الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان ذم الغضب .

ثم بيان حقيقة الغضب ثم بيان أن الغضب هل يمكن إزالة أصله بالرياضة أم لا ? ثم بيان الأسباب المهيجة للغضب ثم بيان علاج الغضب بعد هيجانه ثم بيان فضيلة كظم الغيظ ، ثم بيان فضيلة الحلم ثم بيان القدر الذي يجوز الانتصار ، والتشفي به من الكلام ، ثم القول في معنى الحقد ، ونتائجه وفضيلة العفو ، والرفق ، ثم القول في ذم الحسد ، وفي حقيقته ، وأسبابه ، ومعالجته ، وغاية الواجب في إزالته ثم بيان السبب في كثرة الحسد بين الأمثال ، والأقران والإخوة ، وبني العم ، والأقارب ، وتأكده ، وقلته في غيرهم ، وضعفه ، ثم بيان الدواء الذي به ينفى مرض الحسد عن القلب ، ثم بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب وبالله التوفيق بيان ذم الغضب .

قال الله تعالى إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين الآية ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل ، ومدح المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة وروى أبو هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله ، مرني بعمل ، وأقلل ، قال : لا تغضب ، ثم أعاد عليه ، فقال : لا تغضب .

وقال ابن عمر قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قل لي قولا وأقلله ؛ لعلي أعقله فقال : لا تغضب ، فأعدت عليه مرتين ، كل ذلك يرجع إلي لا تغضب .

وعن عبد الله بن عمرو أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينقذني من غضب الله ? قال : لا تغضب .

وقال ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما تعدون الصرعة فيكم ? قلنا : الذي لا تصرعه الرجال قال : ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب .

وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب .

وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كف غضبه ستر الله عورته .

وقال سليمان بن داود عليهما السلام يا بني ، إياك وكثرة الغضب ، فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم وعن عكرمة في قوله تعالى : وسيدا وحصورا قال : السيد الذي لا يغلبه الغضب وقال أبو الدرداء قلت : يا رسول الله ، دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال : لا تغضب .

وقال يحيى لعيسى عليهما السلام : لا تغضب ، قال : لا أستطيع أن لا أغضب ، إنما أنا بشر ، قال : لا تقتن مالا ، قال : هذا عسى .

وقال صلى الله عليه وسلم : الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل .

وقال صلى الله عليه وسلم : ما غضب أحد إلا أشفى على جهنم .

وقال له رجل : أي شيء أشد? قال : غضب الله ، قال : فما يبعدني غضب الله ? قال : لا تغضب .

التالي السابق


(بيان ذم الغضب)

(قال الله تعالى) في سورة الفتح: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ) ، أي: الأنفة ( حمية الجاهلية ) التي تمنع إذعان الخلق ( فأنزل الله سكينته على رسوله ) ، وعلى المؤمنين (الآية) تمامها: وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما (ذم الكفار) يعني: قريش مكة، (بما تظاهروا به) في عدم دخوله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين مكة (من الحمية) ، أي: الأنفة (الصادرة عن الغضب) ، والتهور (بالباطل، ومدح المؤمنين بما أنعم عليهم من السكينة) ، أي: الثبات، والوقار، ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لما هم بقتالهم بعثوا إليه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومكرزا ليسألوه أن يرجع من عامه على أن تخلي له قريش مكة من قابل ثلاثة أيام فأجابهم، وكتب لهم كتابا، الحديث. وفيه قال للكاتب: اكتب ما يريدون، فهم المؤمنون أن يأبوا ذلك، ويبطئوا عليهم، فأنزل الله السكينة عليهم، فتوقروا، وحلموا (وروى أبو هريرة) - رضي الله عنه - (أن رجلا قال: يا رسول الله، مرني بعمل، وأقلل، قال: لا تغضب، ثم أعاد عليه، فقال: لا تغضب) .

رواه البخاري من طريق أبي حصين الأسدي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ولم يخرجه مسلم; لأن الأعمش رواه عن أبي صالح، واختلف عليه في إسناده، فقيل: عنه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، كقول أبي حصين، وقيل: عنه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وقيل: عنه عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو جابر، وقيل: عنه، عن أبي صالح، عن رجل من الصحابة لم يسم .

وأخرجه الترمذي من طريق أبي حصين أيضا، ولفظه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، علمني شيئا، ولا تكثر علي لعلي أعيه، قال: لا تغضب، فردد [ ص: 5 ] ذلك عليه مرارا، كل ذلك يقول: لا تغضب، وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال: قلت: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، ولا تكثر علي، قال: لا تغضب.

ورواه أحمد كذلك من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد أيضا، والبغوي، والبارودي، وابن قانع، وابن حبان، والطبراني، والحاكم، والضياء من حديث جارية بن قدامة التميمي.

هكذا رواه من طريق الأحنف، عن عمه جارية بن قدامة أن رجلا قال: يا رسول الله، قل لي قولا، وأقلل علي لعلي أعقله، قال: لا تغضب، فأعاد عليه مرارا، كل ذلك يقول: لا تغضب، وفي رواية لأحمد أن جارية بن قدامة قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، بهذا يغلب على الظن أن السائل هو جارية بن قدامة، لكن ذكر الإمام أحمد، عن يحيى القطان أنه قال: هكذا قال هشام، يعني أن هشاما ذكر في الحديث أن جارية سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال يحيى: وهم يقولون: لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قال العجلي وغيره أنه تابعي، وليس بصحابي، ورواه الطبراني في الكبير من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي، ورواه مسدد، والمحاملي، والضياء من حديث أبي سعيد الخدري، وقيل: إن السائل هو أبو الدرداء، فقد أخرج الطبراني من حديثه قال: قلت: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: لا تغضب، ولك الجنة، وسيأتي للمصنف قريبا .

وأخرج أحمد من طريق الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: لا تغضب، قال الرجل: فذكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله، ورواه مالك في الموطأ، عن الزهري، عن حميد مرسلا، وقوله: لا تغضب، يحتمل أمرين; أحدهما: أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق، فإن النفس إذا تخلقت بالأخلاق الجميلة، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك رفع الغضب عند حصول أسبابه، والثاني: أن يكون المراد لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمر به، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان كالآمر الناهي له، وإذا لم يمتثل ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه اندفع عنه شر الغضب، وربما سكن غضبه، وذهب، فكأنه حينئذ لم يغضب، (وقال ابن عمر) - رضي الله عنه -: (قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قل لي قولا وأقلل؛ لعلي أعقله، قال: لا تغضب، فأعدت ذلك عليه مرتين، كل ذلك يرجع إلي) ، ويقول: (لا تغضب) قال العراقي: رواه أبو يعلى بإسناد حسن .

قلت: ورواه أيضا ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة، والسياق له، فهذا يدل على أن السائل في حديث أبي هريرة هو ابن عمر (وعن عبد الله بن عمرو) بن العاصي - رضي الله عنهما - (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (ماذا يبعدني) ، وفي لفظ: يباعدني (من غضب الله؟ قال: لا تغضب) .

هكذا في النسخ، وفي بعضها أنه سأل رجل رسول الله .

فباللفظ الأول أخرجه أحمد في المسند، فعلى هذا السائل هو عبد الله بن عمرو، وباللفظ الثاني: أخرجه الطبراني في مكارم الأخلاق، وابن عبد البر في التمهيد بإسناد حسن .

قال العراقي: قلت: وبمثل سياق أحمد أخرجه أيضا ابن أبي الدنيا، وابن حبان (وقال ابن مسعود) - رضي الله عنه - (قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الصرعة) كهمزة (فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال) ، أي: لا تغلبه في الصراع، بل يصرعهم (قال: ليس ذلك) بالصرعة، (ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب) هو الصرعة .

رواه مسلم بلفظ: ولكنه، وقد أوردته مسندا في مقدمة كتاب العلم (وقال أبو هريرة) - رضي الله عنه -: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس الشديد) ، أي: القوي (بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) .

رواه البخاري ومسلم، ورواه العسكري في الأمثال بلفظ: ليس الشديد الذي يغلب الناس، ولكن الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب (وقال ابن عمر) - رضي الله عنه -: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كف غضبه ستر الله عورته) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العفو وذم الغضب، وفي الصمت، وقد تقدم في آفات اللسان، ورواه أيضا بلفظ: من كف لسانه ستر الله عورته، ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه، الحديث. (وقال سليمان) بن داود - عليهما السلام -: (يا بني، إياك وكثرة الغضب، فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم) .

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب (وعن عكرمة) مولى ابن عباس (في قوله تعالى: وسيدا وحصورا قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب) .

[ ص: 6 ] ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب (وقال أبو الدرداء) - رضي الله عنه - (قلت: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: لا تغضب) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا، والطبراني في الكبير والأوسط بإسناد حسن .

قلت: ولكن بزيادة: ولك الجنة، وقال المنذري: رواه الطبراني بإسنادين; أحدهما رجاله ثقات، (وقال يحيى لعيسى - عليهما السلام -: لا تغضب، قال: لا أستطيع أن لا أغضب، إنما أنا بشر، قال: لا تقتن مالا، قال: هذا عسى) أن أستطيع عليه .

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب (وقال صلى الله عليه وسلم: الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر) بفتح الصاد، وكسر الموحدة دواء معروف (العسل) .

قال العراقي: رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب من رواية بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده بسند ضعيف. ا ه .

قلت: لفظ البيهقي: يا معاوية، إياك والغضب، فإن الغضب... إلخ .

هكذا رواه ابن عساكر في التاريخ، ورواه الحكيم الترمذي بلفظ: لا تغضب يا معاوية بن حيدة، فإن الغضب... إلخ .

(وقال صلى الله عليه وسلم: ما غضب أحد إلا أشفى على جهنم) .

قال العراقي: رواه البزار، وابن عدي من حديث ابن عباس: للنار باب لا يدخله إلا من شفى غيظه بمعصية الله.

وإسناده ضعيف، وتقدم في آفات اللسان .

(وقال له) صلى الله عليه وسلم (رجل: أي شيء أشد؟ قال: غضب الله، قال: فما يبعدني من غضب الله؟ قال: لا تغضب) .

قال العراقي: رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بالشطر الأخير، وقد تقدم قبله بستة أحاديث .




الخدمات العلمية