الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآفة الرابعة عشرة الكذب في القول واليمين .

وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب قال إسماعيل بن واسط سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخطب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام أول ، ثم بكى وقال : إياكم والكذب ؛ فإنه مع الفجور ، وهما في النار .

وقال أبو أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الكذب باب من أبواب النفاق .

وقال الحسن كان يقال: إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج، وأن الأصل الذي بني عليه النفاق الكذب ، وقال عليه السلام: كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق ، وأنت له به كاذب .

وقال ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا .

ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين يتبايعان شاة ، ويتحالفان ، يقول أحدهما: والله لا أنقصك من كذا وكذا. ويقول الآخر: والله لا أزيدك على كذا وكذا. فمر بالشاة أحدهما، فقال : أوجب وقد اشتراها أحدهما بالإثم والكفارة .

وقال عليه السلام : الكذب ينقص الرزق ، وقال صلى الله عليه وسلم: إن التجار هم الفجار. فقيل: يا رسول الله، أليس الله قد أحل البيع؟ قال: نعم، ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون .

التالي السابق


(الآفة الرابعة عشرة) ( الكذب في القول و) في (اليمين)

وهو الإخبار عن الشيء بخلافه، سواء فيه العمد والخطأ; إذ لا واسطة بين الصدق والكذب على مذهب أهل السنة، والإثم يتبع العمد، وقد كذب يكذب كذبا ككتف، ويجوز التخفيف بكسر الكاف، وسكون الذال، (وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب) أي: من الذنوب القبيحة، والعيوب الفاحشة (قال إسماعيل بن أوسط ) هكذا في سائر النسخ، والصواب أوسط بن إسماعيل ، كما نبه عليه العراقي ، وهو أوسط بن إسماعيل بن أوسط البجلي ، شامي، ثقة، مخضرم، مات سنة تسع وسبعين، روى له البخاري في الأدب المفرد، والنسائي وابن ماجه ، ( سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخطب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام أول، ثم بكى وقال: إياكم والكذب؛ فإنه مع الفجور، وهما في النار ) قال العراقي : رواه ابن ماجه والنسائي في اليوم والليلة، وجعله المصنف من رواية إسماعيل بن أوسط عن أبي بكر ، وإنما هو أوسط بن إسماعيل بن أوسط ، وإسناده حسن. اهـ .

قلت: وأخرجه ابن أبي الدنيا عن علي بن الجعد ، أنبأنا شعبة عن يزيد بن خمير ، سمعت سليم بن عامر يحدث عن أوسط بن إسماعيل بن أوسط ، سمع أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخطب بعدما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة، فقال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أول مقامي هذا، ثم بكى أبو بكر ، ثم قال: عليكم بالصدق؛ فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب؛ فإنه مع الفجور، وهما في النار" . رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق، عن علي بن حرب ، حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم ، حدثنا شعبة ، ورواه أيضا عن الدوري ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن معاوية بن أبي صالح ، حدثني سليم بن عامر ، ورواه كذلك أحمد وابن حبان ، والحاكم ، ولفظهم كالنسائي وابن ماجه من طريق أوسط : "خطبنا أبو بكر الصديق فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام الأول، فقال: سلوا الله المعافاة، أو قال: العافية، فلم يؤت أحد قط بعد اليقين أفضل من العافية والمعافاة، عليكم بالصدق؛ فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب؛ فإنه مع الفجور، وهما في النار، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، كما أمركم الله" . ورواه ابن جرير في تهذيب الآثار، وابن [ ص: 511 ] مردويه بلفظ: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوا الله العافية؛ فإنه لم يعط أحد أفضل من معافاة بعد يقين، وإياكم والريبة، فإنه لم يؤت أحد أشد من ريبة بعد كفر، وعليكم بالصدق؛ فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب؛ فإنه مع الفجور، وهما في النار .

وروى سفيان بن عيينة في الجامع، وابن المبارك ، وهناد وابن أبي الدنيا في الصمت، وحسين بن أصرم في الاستقامة، وابن مردويه والبيهقي ، وسنده أصح الأسانيد من طريق قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر يقول: إياكم والكذب؛ فإن الكذب مجانب للإيمان ، (وقال أبو أمامة) صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، (قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الكذب باب من أبواب النفاق ) قال العراقي : رواه ابن عدي في الكامل بسند ضعيف فيه عمر بن موسى الوجيهي ، ضعيف جدا، ويغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه فهو منافق" . وحديث: "أربع من كن فيه فهو منافق" . قال في كل منهما: وإذا حدث كذب ، وهما في الصحيحين، وقد تقدما في الآفة التي قبلها .

(وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (كان يقال: إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، و) اختلاف (القول والعمل، و) اختلاف (المدخل والمخرج، وأن الأصل الذي بني عليه النفاق الكذب) .

أخرجه ابن أبي الدنيا عن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إسحاق الأزرق ، عن عون ، عن الحسن قال: يعد من النفاق اختلاف القول والعمل، واختلاف السر، والعلانية، والمدخل والمخرج ، وأصل النفاق والذي بني عليه النفاق الكذب .

(وقال صلى الله عليه وسلم: كبرت خيانة) تأنيثه باعتبار الضمير، وهو فاعل معنى (أن تحدث أخاك) في الدين، وإن لم يكن أخاك في النسب، (حديثا هو لك به مصدق، وأنت له به كاذب) ؛ لأنه ائتمنك فيما تحدثه، فإن كذبته فقد خنت أمانته، وخنت أمانة الإيمان فيما أوجب من نصيحة الإخوان، قال الطيبي : "أخاك"، فاعل كبرت، وأنث الفعل له باعتبار المعنى; لأنه نفس الخيانة، وفيه معنى التعجب، كما في كبر مقتا عند الله ، والمراد خيانة عظيمة منك إذا حدثت أخاك المسلم بحديث هو يعتمد عليك اعتمادا على كل مسلم لا تكذب فيصدقك، والحال أنك كاذب، وقال النووي : التورية إطلاق لفظ هو ظاهر في معنى، وتريد به معنى آخر يتناوله اللفظ، لكنه خلاف ظاهره وهو ضرب من التغرير والخداع، فإن دعت له مصلحة شرعية راجحة لا مندوحة عنها إلا به، فلا بأس، وإلا كره، فإن توصل به إلى أخذ باطل، أو دفع حق، حرم، وعليه ينزل هذا الخبر. قال العراقي : رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد، وأبو داود من حديث سفيان بن أسيد ، وضعفه ابن عدي ، ورواه أحمد والطبراني من حديث النواس بن سمعان بإسناد جيد. اهـ .

قلت: ورواه أيضا ابن سعد والبغوي وابن قانع ، والبيهقي عن سفيان بن أسيد ، بفتح الهمزة وكسر السين المهملة، الحضرمي ، قال البغوي : ولا أعلم لسفيان غيره، ورواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي أيضا، عن النواس بن سمعان ، وقد سكت أبو داود على حديث سفيان ، فاقتضى كونه حسنا عنده، إلا أن النووي في الأذكار قال: هو ضعيف، وكأنه تبع فيه ابن عدي ؛ فإن فيه بقية بن الوليد ، والكلام فيه مشهور، وكون سند حديث النواس جيدا فيه خلاف أيضا، فقد ذكر المنذري أن شيخ أحمد فيه: عمر بن هارون ، فيه خلف، وبقية رجاله ثقات، وقال الهيثمي : عمر ضعيف، وبقية رجاله ثقات. (وقال ابن مسعود ) رضي الله عنه: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) قال العراقي : متفق عليه، ( ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين يتبايعان شاة، ويتحالفان، يقول أحدهما: والله لا أنقصك من كذا وكذا. ويقول الآخر: والله لا أزيدك على كذا وكذا. فمر بالشاة، وقد اشتراها أحدهما، فقال: أوجب أحدهما بالإثم والكفارة ) ، قال العراقي : رواه أبو الفتح الأزدي في كتاب الأسماء المفردة من حديث ناسح الحضرمي ، وهكذا رويناه في أمالي ابن شمعون ، وناسح ذكره البخاري هكذا في التاريخ، وقال أبو حاتم : هو عبد الله بن ناسح . اهـ .

قلت: ذكره الأزدي في مفردات أسماء الصحابة، وذكره البخاري فقال: ناسح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه شرحبيل بن شفعة .

وأخرج ابن شاهين من طريق الوليد بن مسلم ، عن حريز بن عثمان ، عن شرحبيل بن شفعة ، عن ناسح الحضرمي ، عن [ ص: 512 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر برجلين يتبايعان شاة.. فذكر الحديث، وقال ابن أبي حاتم : أخرجه البخاري في النون، وخطأه في ذلك أبي وأبو زرعة ، وقالا: إنما هو عبد الله بن ناسح ، وقال الحسن بن سفيان في الصحابة: عبد الله بن ناسح الحضرمي الحمصي .

وأخرج له حديثا آخر من طريق سعد بن سنان ، عن شريح بن نسيب عنه، وقال أبو نعيم : لا تصح له صحبة. قال الحافظ السخاوي : وحديثه المذكور -أعني الذي أورده ابن شاهين - أخرجه أيضا الخرائطي في مساوئ الأخلاق، وقال الحافظ في الإصابة: ناسح ، بنون ومهملتين، على الراجح، وقيل: بمعجمة وجيم، وقيل: بمعجمة ثم مهملة، حكاها أبو أحمد العسكري .

(وقال صلى الله عليه وسلم : الكذب ينقص الرزق ) .

قال العراقي : رواه أبو الشيخ في طبقات الأصبهانيين من حديث أبي هريرة ، ورويناه كذلك في مشيخة القاضي أبي بكر ، وإسناده ضعيف .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إن التجار هم الفجار. فقيل: يا رسول الله، أليس الله قد أحل البيع؟ قال: نعم، ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون ) قال العراقي : رواه أحمد والحاكم ، وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن شبل . اهـ .

قلت: عبد الرحمن بن شبل أوسي أنصاري ، أحد نقبة الأنصار، قال البخاري : له صحبة، وقال ابن منده : عداده في أهل المدينة ، روى عنه تميم بن محمود ، ويزيد بن عمير ، وأبو راشد الحبراني ، وأبو سلام الأسود ، ذكره عبد الصمد بن سعيد فيمن نزل حمص من الصحابة، وقال أبو زرعة الدمشقي : نزل الشام .

وأخرج الجوزجاني في تاريخه من طريق أبي راشد الحبراني قال: كنا بمسكن مع معاوية ، فبعث إلى عبد الرحمن بن شبل : إنك من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمائهم، فقم في الناس، وعظهم .

وأخرج أحمد من طريق أبي سلام ، عن أبي راشد قال: كتب معاوية إلى عبد الرحمن بن شبل أن أعلم الناس بما سمعت. فجمعهم فذكر لهم أحاديث، منها حديث: "إن التجار هم الفجار" .

وأخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي وابن ماجه حديثا من رواية تميم بن محمود عنه، وابن ماجه أخرجه من طريق أبي راشد عنه .




الخدمات العلمية