الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان فضيلة الحلم .

اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ ; لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم ، أي : تكلف الحلم ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا ، فلا يهيج الغيظ وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب وهو الحلم الطبيعي وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوة الغضب ، وخضوعها للعقل ولكن ابتداؤه التحلم ، وكظم الغيظ تكلفا .

قال صلى الله عليه وسلم : إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه وأشار بهذا إلى أن اكتساب الحلم طريقه التحلم أولا وتكلفه ، كما أن اكتساب العلم طريقه التعلم .

وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اطلبوا العلم ، واطلبوا مع العلم السكينة والحلم ، لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه ولا تكونوا من جبابرة العلماء ، فيغلب جهلكم حلمكم .

وأشار بهذا إلى أن التكبر والتجبر ، هو الذي يهيج الغضب ، ويمنع من الحلم واللين .

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : اللهم أغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية .

وقال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ابتغوا الرفعة عند الله قالوا : وما هي يا رسول الله ? قال : تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحلم عمن جهل عليك .

وقال صلى الله عليه وسلم : خمس من سنن المرسلين الحياء والحلم والحجامة والسواك والتعطر وقال علي كرم الله وجهه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: : إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم وإنه ليكتب جبارا عنيدا ولا يملك إلا أهل بيته .

وقال أبو هريرة إن رجلا قال : يا رسول الله ، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأحسن إليهم ويسيئون إلي ، ويجهلون علي وأحلم عنهم قال إن : كان كما تقول ، فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك المل يعني به الرمل وقال رجل من المسلمين : اللهم ليس عندي صدقة أتصدق بها ، فأيما رجل أصاب من عرضي شيئا ، فهو عليه صدقة ، فأوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إني قد غفرت له وقال صلى الله عليه وسلم : أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم قالوا وما أبو ضمضم؟ ؟ قال : رجل ممن كان قبلكم كان إذا أصبح يقول : اللهم إني تصدقت اليوم بعرضي على من ظلمني .

التالي السابق


(فضيلة الحلم)

(اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ; لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم، أي: تكلف الحلم) ; لأن صيغة التفعل في الأكثر للتكلف، (ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه) ، أي: ثار، والتهب شراره، (ويحتاج فيه) ، أي: في دفعه (إلى مجاهدة شديدة) ، ورياضة بليغة (ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا، فلا يهيج الغيظ) بقوة، (وإن هاج) يوما (فلا يكون في كظمه تعب) لخفة وطأته، (وهو الحلم الطبيعي) ; ولذا عبر عنه بعضهم بأنه الطمأنينة عند سورة الغضب، ومنهم من قال: هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب، وفي معناه من قال: هو احتمال الأعلى الأذى من الأدنى، أو رفع المؤاخذة عن مستحقيها بجناية في حق مستعظم، (وهو دلالة كمال العقل واستيلائه) ، أي: ملكه وقوته، (وانكسار قوة الغضب، وخضوعها للعقل) بحيث لا تثور إلا حينما يأمر العقل، (ولكن ابتداؤه التحلم، وكظم الغيظ تكلفا، قال صلى الله عليه وسلم: إنما العلم بالتعلم) ، أي: إنما تحصيله بطريق الطلب، والاكتساب من أهله، وأخذه منهم حيث كانوا (و) إنما (الحلم بالتحلم) ، أي: ببعث النفس، وتنشيطها إليه، (ومن يتحر الخير) ، أي: من يجتهد في تحصيل [ ص: 27 ] الخير، ويقصده (يعطه) ، أي: يعطيه الله تعالى إياه (ومن يتوق الشر) ، أي: من يحفظ نفسه من الوقوع فيه (يوقه) ، أي: يحفظه الله تعالى منه .

قال العراقي: رواه الطبراني، والدارقطني في العلل من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف. انتهى .

قلت: ورواه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والعسكري في الأمثال، كلهم من طريق محمد بن الحسن بن أبي زيد الهمداني، حدثنا الثوري، عن عبد الملك بن عمير، عن رجاء بن حيوة، عن أبي الدرداء، رفعه مثل سياق المصنف بزيادة: لم يسكن الدرجات العلا، ولا أقول لكم الجنة من تكهن، أو استقسم، أو تطير طيرا يرده من سفر، قال الحافظ السخاوي: ومحمد بن الحسين كذاب، ولكن قد رواه البيهقي في المدخل من طريق هلال، عن أبيه عبيد الله بن عمر، وعن عبد الملك بن عمير به موقوفا على أبي الدرداء. انتهى .

قلت: ورواه بهذا السند أيضا الطبراني في الأوسط، والخطيب في رياضة المتعلمين، وفي الباب أبو هريرة، وأنس، ومعاوية، وابن مسعود، وشداد بن أوس.

أما حديث أبي هريرة، فقد أخرجه الدارقطني في الأفراد، وفي العلل، والخطيب في التاريخ، وأما حديث أنس، فأخرجه العسكري من طريق محمد بن الصلت، حدثنا عثمان البري، عن قتادة عنه مرفوعا به، وأما حديث معاوية، فأخرجه الطبراني في الكبير، وابن أبي عاصم في العلم له، كلاهما من طريق عتبة بن أبي حكيم عمن حدثه عن معاوية رفعه بلفظ: يا أيها الناس، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما يخشى الله من عباده العلماء.

وجزم البخاري بتعليقه، فقال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وقال: إنما العلم بالتعلم، مع أن في إسناده من لم يسم لمجيئه من طريق أخرى، وقال الحافظ ابن حجر: إسناد حديث معاوية حسن; لأن فيه مهما اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وأما حديث ابن مسعود، فقد أخرجه البيهقي في المدخل من طريق علي بن الأقمر، والعسكري في الأمثال من طريق أبي الزعراء، كلاهما عن أبي الأحوص عنه بلفظ: إن الرجل لا يولد عالما، وإنما العلم بالتعلم، وقد روي عنه نحوه موقوفا بسند رجاله موثوقون .

أخرجه البزار في حديث طويل أنه كان يقول: فعليكم بهذا القرآن، فإنه مأدبة الله، فمن استطاع منكم أن يأخذ من مأدبة الله فليفعل، فإنما العلم بالتعلم، وأما حديث شداد بن أوس، فأخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث طويل بلفظ: إن رجلا قال: يا رسول الله، ماذا يزيد في العلم؟ قال: التعلم، وفي سنده عمر بن صبيح، وهو كذاب، وقد روي في الباب عن التابعين .

أخرج العسكري من طريق حماد، عن حميد الطويل ، قال: كان الحسن يقول: إذا لم تكن حليما فتحلم، وإذا لم تكن عالما فتعلم، فقلما تشبه رجل بقوم إلا كان منهم، ومن طريق زافر، عن عمرو بن عامر الجبلي، قال: قال الحسن: هو والله أحسن منك رداء، وإن كان رداؤك حبرة رجل، رداء الله الحلم، فإن لم يكن لك حلم - لا أبا لك - فتحلم، فإنه من تشبه بقوم لحق بهم، (أشار بهذا إلى أن اكتساب الحلم طريقه التحلم أولا وتكلفه، كما أن اكتساب العلم طريقه التعلم، وقال أبو هريرة) - رضي الله عنه -: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اطلبوا العلم، واطلبوا مع العلم السكينة والحلم، لينوا) ، أي: تواضعوا (لمن تعلمون) ، أي: لمن يتعلم منكم (ولمن تعلمون منه) ، أي: من مشايخكم، (ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فيغلب جهلكم علمكم) .

قال العراقي: رواه ابن السني في رياضة المتعلمين بسند ضعيف. انتهى .

قلت: ورواه الطبراني أيضا في الأوسط، وابن عدي في الكامل بلفظ: تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تعلمون منه.

قال الهيثمي: فيه عباد بن كثير ، وهو متروك الحديث، ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق حيوس بن رزق الله، عن عبد المنعم بن بشير، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رفعه: تعلموا العلم، وتعلموا للعلم الوقار، وقال: غريب من حديث مالك، عن زيد لم نكتبه إلا من حديث حيوس، عن عبد المنعم، وروى الخطيب في الجامع من حديث أبي هريرة: تواضعوا لمن تعلمون منه، وتواضعوا لمن تعلمون، ولا تكونوا جبابرة العلماء، (أشار بهذا إلى أن التجبر، والكبر هو الذي يهيج الغضب، ويمنع من الحلم واللين) ، وإن التواضع والسكون هو الذي يمنع توارث الغضب، ويورث الحلم (وكان [ ص: 28 ] من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أغنني بالعلم) ، أي: الذي يقرب إلى معرفتك، (وزيني بالحلم) ، أي: اجعله زينة لي (وأكرمني بالتقوى) لأكون من أكرم الناس عندك (وجملني بالعافية) ، وخص سؤال العلم بالإغناء; لأنه هو القطب، وعليه المدار، وليس الغنى إلا فيه، فمن كان عاريا عنه، فهو الفقير حقيقة، والحلم بالزينة; لأنه أفضل ما يتحلى به الإنسان، ولا زينة كزينته، والتقوى بالإكرام; لأنها أساس كل خير، والسبب لسعادة الدارين، والعافية بالجمال; لأنه لا جمال للمرء كجمالها .

قال العراقي: لم أقف له على أصل .

قلت: بل رواه ابن النجار في التاريخ، والرافعي في تاريخ قزوين من حديث ابن عمر (وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ابتغوا) ، أي: اطلبوا بجد واجتهاد، فإن الابتغاء مختص بالاجتهاد في الطلب .

قاله الراغب، وقال الحراني: افتعال تكلف البغي، وهو أشد الطلب (الرفعة) ، أي: الشرف، والمنزلة (عند الله) ، أي: في دار كرامته (قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: تصل من قطعك) ، أي: قطع مواساتك، أو زياراتك، فلا تقابله بالقطع، (وتعطي من حرمك) ، أي: منعك ما هو لك، (وتحلم) بضم اللام (عمن جهل) ، أي: سفه (عليك) بأن تمسك لسانك، ويدك عنه، والسفاهة تسمى جهلا، ومنه قول الشاعر:


ألا لا يجهل أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

قال العراقي: رواه الحاكم، والبيهقي، وقد تقدم .

قلت: ورواه ابن عدي من حديث ابن عمر بدون قوله: تصل من قطعك، (وقال صلى الله عليه وسلم: خمس من سنن المرسلين) ، أي: من شأنهم وفعلهم: (الحياء) الذي هو خجل الروح عن كل عمل لا يحسن في الملأ الأعلى; وذلك لأنه يطهر الروح من أسباب النفس، (والحلم) الذي هو سعة الصدر، وانشراحه لورود النور عليه، (والحجامة) ; لأن للدم حرارة وقوة، وهو غالب على قلوب المرسلين، فإذا لم تنقص أضرت، (والسواك) ; لأن الفم طريق الوحي ومحل لنجوى الملك، فإهماله تضييع لحرمة الوحي، (والتعطر) ، أي: استعمال العطر; لأنه ليس للملائكة حظ مما للبشر إلا الريح الطيب، وهم يكثرون مخالطة الرسل، فيكون الطيب بمنزلة قراهم .

قال العراقي: رواه أبو بكر بن أبي عاصم في المثاني والآحاد، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول بسند ضعيف من رواية مليح بن عبد الله الخطمي، عن أبيه، عن جده، وللترمذي وحسنه من حديث أبي أيوب: أربع، فأسقط الحلم، والحجامة، وزاد النكاح. انتهى .

قلت: جد مليح بن عبد الله هو حصين بن عبد الله الخطمي، له صحبة، والحديث أيضا رواه البخاري في التاريخ، والبزار في المسند، والبغوي في المعجم، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي في الشعب، وقال البيهقي عقب تخريجه: هذا ذكره البخاري في التاريخ عن عبد الرحمن بن أبي فديك، وهو محمد بن إسماعيل، عن عمر بن محمد الأسلمي، فعمر ينفرد به. انتهى .

وعمر، قال الذهبي: من المجاهيل، وكأنه أشار إلى ذلك الحافظ العراقي بقوله: بسند ضعيف .

وأما حديث أبي أيوب، فأخرجه كذلك أحمد، والبيهقي، كلهم من طريق مكحول، عن أبي السمال عنه، ولفظه: أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والنكاح، والسواك، وقد روي فيه الحناء بالنون بدل الحياء، فيكون على تقدير مضاف، أي: استعماله، ورجح ابن القيم، عن المزي أن صوابه الختان، وسقطت النون .

قال: وهكذا رواه المحاملي، عن شيخه الترمذي، وروى العقيلي، والبيهقي من حديث ابن عباس: من سنن المرسلين: الحياء، والعلم، والحجامة، والسواك، والتعطر، وكثرة الأزواج، (وقال علي) - رضي الله عنه -: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل المسلم يدرك بالحلم درجة الصائم القائم) ، أي: الصائم في شدة الحر، والتهجد بالليل، (وإنه ليكتب جبارا عنيدا) ، أي: بسبب سوء خلقه (وما يملك إلا أهل بيته) ، قال العراقي: رواه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف. انتهى .

قلت: ورواه كذلك أبو الشيخ في كتاب الثواب، قال المنذري: وسنده ضعيف، وروى أبو داود، وابن حبان، والبغوي في شرح السنة من حديث عائشة: إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم، (وقال أبو هريرة) - رضي الله عنه -: (إن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي ، ويجهلون علي) ، أي: يسفهون، [ ص: 29 ] وأحلم عنهم، أي: أصفح وأتجاوز، (قال: لئن كان كما تقول، فكأنما تسفهم المل) يقال: سف الدواء سفا، وأسفه: غيره، والاسم السفوف بالفتح (ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك) .

رواه مسلم في الصحيح، (والمل يعني به الرمل) ، وقيل: هو رماد الفرن، (وقال رجل من المسلمين: اللهم ليس عندي صدقة أتصدق بها، فأيما رجل أصاب من عرضي شيئا، فهو علي صدقة، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إني قد غفرت له) .

قال العراقي: رواه أبو نعيم في الصحابة، والبيهقي في الشعب من رواية عبد المجيد بن أبي عيسى بن جبير، عن أبيه، عن جده بإسناد لين .

زاد البيهقي، عن علبة بن زيد، وعلبة هو الذي قال ذلك كما في أثناء الحديث، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أنه رواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رجلا من المسلمين - ولم يسمه - قال: ولعله أبو ضمضم.

قلت: وليس بأبي ضمضم، إنما هو علبة بن زيد، وأبو ضمضم ليست له صحبة، وإنما هو متقدم. انتهى .

قلت: وقد سبق ابن عبد البر في ذلك أحمد، والحاكم في الكنى، وأما علبة بن زيد، فهو رجل من الصحابة من ولد مالك بن الأوس، وقد ذكره ابن إسحاق في السيرة، وابن حبيب في المحبر في البكائين في غزوة تبوك، فأما علبة بن زيد فخرج من الليل، وصلى، وبكى، وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد، أو عرض، فذكر الحديث بغير إسناد، وقد ورد موصولا من حديث مجمع بن حارثة، ومن حديث عمرو بن عوف، وأبي عبس بن جبر، ومن حديث علبة بن زيد نفسه كما سنبينه، وروى ابن مردويه ذلك من حديث مجمع بن حارثة، وروى ابن منده من طريق محمد بن طلحة، عن عبد الحميد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه، عن جده، قال: كان علبة بن زيد بن حارثة رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حض على الصدقة جاء كل رجل منهم بطاقته، وما عنده، فقال علبة بن زيد: اللهم إنه ليس عندي ما أتصدق به، اللهم إني أتصدق بعرضي على من ناله من خلقك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا، فنادى، أين المتصدق بعرضه البارحة؟ فقدم علبة، فقال: قد قبلت صدقتك، قال الحافظ: هكذا وقع الإسناد، وفيه تغيير ونقص، وإنما هو عبد الحميد بن محمد بن أبي عنبس، والصحبة لأبي عنبس لا لجبر، وقد روى الطبراني من طريق محمد بن طلحة بهذا الإسناد حديثا غير هذا، وروى البزار من طريق صالح مولى التوأمة، عن علبة بن زيد نفسه، قال: حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فذكر الحديث، قال البزار: علبة هذا رجل مشهور من الأنصار، ولا يعلم له غير هذا الحديث، وقد روى عمرو بن عوف حديثه هذا أيضا، قال الحافظ: وأشار إلى ما أسنده ابن أبي الدنيا، وابن شاهين من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده نحوه .

وأخرجه الخطيب من طريق أبي قرة الزبيدي في السنن له، قال: ذكره ابن جرير، عن صالح بن زيد، عن أبي عيسى الحارثي، عن ابن عم له يقال له: علبة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالصدقة، فذكره، لكن قال بعد قوله: ولكني أتصدق بعرضي على من آذاني، أو شتمني، أو لمزني، فهو له حل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد قبلت منك صدقتك ، قال الخطيب: كذا في الكتاب، عن أبي عيسى الحارثي، والصواب: عن أبي عبس بفتح العين، وسكون الموحدة (وقال صلى الله عليه وسلم: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ قال: رجل كان فيمن قبلكم إذا أصبح يقول: اللهم إني أتصدق بعرضي على من ظلمني) تقدم الكلام عليه في آفات اللسان، ولولا التصريح بأنه كان فيمن كان قبلنا لجوزنا أن يكون علبة بن زيد يكنى أبا ضمضم، وقد أشرنا آنفا إلى كلام ابن عبد البر، والمناقشة معه في قوله: أظنه أبا ضمضم، فراجعه .




الخدمات العلمية