الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان ما يحبط العمل من الرياء الخفي والجلي وما لا يحبط .

فنقول فيه : إذا عقد العبد العبادة على الإخلاص ، ثم ورد عليه وارد الرياء ، فلا يخلو إما أن يرد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ فإن ورد بعد الفراغ سرور مجرد بالظهور من غير إظهار فهذا لا يفسد العمل ، إذ العمل قد تم على نعت الإخلاص ، سالما عن الرياء ، فما يطرأ بعده فنرجو أن لا ينعطف عليه أثره لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به ولم يتمن إظهاره وذكره ولكن اتفق ظهوره بإظهار الله ، ولم يكن منه إلا ما دخل من السرور والارتياح على قلبه .

نعم ، لو تم العمل على الإخلاص من غير عقد رياء ، ولكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار ، فتحدث به ، فهذا مخوف .

وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه محبط فقد روي عن ابن مسعود « أنه سمع رجلا يقول : قرأت البارحة البقرة فقال : ذلك حظه منها .

». وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له : صمت الدهر يا رسول الله ، فقال له : ما صمت ولا أفطرت .

فقال بعضهم : إنما قال ذلك لأنه أظهره وقيل : هو إشارة إلى كراهة صوم الدهر .

وكيفما كان فيحتمل أن يكون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ابن مسعود استدلالا على أن قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد الرياء وقصده له لما أن ظهر منه التحدث به ؛ إذ يبعد أن يكون ما يطرأ بعد العمل مبطلا لثواب العمل بل الأقيس . أن يقال : إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب ، على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها .

، بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ من الصلاة ، فإن ذلك قد يبطل الصلاة ، ويحبط العمل. .

وأما إذا ورد وارد الرياء قبل الفراغ من الصلاة مثلا ، وكان قد عقد على الإخلاص ، ولكن ورد في أثنائها وارد الرياء فلا يخلو إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العمل ، وإما أن يكون رياء باعثا على العمل ، فإن كان باعثا على العمل وختم العبادة به حبط أجره .

ومثاله : أن يكون في تطوع فتجددت ، له نظارة أو حضر ملك من الملوك وهو يشتهي أن ينظر إليه أو يذكر شيئا نسيه من ماله وهو يريد أن يطلبه ، ولولا الناس لقطع الصلاة ، فاستتمها خوفا من مذمة الناس ، فقد حبط أجره ، وعليه الإعادة إن كان في فريضة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله أي: النظر إلى خاتمته، وروي « أنه » : « من راءى بعمله ساعة حبط عمله الذي كان قبله .

وهذا » منزل على الصلاة في هذه الصورة لا على الصدقة ، ولا على القراءة ؛ فإن كل جزء من ذلك مفرد فما يطرأ يفسد الباقي دون الماضي ، والصوم والحج من قبيل الصلاة .

وأما إذا كان واراد الرياء بحيث لا يمنعه من قصد الإتمام لأجل الثواب كما لو حضر جماعة في أثناء الصلاة ففرح بحضورهم وعقد الرياء وقصد تحسين الصلاة لأجل نظرهم وكان لولا حضورهم لكان يتمها أيضا ، فهذا رياء قد أثر في العمل ، وانتهض باعثا على الحركات ، فإن غلب حتى انمحق معه الإحساس بقصد العبادة والثواب ، وصار قصد العبادة مغمورا فهذا أيضا ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانها على هذا الوجه ؛ لأنا نكتفي بالنية السابقة عند الإحرام ، بشرط أن لا يطرأ عليها ما يغلبها ويغمرها ويحتمل أن يقال : لا يفسد العبادة ؛ نظرا إلى حالة العقد ، وإلى بقاء قصد أصل الثواب وإن ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه .

ولقد ذهب الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى إلى الإحباط في أمر هو أهون من هذا وقال : إذا لم يرد إلا مجرد السرور باطلاع الناس ، يعني سرورا هو كحب المنزلة والجاه ، قال : قد اختلف الناس في هذا ، فصارت فرقة إلى أنه محبط ؛ لأنه نقض العزم الأول ، وركن إلى حمد المخلوقين ، ولم يختم عمله بالإخلاص ، وإنما يتم العمل بخاتمته .

التالي السابق


(بيان ما يحبط العمل من الرياء الخفي والجلي وما لا يحبطه) *

(فنقول: إذا عقد) العبد (العبادة على الإخلاص، ثم ورد عليه وارد الرياء، فلا يخلو إما أن يكون ورد عليه [ ص: 285 ] بعد فراغه من العمل أو قبل فراغه) منه .

(فإن ورد) عليه (بعد الفراغ سرور مجرد بالظهور من غير إظهار) منه (فهذا لا يحبط العمل، إذ العمل قد تم على نعت الإخلاص، سالما عن) شوب (الرياء، فما يطرأ بعده فنرجو أن لا ينعطف عليه أثره) هكذا ذهب إليه جماعة من العارفين (لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به) للناس (ولم يتمن إظهاره وذكره) بين الناس (ولكنه اتفق ظهوره بإظهار الله إياه، ولم يكن منه إلا ما دخل من السرور والارتياح على قلبه .

نعم، لو تم العمل على الإخلاص من غير عقد رياء، ولكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار، فتحدث به وأظهره، فهذا مخوف، وفي الأخبار والآثار) بظواهرها (ما يدل على أنه محبط) لذلك العمل (فقد روي عن ابن مسعود) رضي الله عنه ("أنه سمع رجلا يقول: قرأت البارحة سورة البقرة، قال: ذلك حظك منها" .

وروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أنه قال لرجل قال له: صمت الدهر، فقال له: ما صمت ولا أفطرت") .

قال العراقي: روى مسلم من حديث أبي قتادة قال عمر: "يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر؟ قال: لا صام ولا أفطر".

وللطبراني من حديث أسماء بنت يزيد في أثناء حديث، فيه: "فقال رجل: إني صائم، قال بعض القوم: إنه لا يفطر، إنه يصوم كل يوم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا صام ولا أفطر من صام الدهر" ولم أجده بلفظ الخطاب. اهـ .

قلت: بل رواه ابن وهب في مسنده، عن سليمان بن بلال، عن موسى بن عبيدة، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أن رجلا قال: يا رسول الله ما أفطرت منذ أربع سنين، فقال: ما صمت ولا أفطرت" وكذلك رواه ابن المبارك في الزهد، وفي إسناده إرسال وضعف .

(فقال بعضهم: إنما قال ذلك لأنه أظهره) وهكذا روي عن موسى بن عبيدة أحد رواة هذا الحديث قال: وذلك لأنه حدث به فيما ترى، كذا في مسند ابن وهب. وعند ابن المبارك: قال أبو سلمة: لأنه تحدث به .

(وقيل: هو إشارة إلى كراهية صوم الدهر، وكيفما كان فيحتمل أن يكون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم) في هذا القول (ومن ابن مسعود) رضي الله عنه في قوله السابق (استدلالا على أن قلبه عند العبادة لم يخل عن الرياء وقصده لما أن ظهر منه التحدث به؛ إذ يبعد أن يكون ما يطرأ على العمل مبطلا لثواب العمل .

فالأقيس) من القولين (أن يقال: إنه يثاب على عمله الذي قد مضى، ومعاتب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منه، بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ من الصلاة، فإن ذلك قد يبطل الصلاة، ويحبط العمل .

وأما إذا أورد الرياء قبل الفراغ من الصلاة مثلا، وكان قد عقد على الإخلاص، ولكن ورد في أثنائها وارد الرياء فلا يخلو إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العمل، وإما أن يكون رياء باعثا على العمل، فإن كان باعثا على العمل وختم العبادة به حبط أجره) لأنه قد تخلل عقد ما أثر فيه فهو أحرى أن يوصف بالانحلال .

(ومثاله: أن يكون في تطوع، فتجردت له نظارة) بالتشديد، كلمة يستعملها العجم بمعنى التنزه في الرياض والبساتين، كذا في المصباح (أو حضر ملك من الملوك) بموكبه وحشمه (وهو يشتهي أن ينظر إليه) أو إلى موكبه (أو تذكر شيئا نسيه من ماله) في موضع أو عند أحد (وهو يريد أن يطلبه، ولولا الناس لقطع الصلاة، فاستتمها خوفا من مذمة الناس، فقد حبط أجره، وعليه الإعادة إن كان في فريضة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله") قال العراقي: رواه ابن ماجه من حديث معاوية بن أبي سفيان بلفظ: "إذا طاب أسفله طاب أعلاه" وقد تقدم. اهـ .

[ ص: 286 ] قلت: ولفظه: "إنما الأعمال كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه".

وهكذا رواه أحمد أيضا، وعند ابن المبارك في الزهد بلفظ: "إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة، وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خبث أعلاه خبث أسفله" ورواه أبو نعيم في الحلية، وقد تقدم الكلام عليه .

(أي: النظر إلى خاتمته، وروي) أيضا ("من راءى بعمله ساعة حبط عمله الذي كان قبله") قال العراقي: لم أجده بهذا اللفظ .

قلت: روى الطبراني وأبو الشيخ وابن عساكر من حديث أبي هند الداري: "من راءى بالله بغير الله فقد برئ من الله".

(وهو منزل على الصلاة في هذه الصورة لا على الصدقة، ولا على القراءة؛ فإن كل جزء من ذلك) وفي نسخة: منها (منفرد) بذاته (فما يطرأ) بعد (يفسد الباقي دون الماضي، والصوم والحج من قبيل الصلاة) لاتصال العمل فيهما كالصلاة .

(فأما إذا كان وارد الرياء بحيث لا يمنعه من قصد الاستتمام لأجل الثواب كما لو حضر جماعة في أثناء صلاته ففرح بحضورهم) باطنا (واعتقد الرياء وقصد تحسين الصلاة لأجل نظرهم) إليه (وكان لولا حضورهم لكان يتمها أيضا، فهذا رياء قد أثر في العمل، وانتهض باعثا على الحركات، فإن غلب حتى انمحق معه الإحساس بقصد العبادة والثواب، وصار قصد العبادة مغمورا) قد غمره قصد الرياء (فهذا أيضا ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانها على هذا الوجه؛ لأنا نكتفي بالنية السابقة عند الإحرام بها، بشرط أن لا يطرأ عليها ما يغلبها ويغمرها) وقد طرأ عليها ما يغمرها ففات الشرط .

(ويحتمل أن يقال: لا تفسد العبادة؛ نظرا إلى حالة العقد، وإلى بقاء أصل الثواب وإن ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه) وبعض الفقهاء قد قوى هذا الاحتمال، وبه كان يفتي شيخنا الفقيه الشريف أبو الحسن المقدسي رحمه الله تعالى .

(ولقد ذهب) الإمام العارف (الحارث) بن أسد (المحاسبي) رحمه الله تعالى في كتابه الرعاية (إلى الإحباط في أمر هو أهون من ذلك، فقال: إذا لم يرد إلا مجرد السرور باطلاع الناس، يعني) به (سرورا هو كحب المنزلة والجاه، قال: قد اختلف الناس في هذا، فصارت فرقة إلى أنه يحبط؛ لأنه قد نقض العزم الأول، وركن إلى حمد المخلوقين، ولم يختم عليه بالإخلاص، وإنما يتم العمل بخاتمته) كما دل عليه الخبر: "إنما الأعمال بالخواتيم" .




الخدمات العلمية