه أحمد من حديث ابن عمر ، ومن حديث أبي سعيد ، ورواه الطيالسي والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص ، ورواه الطبراني في الكبير من حديث أبي الدرداء ، ورواه ابن جرير ، وصححه، وأبو عوانة ، والطحاوي ، وتمام ، والضياء ، من حديث عمر بن الخطاب ، ولفظ حديث أبي هريرة عند الشيخين: "لأن يمتلئ جوف رجل قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا" . وكذلك رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، ورواه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص ، ورواه الطبراني في الكبير من حديث سلمان ، ومن حديث ابن عمر .

وروى ابن عدي في الكامل من حديث جابر بلفظ: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحا، أو دما، خير من أن يمتلئ شعرا مما هجيت به" .

وروى الطبراني في الكبير من حديث عون بن مالك بلفظ: "لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى لهاته قيحا يتخضخض، خير له من أن يمتلئ شعرا" . ورواه أيضا من حديث مالك بن عمير بلفظ: "لأن يمتلئ ما بين لبتك إلى عانتك قيحا خير [ ص: 494 ] من أن يمتلئ شعرا ، (وعن مسروق) بن الأجدع الهمداني التابعي الثقة، (أنه سئل عن بيت من الشعر، فكرهه) ، أي: كره إنشاده، (فقيل له في ذلك، فقال: أنا أكره أن يوجد في صحيفتي شعر) إذ ليس هو من صالح الأعمال .

أخرجه ابن أبي الدنيا عن حمزة بن العباس ، أنبأنا عبدان ، أخبرنا عبد الله أنبأنا سفيان عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق أنه سئل.. فذكره، (وسئل بعضهم عن الشعر فقال: اجعل مكان هذا ذكرا، فإن ذكر الله خير من الشعر) ، وكأنه خاف عن التجرد له؛ فيكون شاغلا له عن الذكر .

أخرجه ابن أبي الدنيا عن علي بن أبي مريم ، عن حسين الجعفي ، حدثنا هلال أبو أيوب الصيرفي قال: سألت طلحة بن مصرف عن شيء من الشعر قال: اجعل مكان هذا ذكرا؛ فإن ذكر الله خير من الشعر .

(وعلى الجملة، فإنشاد الشعر ) لنفسه أو لغيره (ونظمه) أي: إنشاؤه (ليس بحرام إذا لم يكن فيه كلام مستكره) ، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينقل اللبن مع القوم في بناء المسجد وهو يقول:


هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر



أخرجه البخاري في قصة الهجرة من رواية عروة مرسلا، قال الزهري : ولم يبلغنا في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم أنشد بيت شعر تاما غير هذا البيت، وقد تقدم ذلك، وفي الصحيحين من حديث أنس ارتجازهم وهو صلى الله عليه وسلم معهم، وكذا إنشاد حسان كما عند مسلم من حديث عائشة ، وإنشاد ابن رواحة كما عند البخاري ، وإنشاد النابغة الجعدي كما في معجم البغوي والاستيعاب، وإنشاد بلال وهو محموم بالمدينة كما في الصحيحين من حديث عائشة ، وكان الصحابة يتناشدون الأشعار وهو صلى الله عليه وسلم يتبسم كما عند الترمذي من حديث جابر بن سمرة ، وإنشاد الشريد مئة قافية من قول أمية بن الصلت في كل ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "هيه"، كما عند مسلم ، وكل ذلك قد تقدم في كتاب السماع، فنفس الإنشاد والسماع جائزان بالإجماع، كيف وقد (قال صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر لحكمة ) تقدم في كتاب العلم، (نعم مقصود الشعر المدح والذم والتشبيب) بذكر القامة والخد والصدغ والخال، (وقد يدخله الكذب) أحيانا، (وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت الأنصاري ) رضي الله عنه (بهجاء الكفار) ، فقد روى الشيخان من حديث البراء أنه صلى الله عليه وسلم قال لحسان : اهجهم وجبريل معك . وفي لفظ: هاجهم .

وروى أبو داود والترمذي والحاكم من حديث عائشة ، كان صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ينافح، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر ، قال الترمذي : حسن صحيح، وقال الحاكم : صحيح الإسناد، وأخرجه البخاري تعليقا، وقد تقدم في كتاب السماع، (والتوسع في المدح وإن كان كذبا، فإنه لا يلتحق في التحريم بالكذب، كقول الشاعر) ، وهو المتنبي :


( ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله )



( فإن هذا عبارة عن الوصف بنهاية السخاء، فإن لم يكن صاحبه) الذي مدح به (سخيا، كان) القائل (كاذبا) في مدحه، (وإن كان سخيا، فله المبالغة في صنعة الشعر، ولا يقصد منه أن يعتقد صورته) ، وقد قيل: أعذب الشعر أكذبه. (وقد أنشدت أبيات بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تتبعت لوجد فيها مثل ذلك) من المبالغات، (فلم يمنع منه) ، فمن ذلك إنشاد كعب بن زهير بين يديه قصيدته اللامية، وفيها من التشبيب والمبالغات ما لا يخفى، ولم ينكر عليه ذلك، ومن ذلك (قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، وكنت جالسة أغزل، فنظرت) إليه فجعل جبينه يعرق، وجعل (عرقه يتولد نورا، فبهت، فنظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما لك بهت؟ فقلت: يا رسول الله، نظرت إليك فجعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نورا، ولو رآك أبو كبير الهذلي ) أحد شعراء هذيل ، واسمه ثابت بن عبد [ ص: 495 ] شمس، من بني كعب بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل (لعلم أنك أحق بشعره، قال) صلى الله عليه وسلم: (وما يقول أبو كبير الهذلي ؟ قلت: يقول:


ومبرإ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل
فإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل )



غبر الحيض كـ"سكر" بقاياه، وكانوا يزعمون أن المرأة إذا جومعت في غبر الحيض، وأراد الله تعالى بتكوين لولد جاء فاسدا، "وداء مغيل" من الغيلة، كانوا يزعمون أن المرضع إذا جومعت فسد لبنها، فإذا شربه الرضيع كان فاسدا، وأسرة الوجه خطوط ترى في الجبهة، والعارض: السحاب، والمتهلل: المترقرق ماء. (قالت: فوضع صلى الله عليه وسلم ما كان بيده) أي: من آلة الخصف، (وقام إلي وقبل ما بين عيني) فرحا وسرورا (وقال: جزاك الله خيرا يا عائشة ، ما سررت مني كسروري منك) .

أخرجه البيهقي في دلائل النبوة. (ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين ) بعد الانصراف منه، (أمر) بإعطائها للمؤلفة قلوبهم، فأمر (للعباس بن مرداس) السلمي، وكان مطاع قومه (بأربع قلائص) أي: النوق، فاستقلها، (فاندفع في شعره يقول) :


( أتجعل نهبي ونهب العبيـ ـد بين عيينة والأقرع
وما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع )



يريد ببدر وحابس : أبا عيينة والأقرع ، والنهب اسم لما يؤخذ من الغنائم، والعبيد بالتصغير اسم فرس له، (فقال صلى الله عليه وسلم: اقطعوا عني لسانه. فذهب به أبو بكر رضي الله عنه حتى اختار مئة من الإبل ثم رجع وهو من أرضى الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: أتقول في الشعر؟ فجعل) العباس (يعتذر) له (ويقول: بأبي أنت وأمي؛ إني لأجد للشعر دبيبا على اللسان كدبيب النمل، ثم يقرصني كما يقرص النمل، فلا أجد بدا من قول الشعر. فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين) قال العراقي : رواه مسلم من حديث رافع بن خديج : "أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ، وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، كل إنسان منهم مئة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس :


أتجعل نهبي ونهب العبيـ ـد بين عيينة والأقرع
وما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع



قال: فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة"
، وزاد في رواية: "وأعطى علقمة بن علاثة مئة" ، وأما زيادة: "اقطعوا عني لسانه" ، فليست في شيء من الكتب المشهورة، وذكرها ابن إسحاق في السيرة بغير إسناد. اهـ .

قلت: وجدت بخط الحافظ ابن حجر ما نصه: ورواه إسماعيل القاضي من طريق عروة مرسلا بالقصة، وأنه قال: "يا بلال ، اذهب فاقطع لسانه" ، الحديث، أخرجه في النوادر له، والله أعلم .




الخدمات العلمية