الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين يكفرون بالله ورسله أي: على ما يؤدي إليه مذهبهم، وتقتضيه آراؤهم، لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى: ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله في الإيمان، بأن يؤمنوا به - عز وجل - ويكفروا برسله - عليهم الصلاة والسلام - لكن لا يصرحون بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة، بل بطريق الالتزام، كما يحيكه قوله تعالى: ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض أي: نؤمن ببعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ونكفر ببعضهم، كما فعل أهل الكتاب، وما ذلك إلا كفر بالله تعالى وتفريق بين الله تعالى ورسله؛ لأنه عز وجل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وما من نبي إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا، من حيث لا يشعر ويريدون بهذا القول أن يتخذوا بين ذلك أي الإيمان والكفر سبيلا أي: طريقا يسلكونه، مع أنه لا واسطة بينهما قطعا، إذ الحق لا يختلف (وماذا بعد الحق إلا الضلال)؟!

                                                                                                                                                                                                                                      هذا ما ذهب إليه البعض في تفسير الآية، وهو الذي تؤيده الآثار:

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة أنه قال فيها: «أولئك أعداء الله تعالى اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة وموسى ، وكفروا بالإنجيل وعيسى - عليه السلام - وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى - عليه السلام - وكفروا بالقرآن ومحمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان، ليستا من الله - عز وجل - وتركوا الإسلام، وهو دين الله تعالى الذي بعث به رسله.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن السدي ، وابن جريج ، مثله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: الذين يكفرون بالله تعالى ورسله - عليهم الصلاة والسلام - هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع، فنفوا الصانع - مثلا - وأنكروا النبوات، والذين يفرقون بينه تعالى وبين رسله - عليهم الصلاة والسلام - هم الذين آمنوا بالله تعالى وكفروا برسله - عليهم الصلاة والسلام – لا عكسه، وإن قيل: إنه يتصور في النصارى لإيمانهم بعيسى - عليه السلام - وكفرهم بالله تعالى حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة، والكفر بالله سبحانه شامل للشرك والإنكار، إذ لا يخفى ما فيه، والذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء - عليهم السلام - وكفروا ببعضهم كاليهود ، فهذه أقسام متقابلة، كان الظاهر عطفها بـ(أو) لكن أتي بالواو بدلها فهي بمعناها، وقيل: إن الموصول مقدر بناء على جواز حذفه مع بقاء صلته، وقيل: إن قوله تعالى: (ويريدون أن يفرقوا) إلخ، عطف تفسيري على قوله سبحانه: (يكفرون) لأن هذه الإرادة عين الكفر بالله تعالى؛ لأن من كفر برسل الله سبحانه فقد كفر بالله تعالى كالبراهمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله جل وعلا: (ويقولون نؤمن ببعض) إلخ، فعطف على صلة الموصول، والواو بمعنى أو التنويعية، فالأولون [ ص: 5 ] فرقوا بين الإيمان بالله تعالى ورسوله، والآخرون فرقوا بين رسل الله تعالى - عليهم السلام - فآمنوا ببعض وكفروا ببعض كاليهود ، وعلى كل تقدير فخبر (إن) قوله تعالى أولئك أي الموصوفون بالصفات القبيحة هم الكافرون الكاملون في الكفر، لا عبرة بما يدعونه ويسمونه إيمانا أصلا حقا مصدر مؤكد لغيره، وعامله محذوف، أي: حق ذلك، أي كونهم كاملين في الكفر حقا، وجوز أن يكون صفة لمصدر الكافرين، أي: هم الذين كفروا كفرا حقا أي: لا شك فيه ولا ريب، فالعامل مذكور و(حقا) بمعنى اسم المفعول، وليس بمعنى مقابل الباطل، ولهذا صح وقوعه صفة صناعة ومعنى، واحتمال الحالية - كما زعم أبو البقاء – بعيد، والآية على ما زعمه البعض متعلقة بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) إلخ، على أنها كالتعليل له، وما توسط بين العلة والمعلول من الجمل والآيات إما معترض أو مستطرد عند إمعان النظر وأعتدنا للكافرين أي: لهم، ووضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصف الكفر الشنيع المؤذن بالعلية، وقد يراد جميع الكفار، وهم داخلون دخولا أوليا.

                                                                                                                                                                                                                                      عذابا مهينا يهينهم ويذلهم جزاء كفرهم الذي ظنوا به العزة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية