الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ثم ذكر الناظم أشياء من فضل العزلة عن الناس فقال :

مطلب : في فضل العزلة عن الناس وأنها موجبة لسلامة الدين : وفي خلوة الإنسان بالعلم أنسه ويسلم دين المرء عند التوحد ( وفي خلوة ) أي انفراد ( الإنسان ) عن الناس وأحوالهم وشئونهم ( ب ) مطالعة كتب ( العلم ) من التفسير والحديث والفقه وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والتفهم في ذلك ، وتتبع أيامه صلى الله عليه وسلم وأحواله وشئونه " والتأدب بآدابه .

والتخلق بما أمكنه من أخلاقه ، وذكر غزواته وسراياه ومكاتباته ، والوفود الذين كانوا يفدون عليه من أقطار الأرض [ ص: 461 ] ومطالعة كتب الرقائق والوعظ وذم الدنيا والاحتفال بها والرضا عن النفس ، ومطالعة اللغة العربية وكتب النحو وما يحتاج إليه من الآلات ، فمطالعة المرء لهذه العلوم والخلوة بها ( أنسه ) في خلوته ووحدته . قال في القاموس : والأنس بالضم وبالتحريك والأنسة محركة ضد الوحشة ، وقد أنس به بتثليث النون وآنسه ضد أوحشه ، وآنس الشيء أبصره .

فإذا كان الإنسان قد منحه الله تعالى طرفا صالحا من العلوم وانفرد بها عن أبناء زمانه في خلوته لم يستوحش أبدا . كيف وهو يمر على أخبار الأوائل وأيامهم ، ويطلع على شئونهم وأحوالهم ، ويظهر على أفعالهم وكلامهم ، ونثرهم ونظامهم ، وكرمهم وقتالهم ، وهممهم ونكالهم ، وإقدامهم وإحجامهم ، وإحلالهم وإبرامهم ، وكفرهم وإسلامهم ، وأديانهم وأصنامهم ، وحلم الرسل وعزمهم ، وسعة أخلاقهم وحزمهم ، وعفوهم وصبرهم ، وتضرعهم إلى الحق وذكرهم ، حتى إذا انتهيت إلى سيرة الخاتم للرسالة والقامع للكفر والضلالة ، كنت كأنك بين أظهر الصحابة الكرام الذين قشع الله بهم الكفر وأباده ، ونصر بهم نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك أضداده ، فتارة تفرح وأخرى تبكي ، ورأيت وقعاتهم واحدة تشرح وأخرى تنكي فمن كان في خلوته بهذه المثابة ، كيف لا تفارقه الوحشة والكآبة ، ويصحبه الأنس والسرور والمهابة ، مع ما يطلع عليه من معرفة الأحكام الشرعية ، والأخبار النبوية ، وسير الملوك والدول ، وأخبار الأحبار والأول ، والشرائع والملل ، والمقالات والنحل ، وأهل التقوى والخشوع ، والطاعة والخضوع ، والظلمة والجبابرة ، والأكاسرة والقياصرة ، فكل هذا يأنس به في خلوته ، ويسكن إليه في وحدته ( ويسلم دين المرء ) المختلي من شائبة الرياء ومقارفة الأذى ( عند التوحد ) والانفراد ، والعزلة عن العباد .

ومن سلم دينه فقد حصل على غاية المراد ، وسعد كل الإسعاد .

ولا يخفى عليك أن الخلوة عن الخلق إنما تمدح لمن أتقن أمر دينه ، وعلم من العلوم ما يتعين عليه علمه ، وعرف الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور ، وما يجب لله ويجوز ، وما يستحيل في حقه جل شأنه وتعالى سلطانه ، وكذا الرسل عليهم الصلاة والسلام . وهذا مفهوم من [ ص: 462 ] فحوى كلام الناظم حيث إنه جعل هذا المختلي قد أنس بما معه من العلوم والمعارف ، والأذكار والوظائف ، وهذا لا بد منه قبل الخلوة ليعبد الله على علم والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية