الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : مقام العبودية أشرف المقامات .

فأرشد الناظم رحمه الله تعالى أن الإنسان إذا خالط فلتكن خلطته لموفق من الله سبحانه لما فيه سعادته ونجاته ، وأن يكون ذلك الموفق ( من العلما ) جمع عالم وهو المتصف بالعلوم الشرعية وقصره لضرورة الوزن ، وذلك لأجل استفادته معرفة الأحكام ، من الحلال والحرام ، وإصلاح دينه ، ورسوخه وتمكينه ( أهل التقى ) صفة لازمة أو كاللازمة للعلماء ( و ) أهل ( التعبد ) والخضوع ، والذل والخشوع ، ورفع الأيدي وسفح الدموع [ ص: 473 ] بين يدي عالم السر والنجوى ، وكاشف الضر والبلوى .

وهذه من صفات علماء الآخرة الذين علومهم زاخرة ، ونفوسهم طاهرة ، ومقام العبودية اختاره المصطفى صلى الله عليه وسلم لنفسه على مقام الملك وهو مقام عظيم ، وصف الله سبحانه نبيه به في أشرف مقاماته كمقام التنزيل في قوله { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } ومقام الدعوة في قوله { وأنه لما قام عبد الله يدعوه } وفي مقام التحدي في قوله { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } . وفي مقام الإسراء في قوله { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } .

{ وقام بين يديه صلى الله عليه وسلم رجل يوم الفتح فارتعد فقال له هون عليك إني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد } . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله } .

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال { جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك مهول ، فقال جبريل إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة ، فلما نزل قال يا محمد أرسلنا إليك ربك أملكا نبيا يجعلك أم عبدا رسولا ؟ قال جبريل : فتواضع لربك يا محمد ، قال بل عبدا رسولا } .

ومن مراسيل يحيى بن أبي كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد ، فإنما أنا عبد } خرجه ابن سعد في طبقاته .

وخرج أيضا من رواية أبي معشر عن المقبري عن عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتاني ملك فقال إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت نبيا ملكا ، وإن شئت نبيا عبدا فأشار إلي جبريل عليه السلام ضع نفسك فقلت نبيا عبدا . قالت فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئا ويقول : آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد } . [ ص: 474 ] قلت : ورواه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنه ما ولفظه { أن الله تبارك وتعالى أرسل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة ومعه جبريل ، فقال الملك إن الله تبارك وتعالى يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا وبين أن تكون ملكا ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير ، فأشار جبريل بيده أن تواضع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بل أكون عبدا نبيا . فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا } .

ومن مراسيل الزهري قال { بلغنا أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك لم يأته قبلها ومعه جبريل ، فقال الملك وجبريل صامت إن ربك يخيرك بين أن تكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا ، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستأمر ، فأشار إليه أن تواضع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نبيا عبدا } قال الزهري : فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل منذ قالها متكئا . وتقدم بعض ذلك في آداب الأكل والكلام عليه بما فيه غنية .

وما رواه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها وقولها له { يا نبي الله لو أكلت وأنت متكئ كان أهون عليك ، فأصغى بجبهته إلى الأرض حتى كاد يمس بها الأرض وقال بل آكل كما يأكل العبد وأنا جالس كما يجلس العبد فإنما أنا عبد } .

قال بعض العارفين : من ادعى العبودية وله مراد باق فهو كاذب في دعواه ، إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته وقام بمراد سيده يكون اسمه ما يسمى به ونعته ما حلي به ، إذا دعي باسمه أجاب عن العبودية ، فلا اسم له ولا رسم ولا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده ، وأنشأ يقول :

يا عمرو ثاري عند زهراء يعرفه السامع والرائي     لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أصدق أسمائي

وقال آخر :

مالي وللفقر إلى عاجز     مثلي لا يملك إغنائي
وإنما يحسن فقري إلى     مالك إسعادي وإشقائي
أتيه عجبا بانتمائي إلى     أبوابه إذ قلت مولائي
لا تدعني إلا بيا عبده     فإنه أشرف أسمائي

[ ص: 475 ] وما أحسن قول القاضي عياض في مثل هذا :

ومما زادني عجبا وتيها     وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي     وأن صيرت أحمد لي نبيا

( تنبيهان ) : ( الأول ) : رأيت في بعض نسخ القصيدة من العلماء أهل التقى والتسدد بدل التعبد ، ومعناه كما مر سابقا التقويم والإصابة ، يقال سدده تسديدا قومه ووفقه للسداد أي الصواب من القول والعمل ، وأما سداد القارورة والثغر فبالكسر فقط والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية