الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثالث عشر: أن طوائف يفرقون بين كونه معقولا، وكونه محسوسا، حتى يقول النفاة منهم: لا يعلم إلا بإشارة العقل، وقد يقولون: إنه من قسم الحقائق المعقولة دون المحسوسة ونحو ذلك، فيقال: هذا اللفظ فيه إجمال وإيهام. فإن أرادوا أنه في الدنيا لا يعرف إلا بالقلب، لا يشهد بالبصر الظاهر وغيره من الحواس فهذا حق، لكن ما يعرفه القلب، ويشهده القلب، ويحسه القلب، ونحو ذلك أعم من أن يكون معقولا محضا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت» وقد اتفق [ ص: 228 ] على ذلك سلف الأمة وأئمتها، ولم يتنازعوا إلا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإن نازع في غيره بعض من لم يعرف السنة، ومذهب الجماعة من بعض المتكلمة وجهال المتصوفة ونحوهم.

وإن أراد أنه لا يرى في الدنيا والآخرة، أو لا يمكن رؤيته، فهذا مذهب الجهمية والمعتزلة في ذلك معروف، وقد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمتها، بل وبصرائح العقل - بطلان هذا المذهب.

وإن أراد أنه من باب ما يعقله القلب من الأمور المعقولة، التي لا يصح أن تكون محسوسة، فيقال له: المعقولات المحضة هي الأمور الكلية، فإن الإنسان إذا أحس بباطنه أو بظاهره بعض الأمور، كإحساسه بجوعه وعطشه، ورضاه، وغضبه، وفرحه، وحزنه، ولذته وألمه وبما يراه بعينه ويسمعه [ ص: 229 ] بأذنه، فتلك الأمور معينة موجودة، فالعقل يأخذ منها أمرا مطلقا كليا فيعلم جوعا مطلقا، وفرحا مطلقا، وشما مطلقا، وألما مطلقا ونحو ذلك، فهذه الكليات معقولات محضة، لأنه ليس في الخارج كليات مطلقة حتى يمكن إحساسها، والإحساس إنما يكون بالأمور الموجودة، ولهذا قالوا: إنه يعلم المعدومات قبل كونها علما عاما، أما السمع والبصر فإنما يكون للموجود. ومن قال إنه يرى... وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع.

وإذا كان كذلك فمن أراد هذا المعنى جعله من باب الموجودات في الأذهان لا في الأعيان، وهذا حقيقة قول الجهمية الذين يقولون: إنه لا يمكن رؤيته وإحساسه; فإن كل موجود قائم بنفسه يمكن رؤيته; بل كل موجود يمكن إحساسه إما بالرؤية وإما بغيرها، فما لا يعرف بشيء من الحواس لم يكن إلا معدوما، حتى أن الصور الذهنية يمكن إحساسها من حيث وجود ذواتها، ولكن هي من جهة مطابقتها [ ص: 230 ] للمعدومات كلية، والمطابقة صفة لها إضافية. فهذه معان ينبغي أن يفطن لها.

التالي السابق


الخدمات العلمية