الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذه الحجة ضعيفة ، ولعلها أضعف مما ضعفوه فإن لقائل أن يبطلها من وجوه كثيرة :

أحدها : أن يقال : القول في أفعاله القائمة به الحادثة بمشيئته وقدرته ، كالقول في أفعاله التي هي المفعولات المنفصلة التي يحدثها بمشيئته وقدرته . فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال ، فقالوا : الفعل إن كان صفة كمال لزم عدم الكمال له في الأزل ، وإن كان صفة نقص لزم اتصافه بالنقائص . فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال .

وهذا كما أن من حجج النفاة أنه لو كان قابلا لقيام الحادث به لكان القبول من لوازم ذاته ، ووجود المقبول في الأزل محال . [ ص: 4 ]

فأجيبوا بأنه لا فرق بين حدوث ما يقوم به أو بغيره .

فإذا قيل : لو كان قادرا على فعل الحوادث لكان ذلك من لوازم ذاته ، وذلك في الأزل محال ، فما كان جوابا عن هذا كان جوابا عن هذا .

وقد أورد الرازي على ذلك في بعض كتبه أن القادر يتقدم المقدور ، والقابل لا يجب أن يتقدم المقبول ، وهذا فرق في غاية الضعف لوجوه :

أحدها : أن الكلام إنما هو في مقبول مقدور ، لا في مقبول غير مقدور . فإن ما كان حادثا فالرب قادر عليه ، وهو قادر على أفعاله القائمة به ، كما هو قادر على مفعولاته المنفصلة .

قال تعالى : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [سورة القيامة : 40] وقال تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم الآية [سورة الأنعام : 65] وقال تعالى : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [سورة يس : 81] وقال تعالى : وهو على جمعهم إذا يشاء قدير [سورة الشورى : 29] ، فبين أنه قادر على الإحياء والبعث ، والخلق والجمع ، وهذه أفعال . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود البدري لما [ ص: 5 ]

رآه يضرب عبدا له : "لله أقدر عليك منك عليه" فتعين أنه قادر عليه نفسه
.

والمقصود هنا أن الكلام إنما هو في الحوادث التي هي مقدورة ، ليس في كل مقبول . فإذا كان المقدور لا يوجد في الأزل امتنع وجود الحوادث كذلك ، فلا يصح أن يفرق بين مقبول مقدور ومقبول غير مقدور ، إذ كلاهما مقدور .

الوجه الثاني : أن يقال : إما أن يكون وجود الحادث في الأزل ممكنا ، وإما أن يكون ممتنعا . فإن كان ممكنا أمكن وجود المقدور في الأزل ، وإن كان ممتنعا امتنع وجوده مقبولا ومقدورا .

الثالث : أن يقال : إثبات المقدور حال امتناع المقدور جمع بين المتناقضين ، فلا يعقل إثبات القدرة في حال امتناع المقدور ، بل في حال إمكانه . ولهذا أنكر المسلمون وغيرهم على من قال من أهل الكلام : إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل . وقالوا هذا جمع بين المتناقضين . وقالوا : إنه يستلزم انتقال المقدور من الإمكان إلى الامتناع ، بدون سبب يوجب هذا الانتقال ، ويوجب أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن قادرا بدون سبب يوجب ذلك . وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع . [ ص: 6 ]

الوجه الثاني : أن يقال : كونه بحيث يتكلم ويفعل ما يشاء صفة كمال ، وهو لم يزل متصفا بذلك ، وأما الشيء المعين فحدوثه لا نقص ولا كمال .

الوجه الثالث : أن يقال : ما تعني بقولك عدم ذلك نقص ؟ أتعني به أن ذاته ناقصة ، وأنها ليست متصفة بصفات الكمال الواجبة لها ؟ أم تعني به عدم ما سيوجد لها ؟ أما الأول فباطل ، وأما الثاني فلم قلت : إن هذا ممتنع ؟

الوجه الرابع : أن يقال : أنتم قلتم ما ذكره أبو المعالي والرازي وغيرهما ، من أن تنزيهه عن النقائص إنما علم بالسمع لا بالعقل . فإذا قلتم : إنه ليس في العقل ما ينفي ذلك ، لم يبق نفي ذلك إلا بالسمع ، الذي هو الإجماع عندكم . ومعلوم أن السمع الذي هو الإجماع ، والإجماع وغيره لم ينف هذه الأمور ، وإنما نفى ما يناقض صفات الكمال ، كالموت المنافي للحياة ، والسنة والنوم المنافي للقيومية ، واللغوب المنافي لكمال القدرة .

ولهذا كان الصواب أن الله منزه عن النقائص شرعا وعقلا . فإن [ ص: 7 ]

العقل كما دل على اتصافه بصفات الكمال ، من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام ، دل أيضا على نفي أضداد هذه . فإن إثبات الشيء يستلزم نفي ضده ، ولا معنى للنقائص إلا ما ينافي صفات الكمال .

وأيضا فكل كمال اتصف به المخلوق - إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما - فالخالق أحق به ، لأنه هو الذي خلقه ، وكل كمال اتصف به موجود ممكن وحادث ، فالموجود الواجب القديم أولى به ، وكل نقص تنزه عنه مخلوق موجود حادث - إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما - فالخالق أولى بتنزيهه عنه .

الوجه الخامس : أن يقال : إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا علم لها ولا قدرة ولا حياة ، ولا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر ، أو لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات ، وذاتا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والكلام والمشيئة ، كان صريح العقل قاضيا بأن المتصفة بهذه الصفات التي هي صفات الكمال ، بل القابلة للاتصاف بها ، أكمل من ذات لا تتصف بهذه ، أو لا تقبل الاتصاف بها . [ ص: 8 ]

ومعلوم بصريح العقل أن الخالق المبدع لجميع الذوات وكمالاتها أحق بكل كمال ، وأحق بالكمال الذي باين به جميع الموجودات ، وهذا الطريق ونحوه مما سلكه أهل الإثبات للصفات .

فيقال : وإذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا فعل لها ولا حركة ، ولا تقدر أن تصعد ولا تنزل ، ولا تأتي ولا تجيء ، ولا تقرب ولا تقبض ولا تطوي ، ولا تحدث شيئا بفعل يقوم بها ، وذاتا تقدر على هذه الأفعال ، وتحدث الأشياء بفعل لها ، كانت هذه الذات أكمل ، فإن تلك كالجماد أو الحي الزمن المجدع ، والحي أكمل من الجماد ، والحي القادر على العمل أكمل من العاجز عنه ، كما أن ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ، كالجماد أو كالأعمى الأصم الأخرس ، والحي أكمل من الجماد ، والحي الذي يسمع ويبصر ويتكلم أكمل من الأصم الأعمى الأخرس .

وإذا كان كذلك ، فإذا أراد نافي الفعل أن ينفيه لئلا يصفه في الأزل بالنقص ، فقال : لو كان فعالا بنفسه لكان الفعل المتأخر [ ص: 9 ]

معدوما في الأزل ، وعدمه صفة نقص ، فكان متصفا بالنقص - كان بمنزلة من يقول : إنه لا يقدر أن يحدث الحوادث ولا يفعل ذلك ، لأنه لو قدر على ذلك وفعله ، لكان إحداثه للحادث الثاني معدوما قبل إحداثه ، وذلك نقص ، فيكون متصفا بالنقص .

فيقال : أنت وصفته بالكمال عن النقص ، حذرا من أن تصفه بما هو عندك نوع نقص ، فإن من لا يفعل قط ، ولا يقدر أن يفعل ، هو أعظم نقصا ممن يقدر على الفعل ويفعله ، والفعل لا يكون إلا حادثا شيئا بعد شيء .

وهذه عادة النفاة ، لا ينفون شيئا من الصفات فرارا من محذور إلا لزمهم في النفي أعظم من ذلك المحذور ، كنفاة الصفات من الباطنية من المتفلسفة وغيرهم ، لما قيل لهم : إذا لم يوصف بالعلم والقدرة والحياة ، لزم أن يتصف بما يقابل ذلك ، كالعجز والجهل والموت .

فقالوا : إنما يلزم ذلك لو كان قابلا للاتصاف بذلك ، فإن المتقابلين تقابل السلب والإيجاب ، كالوجود والعدم ، إذا عدم أحدهما ثبت الآخر . وأما المتقابلان تقابل العدم والملكة ، كالحياة والموت ، والعمى والبصر ، فقد يخلو المحل عنهما ، كالجماد ، فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا . [ ص: 10 ]

فيقال لهم : فررتم عن تشبيهه بالحيوان الناقص الذي لا يسمع ولا يبصر مع إمكان ذلك منه ، فشبهتموه بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا ، فكان ما فررتم إليه شرا مما فررتم منه . ولهذا نظائر مبسوطة في غير هذا الموضع .

والمقصود هنا أن من نفى الأفعال الاختيارية القائمة به ، لئلا يكون قبل وجود الحادث منها ناقصا ، كان قد وصفه بالنقص التام فرارا بزعمه مما يظنه نقصا .

الوجه السادس : أن يقال : الأفعال التي حدثت بعد أن لم تكن ، لم يكن وجودها قبل وجودها كمالا ، ولا عدمها نقصا ، فإن النقص إنما يكون إذا عدم ما يصلح وجوده ، وما به يحصل الكمال ، وما ينبغي وجوده ، ونحو ذلك . والرب تعالى حكيم في أفعاله ، وهو المقدم والمؤخر ، فما قدمه كان الكمال في تقديمه ، وما أخره كان الكمال في تأخيره . كما أن ما خصصه بما خصصه به من الصفات فقد فعله على وجه الحكمة ، وإن لم نعلم نحن تفاصيل ذلك . واعتبر ذلك بما يحدثه من المحدثات .

الوجه السابع : أن يقال : الحوادث يمتنع قدمها ، ويمتنع أن توجد معا ، ولو وجدت معا لم تكن حوادث . ومعلوم أنه إذا دار الأمر بين [ ص: 11 ] إحداث الحوادث وعدم إحداثها ، كان إحداثها أكمل ، ولا يكون إحداثها إلا مع عدم الحادث منها في الأزل .

وإذا كان كذلك صار هذا بمنزلة جعل الشيء موجودا معدوما ، فلا يقال عدم فعل هذا - أو عدم تعلق القدرة به - صفة نقص ، بل النقص عدم القدرة على جعله موجودا ، فإذا كان قادرا على ذلك كان موصوفا بصفة الكمال التي لا يمكن غيرها ، فكذلك المحدث للأمور المتعاقبة ، هو موصوف بالكمال الذي لا يمكن في الحدوث غيره .

الوجه الثامن : أن يقال : لا ريب أن الحوادث مشهودة ، وأن لها محدثا أحدثها ، فالمحدث لها : إما أن يحدثها بفعل اختياري يقوم به ، وإما أن تحدث عنه شيئا بعد شيء من غير فعل يقوم به ولا حدوث شيء منه . ومعلوم أن اتصافه بالأول أولى لو كان الثاني ممكنا . فإن الأول فيه وصفه بصفة الكمال بخلاف الثاني ، فكيف والثاني ممتنع ، لأن حدوث الحوادث من غير سبب حادث ممتنع .

وإذا كان حال الفاعل قبل حدوثها كحاله مع حدوثها وبعد حدوثها ، وهي في الحالين حادثة ، لم يكن الفاعل قد فعل شيئا ولا أحدث شيئا ، بل حدثت بذاتها .

وهذا الدليل قد بسط في غير هذا الموضع ، وبين فساد قول [ ص: 12 ] الفلاسفة الدهرية ، القائلين بأن حركات الأفلاك تصدر عن قديم أزلي لا يحدث منه شيء ، وأن قولهم أفسد من قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام ، فإن هؤلاء الفلاسفة استدلوا على قدم العالم بحجتهم العظمى ، وهو أنه لو حدث بعد أن لم يكن لاحتاج إلى سبب حادث ، والقول في ذلك السبب كالقول فيه ، فيلزم التسلسل ، أو الترجيح بلا مرجح .

فيقال لهم : أنتم تقولون بحدوث الحوادث شيئا بعد شيء ، عن فاعل قائم بنفسه ، لا تقوم به صفة ولا فعل ، ولا يحدث له فعل ولا غير فعل . فقولكم بصدور الحوادث المختلفة الدائمة عمن لا فعل له ولا صفة ولا يحدث منه شيء ، أعظم فسادا من قول من يقول : إنه تارة تصدر عنه الحوادث وتارة لا تصدر ، فإنه إن كان صدور الحوادث عنه من غير حدوث شيء فيه محالا ، فصدورها دائما عنه من غير حدوث شيء فيه أشد إحالة .

الوجه التاسع : أن يقال : أفعال الله تعالى : إما أن يكون لها حكمة هي غايتها المطلوبة ، وإما أن لا يكون . والناس لهم في هذا المقام قولان مشهوران ، أحدهما قول من لا يثبت إلا المشيئة . والثاني قول من يثبت حكمة قائمة بالمخلوق ، أو حكمة قائمة بالخالق . والأقوال الثلاثة معروفة في الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم .

[ ص: 13 ] فإن نفيتم الحكمة جوزتم أن يفعل أفعالا لا يحصل له بها كمال ، فيقال لهم : قولوا في أفعاله القائمة بنفسه الاختيارية ما تقولونه في حدوث المفعولات عنه ، وهو الفعل عندكم .

وإن أثبتم الحكمة ، قيل لكم : الحكمة الحاصلة بالفعل الحادث حادثة بعده فحدوث هذه الحكمة بعد أن لم تكن ، سواء كانت قائمة بنفسه ، أو بغيره ، أهي صفة كمال أم لا ؟

فإن قلتم : صفة كمال ، فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة به .

وإن قلتم : ليست صفة كمال ، فقولوا أيضا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة .

فقد لزمكم في الحكمة ، إن أثبتموها أو نفيتموها ، ما يلزمكم في نفس الفعل سواء بسواء ، وهذا بين واضح .

الوجه العاشر : أن يقول من يثبت الفعل القائم به والحكمة القائمة به : معلوم بصريح العقل أن هذا صفة كمال ، وأن من يكون كذلك أكمل ممن لا يفعل أو يفعل لا لحكمة ، فلم قلتم : إن هذا ممتنع ؟

فإذا قيل : لئلا يلزم الكمال بعد النقص .

قيل لهم : لم قلتم : وجود مثل هذا الكمال ممتنع ؟ [ ص: 14 ] ولفظ "النقص" [لفظ] مجمل كما تقدم . فإن غايته أن يفسر بعدم ما وجد قبل أن يوجد ، فيعود الأمر إلى أن هذا الموجود إذا وجد بعد أن لم يكن ، لزم أن يكون معدوما قبل وجوده .

فيقال : ومن أين علمتم أن وجود هذا بعد عدمه محال ؟ وليس في ذلك افتقار الرب إلى غيره ، ولا استكماله بفعل غيره ، بل هو الحي الفعال لما يشاء ، العليم القدير الحكيم ، الخبير الرحيم الودود ، لا إله إلا هو ، وكل ما سواه فقير إليه ، وهو غني عما سواه ، لا يكمل بغيره ، ولا يحتاج إلى سواه ولا يستعين بغيره في فعل ، ولا يبلغ العباد نفعه فينفعوه ، ولا ضره فيضروه ، بل هو خالق الأسباب والمسببات ، وهو الذي يلهم عبده الدعاء ، ثم يجيبه وييسر عليه العمل ، ثم يثيبه ويلهمه التوبة ، ويحبه ويفرح بتوبته ، وهو الذي استعمل المؤمنين فيما يرضيه ، ورضي عنهم فلم يحتج في فعله لما يحبه ويرضاه إلى سواه ، بل هو الذي خلق حركات العباد التي يحبها ويرضاها ، وهو الذي خلق ما لا يحبه ولا يرضاه من أعمالهم ، لما له في ذلك من الحكمة التي يحبها ويرضاها وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [سورة القصص : 70] ، فلا إله إلا هو : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [سورة الأنبياء : 22] ، إذ كان هو الذي يستحق أن تكون العبادة له ، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل لا منفعة فيه ، [ ص: 15 ] فما لا يكون به لا يكون ، فإنه لا حول ولا قوة إلا به ، وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم . كما قال تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [سورة الفرقان : 23] ، وقال مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء [سورة إبراهيم : 18] ، وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه ، والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوبا .

فإذا كنا إذا أحببنا شيئا لله هو المحبوب في الحقيقة ، وحبنا لذلك بطريق التبع ، وكنا نحب من يحب الله لأنه يحب الله ، فالله تعالى يحب الذين يحبونه ، فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود ، وأن يكون غاية كل حب . كيف وهو سبحانه الذي يحمد نفسه ويثني على نفسه ، ويحب الحمد من خلقه .

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : لا أحد أحب إليه المدح من الله . وقال له الأسود بن سريع : يا رسول [ ص: 16 ] الله إني حمدت ربي بمحامد . فقال : إن ربك يحب الحمد .

وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده : "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك" . وقد روي أنه كان يقول ذلك في آخر الوتر .

فهو المثني على نفسه ، وهو كما أثنى على نفسه ، إذ أفضل خلقه لا يحصي ثناء عليه .

والثناء تكرير المحامد وتثنيتها ، كما في الحدث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي . فإذا قال : الرحمن الرحيم . قال : أثنى علي عبدي . فإذا قال : مالك يوم الدين . قال : مجدني عبدي" .

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال : "ربنا ولك الحمد ، ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد ، لا مانع لما أعطيت ، ولا [ ص: 17 ] معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" . فذكر الحمد والثناء والمجد هنا ، كما ذكره في أول الفاتحة ، فالحمد يتناول جنس المحامد ، والثناء يقتضي تكريرها وتعديدها والزيادة في عددها ، والمجد تعظيمها وتوسيعها والزيادة في قدرها وصفتها .

فهو سبحانه مستحق للحمد والثناء والمجد ، ولا أحد يحسن أن يحمده كما يحمد نفسه ، ولا يثني عليه كما يثني على نفسه ، ولا يمجده كما يمجد نفسه .

كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيح ، لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [سورة الزمر : 67] ، قال : "يقبض الله سماواته بيده ، والأرضون بيده الأخرى ، ثم يمجد نفسه فيقول : أنا الملك ، أنا القدوس ، أنا السلام ، أنا المؤمن ، أنا المهيمن ، أنا العزيز ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا ، أنا الذي أعدتها ، أين الملوك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ أو كما قال . [ ص: 18 ] وفي الحديث الآخر يقول الله تعالى : إني جواد ، ماجد ، واجد ، إنما أمري إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون .

فصل

التالي السابق


الخدمات العلمية