الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فضيلة الرفق .

اعلم أن الرفق محمود ، ويضاده العنف والحدة ، والعنف نتيجة الغضب ، والفظاظة .

والرفق ، واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة ، وقد يكون سبب الحدة الغضب وقد يكون سببها شدة الحرص واستيلاءه بحيث يدهش عن التفكر ، ويمنع من التثبت فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة ، وحفظهما على حد الاعتدال ولأجل هذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرفق ، وبالغ فيه ، فقال : يا عائشة ، إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من خير الدنيا والآخرة وقال صلى الله عليه وسلم : إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق وإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا محبة الله تعالى وقالت عائشة رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف وقال صلى الله عليه وسلم : يا عائشة ارفقي ، فإن الله إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم على باب الرفق .

وقال صلى الله عليه وسلم : من يحرم الرفق يحرم الخير كله وقال صلى الله عليه وسلم : أيما وال ولى فرفق ولان رفق الله تعالى به يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم : تدرون من يحرم على النار يوم القيامة ? كل هين لين سهل قريب وقال صلى الله عليه وسلم : الرفق يمن والخرق شؤم .

وقال صلى الله عليه وسلم : التأني من الله ، والعجلة من الشيطان وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل ، فقال : يا رسول الله ، إن الله قد بارك لجميع المسلمين فيك فاخصصني منك بخير فقال الحمد لله مرتين أو ثلاثا ثم أقبل عليه فقال هل أنت مستوص مرتين أو ثلاثا قال نعم قال إن أردت أمرا فتدبر عاقبته فإن كان رشدا فأمضه وإن كان سوى ذلك ، فانته .

التالي السابق


(فضيلة الرفق)

بالكسر هو حسن الانقياد بما يؤدي إلى الجميل، (اعلم) هداك الله (أن الرفق محمود، ويضاده العنف والحدة، والعنف نتيجة الغضب، والفظاظة) ، وهي غلظة القلب (والرفق، واللين نتيجتا حسن الخلق، والسلاسة) ، وهي السهولة (وقد يكون سبب الحدة الغضب) ، وهو الأكثر (وقد يكون سبب شدة الحرص واستيلاؤه) على القلب (بحيث يدهش عن التفكير، ويمنع من التثبت) في الأمور، فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب (وقوة الشهوة، وحفظهما على حد الاعتدال) من مرتبتي التفريط والإفراط؛ (ولأجل هذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرفق، وبالغ فيه، فقال: يا عائشة، إنه من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من خير الدنيا والآخرة) .

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب، والحكيم في النوادر، وأبو نعيم في الحلية، والخرائطي في مكارم الأخلاق، وابن النجار، وقال العراقي: رواه أحمد، والعقيلي في الضعفاء في ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، وضعفه عن القاسم، عن عائشة، وفي الصحيحين من حديثهما: إن الله يحب الرفق في الأمر كله. ا ه .

قلت: رواه عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، وقد رواه من هذا الطريق أيضا العسكري في الأمثال، والقضاعي في مسند الشهاب، وهو عند العسكري فقط من حديث ابن أبي مليكة ، عن عائشة بلا واسطة، لكن بلفظ آخر سيأتي ذكره، وعند أحمد في سياق هذا الحديث زيادة في آخره، وهي: وصلة رحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار، وقد روى هذا الحديث من غير تلك الزيادة أحمد أيضا، والترمذي، وقال: حسن صحيح، والطبراني في الكبير، والقضاعي، والبيهقي من حديث يعلى بن مملك، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، لكن بدون قوله: الدنيا والآخرة، في الموضعين، والحديث الذي عزاه للبخاري: إن الله يحب الرفق في الأمر كله له سبب ذكره البخاري، وهو أن اليهود لما قالوا: السام عليك، قالت: بل عليكم السام واللعنة، فقال لها صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، إن الله... الحديث، وقد أخرجه مسلم كذلك في كتاب الاستئذان، وكذلك أحمد [ ص: 46 ] والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، كلهم من حديث عائشة، ومعنى قوله: في الأمر كله; أي في أمر الدين والدنيا، حتى في معاملة المرء مع نفسه، ويتأكد ذلك في معاشرة من لا بد للإنسان من معاشرته كزوجة، وخادم، وولد (وقال صلى الله عليه وسلم: إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق) بأن يرفق بعضهم ببعض، فيشتد أمرهم .

قال العراقي: رواه أحمد بسند جيد، والبيهقي بسند ضعيف من حديث عائشة. ا ه .

قلت: ولفظ أحمد: إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق، ورواه العسكري في الأمثال من طريق ابن أبي مليكة ، عن عائشة بهذا اللفظ، ورواه كذلك البخاري في التاريخ، والبزار من حديث جابر بسند صحيح، وعند البيهقي من حديث عائشة بسند ضعيف: إذا أراد الله بعبيد خيرا رزقهم الرفق في معاشهم، وإذا أراد بهم شرا رزقهم الخرق في معاشهم (وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق) بالضم اسم من خرق كتعب إذا عمل شيئا، فلم يرفق فيه، فهو أخرق، وهي خرقاء (وإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق) ، أي: في أمره كله، (وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا محبة الله تعالى حرموا) .

قال العراقي: رواه الطبراني في الكبير من حديث جابر بإسناد ضعيف. ا ه .

قلت: وروى البزار من حديث جابر بالجملة الثانية منه بلفظ: إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق، وكذلك رواه أحمد، وقد تقدم قبله، (وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله رفيق) ، أي: لطيف بعباده يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، فيكلفهم فوق طاقتهم، بل يسامحهم، ويلطف بهم، ولا يجوز إطلاق الرفق عليه سبحانه اسما; لأن أسماءه إنما تتلقى من النقل المتواتر، ولم يوجد .

هكذا ذكره بعض العلماء، والأصل فيه قول القاضي حيث قال: الرفق هو اللطف، وأخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها، والظاهر أنه لا يجوز إطلاقه عليه تعالى اسما; لأنه لم يتواتر، ولم يستعمل هنا على قصد التسمية، وإنما أخبر به عنه تمهيدا للحكم الذي بعده. ا ه .

ولكن قال النووي: الأصح جواز تسميته تعالى رفيقا، وغيره مما يثبت بخبر الواحد (يحب الرفق) بالكسر، أي: لين الجانب بالقول، والفعل، والأخذ بالأسهل، أي: يحب أن يرفق بعضهم ببعض، وزعم أن المراد يحب أن يرفق بعباده لا يلائم سياق المصنف، وهو قوله: (ويعطي عليه) في الدنيا من الثناء الجميل، ونيل المطالب، وتسهيل المقاصد في العقبى من الثواب الجزيل (ما لا يعطي على العنف) بالضم: الشدة، والمشقة، نبه به على وطاءة الأخلاق، وحسن المعاملة، وكمال المجاملة، ووصف الله تعالى بالرفيق إرشادا، وحثا لنا على الرفق في كل أمر، فهو خارج مخرج الأخبار لا التسمية كما تقرر .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث عائشة.

قلت: ولكن بزيادة في أوله: يا عائشة، وفي آخره: وما لا يعطي على ما سواه.

وأخرجه من غير تلك الزيادة البخاري في كتاب الأدب المفرد، وأبو داود من حديث عبد الله بن مغفل، وابن ماجه، وابن حبان من حديث أبي هريرة، وأحمد، والبيهقي من حديث علي، والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة، والبزار من حديث أنس، ففي حديث علي أبو خليفة لم يضعفه أحد، وبقية رجاله ثقات، وحديث أبي أمامة فيه صدقة السمين، صدقه الجمهور، ووثقه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات، وحديث أنس رواه البزار بإسنادين; رجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم خلاف، وروى البيهقي في مناقب الشافعي، قال: رآني أبي، وأنا أعجل في بعض الأمر، فقال: يا بني رفقا رفقا، فإن العجلة تنقص الأعمال، وبالرفق تدرك الآمال، وقد سمعت عروة يقول: سمعت أبا هريرة رفعه: إن الله يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف، (وقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ارفقي، فإن الله إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم على باب الرفق) .

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب، عن عطاء بن يسار مرسلا، وقال العراقي: رواه أحمد من حديث عائشة، وفيه انقطاع وصله أبو داود مقتصرا على قوله: يا عائشة ارفقي، (وقال صلى الله عليه وسلم: من يحرم) من الحرمان، وهو متعد إلى مفعولين؛ الأول الضمير العائد إلى من، والثاني: (الرفق) ، وال فيه لتعريف الحقيقة (يحرم الخير كله) بالبناء للمجهول أي صار محروما من الخير، ولامه للعهد الذهني، وهو الخير الحاصل من الرفق .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث جرير دون قوله: كله، فهي [ ص: 47 ] عند أبي داود. ا ه .

قلت: ورواه أيضا الطيالسي، وأحمد، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، وهو عند العسكري في الأمثال من طريق عبد الرحمن بن هلال، عن جرير كلفظ أبي داود، ورواه الطبراني في الكبير في أثناء حديث: ومن يحرم الرفق يحرم الخير، ورواه مسلم بإسناد آخر بلفظ: من حرم الرفق حرم الخير، (وقال صلى الله عليه وسلم: أيما وال ولي) على قوم (فلان) لهم، أي: لاطفهن بالقول والفعل (ورفق) بهم، وساسهم بلطف (رفق الله به يوم القيامة) في الحساب، والعقاب، ومن عومل بالرفق في ذلك المقام، فهو من السعداء بلا كلام .

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب من حديث عائشة، وقال العراقي: رواه مسلم من حديث عائشة في حديث فيه: ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به.

قلت: وروى ابن أبي الدنيا أيضا في ذم الغضب من حديثها: من رفق بأمتي رفق الله به، ومن شق على أمتي شق الله عليه، (وقال صلى الله عليه وسلم: تدرون من يحرم على النار؟ كل هين لين سهل قريب) .

قال العراقي: رواه الترمذي من حديث ابن مسعود، وقد تقدم في آداب الصحبة .

قلت: ورواه كذلك الطبراني، ولفظهما: ألا أخبركم من تحرم عليه النار هذا؟ على كل هين لين قريب سهل، وقد رواه كذلك أبو يعلى من حديث جابر، ورواه ابن النجار من حديث أبي هريرة بلفظ: يحرم على النار... إلخ .

(وقال صلى الله عليه وسلم: الرفق يمن) ، أي: بركة (والخرق) بالضم (شؤم) .

قال العراقي: رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن مسعود، والبيهقي في الشعب من حديث عائشة، وكلاهما ضعيف. ا ه .

قلت: في إسناد الطبراني المعلى بن عرفان، وهو متروك، وقد رواه العسكري، وعده من الأمثال والحكم، وفي رواية: والرغب شؤم، وهو الشره والنهم، والحرص على الدنيا، (وقال صلى الله عليه وسلم: التأني من الله، والعجلة من الشيطان) .

قال العراقي: رواه أبو يعلى من حديث أنس، والترمذي، وحسنه من حديث سهل بن سعد بلفظ: الأناة من الله، وقد تقدم، (وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إن الله قد بارك لجميع المسلمين فيك) ، فاخصصني منك بخير، فقال: الحمد لله مرتين، أو ثلاثا، ثم أقبل عليه، فقال: هل أنت مستوص؟ مرتين، أو ثلاثا، فقال: نعم، قال: إذا أردت أمرا، فتدبر عاقبته بأن تتفكر، وتتأمل ما يصلحه، ويفسده، وتدقق النظر في عواقبه (فإن كان رشدا) ، أي: غير منهي عنه شرعا، وفي رواية أخرى: خيرا (فأمضه) ، أي: فافعله، وفي رواية: فوحه من الوحا، وهو السرعة، أي: التسرع إليه، (وإن كان سوى ذلك، فانته) ، أي: كف عنه، ولا تأته .

قال العراقي: رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق من حديث أبي جعفر مرسلا، وأبو جعفر هذا اسمه عبد الله بن مسور الهاشمي، ضعيف جدا، ولأبي نعيم في كتاب الإيجاز من رواية إسماعيل الأنصاري، عن أبيه، عن جده: إذا هممت بأمر فاجلس، فتدبر عاقبته، وإسناده ضعيف. ا ه .

قلت: ومن طريق ابن المبارك أخرجه في ذم الغضب، وأبو جعفر المذكور، وهو عبد الله بن مسور بن عوف بن جعفر بن أبي طالب، قال الذهبي في المغني: قال أحمد، وغيره: أحاديثه موضوعة، وقال النسائي والدارقطني: متروك، ومما يشهد له ما رواه رجل من بلى، قال: انطلقت مع أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فناجاه أبي دوني، فقلت لأبي: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي: إذا أردت أمرا، فعليك بالتؤدة حتى يريك الله منه المخرج.

رواه الطيالسي في المسند، والبخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا في ذم الغضب، والخرائطي في مكارم الأخلاق، والبيهقي في الشعب، فهذا شاهد جيد، وهو حسن .



(تنبيه)

قال أبو القاسم الراغب: يحتاج الرأي إلى أربعة أشياء: اثنان من جهة الزمان في التقديم، والتأخير; أحدهما: أن يعيد النظر فيما يرقبه، ولا يعجل إمضاءه، فقد قيل: إياك والرأي الفطير، وأكثر من يستعجل في ذلك ذوو النفوس الشهمة، والأمزجة الحارة، والثاني: أن لا يدافع بعد إحكامه، فقد قيل: أحزم الناس من إذا وضح له الأمر صدع فيه، وأكثر من يدافع ذلك ذوو الأنفس المهينة، والأمزجة الباردة، واثنان من جهة الناس; أحدهما: ترك الاستبداد بالرأي، فإن الاستبداد به من فعل المعجب بنفسه، وقد قيل: الأحمق من قطعه العجب بنفسه عن الاستشارة، والاستبداد عن الاستخارة، والثاني: أن يتخير من تحسن مشاورته، [ ص: 48 ]

فما كل ذي نصح بمؤتيك نصحه ولا كل مؤت نصحه بلبيب ولكن إذا ما استجمعا عند صاحب
فحق له من طاعة بنصيب

ومن دخل في أمر بعد الاحتراز من هذه الأربعة أحكم تدبيره، فإن لم ينجح عمله لم تلحقه مذمة .




الخدمات العلمية